على طاولة مكتب محافظ البنك الاحتياطي الأسترالي فيليب لوي، هناك كوب قهوة عليه عبارة "نصف ممتلئ". يقول لوي، إنَّه متفائل بشأن العام المقبل، كما يفعل الكثير من أقرانه، لكن يتعيّن عليهم جميعاً النجاة في 2021 أولاً.
يبدو مستقبل الاقتصاد العالمي متقلّباً، إلى حدٍّ قد يحمل معه إشارات قليلة مقنعة حول حيوية ومدة الانتعاش. وفيما بدأ المحللون والمستثمرون يشعرون بالقلق من أنَّ النمو آخذ بالتراجع بشكل حاد للغاية، وأنَّ الاختناقات تزيد بدورها من مخاوف التضخم، جاء متحوِّل "دلتا" ليوقف النشاط التجاري. وإن لم نكن قد عدنا إلى المربع الأول، فقد خسرنا أرضية كبيرة، وهذا يزيد من صعوبة مهمة محافظي البنوك المركزية لكبح جماح التكيّف النقدي، التي لم تكن أصلاً سهلة في أفضل الأوقات. كما قد يؤدي التقدُّم السريع إلى تراجع النمو، أو ما هو أسوأ من ذلك. وهنا يتعيّن على صانعي السياسات تنظيم تراجع مذل. أما التقدُّم البطيء، فيعني المخاطرة بالإفراط في السخونة، إلا إذا ثبت أنَّ هذا الهدوء هو مجرد فترة مؤقتة وقصيرة.
اقرأ أيضاً: 9 رسوم بيانية توضح اتجاهات الاقتصاد العالمي وأسعار الفائدة
يُظهر النهج المتنوع الذي اتبعته البنوك المركزية العالمية في الأسابيع الأخيرة، مدى صعوبة هذا الوضع. رفعت كوريا الجنوبية أسعار الفائدة، وأوضحت أنَّ هناك المزيد في المستقبل، في حين تراجعت نيوزيلندا عن توقُّع زيادة كبيرة، ولكنَّها تريد المحاولة مرة أخرى قريباً. من غير المرجَّح أيضاً أن يمضي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في إجراء تخفيض حذر في شراء السندات، لكن أرقام التوظيف المثبطة لشهر أغسطس، تثير تساؤلات حول الموعد المحدَّد لبدء العملية.
اختار لوي تقسيم الفَرق يوم الثلاثاء، ومضى قدماً في خطة البنك الاحتياطي الأسترالي الخاصة بالتخفيض التدريجي للتيسير الكمي إلى 3 مليارات دولار أسترالي أسبوعياً من 5 مليارات دولار أسترالي، فيما وصفها الاقتصاديون بأنَّها خطوة للنجاة بأعجوبة. في الوقت ذاته، قام لوي بتمديد الجدول الزمني للوتيرة الحالية من الشراء حتى شهر فبراير، بعدما حدَّد البنك شهر نوفمبر موعداً لمراجعة هذا المبلغ في البداية. برغم أنَّ إجمالي الناتج المحلي سيعاني من انخفاض كبير خلال هذا الربع نتيجة لعمليات الإغلاق، إلا أنَّه يعني ضمنياً أنَّ الربع الرابع سيكون أفضل. قال لوي، إنَّ البديل سوف "يؤخِّر، ولن يعرقل" الانتعاش، وتعدُّ استراتيجيته طريقة رائعة ومتسقة مع الإعلان السابق عن التناقص التدريجي، في الوقت الذي يستعد فيه للتحرُّك بقوة نحو العام المقبل.
قد نشهد المزيد من هذه الخطوات الصغيرة للغاية، تليها فترات سخيّة من الانتظار والتأمل، لكن ليس هناك أي شك في أنَّ الاقتصاد العالمي يغدو بشكل أفضل مما كان عليه منذ عام، ويتفوَّق بشكل كبير على بداية الوباء. وإذا كانت الحزم التحفيزية من قبل البنوك المركزية العالمية قد هدفت إلى منع الأزمات المالية الكارثية واحتضان الشركات والمستهلكين من أجل التعافي، فإنَّ جزءاً مهماً مما شرعت في القيام به قد تحقق. كان الركود في الولايات المتحدة الأقصر على الإطلاق*، برغم استمرار انخفاض التوظيف إلى مستويات تقل بكثير عن فترة ما قبل الوباء.
اقرأ أيضاً: الشركات الأمريكية تضيف وظائف جديدة في أغسطس بأقل من التوقعات
في حين أنَّه لا توجد حاجة ملحة حالياً لإفساح المزيد من المجال لكي تتم إضافة تدابير جديدة، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ هذه هي الفترة المناسبة لتخفيض كمية السيولة التي تمَّ ضخها. يتوقَّع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد العالمي بمعدل 6% هذا العام. لكن كل دولة على حدة خسرت القوة الدافعة. فقد خفَّضت مجموعة "غولدمان ساكس" توقُّعاتها للنمو في الولايات المتحدة هذا العام، في حين حدَّد "مورغان ستانلي" معدّل النمو حالياً عند 2.9% لهذا الربع بعد أن كان 6.5%. تحاول الصين وضع حدٍّ للتباطؤ الجديد، فيما انخفضت ثقة المستثمرين الألمان للشهر الرابع على التوالي في سبتمبر. وخلال شهر أغسطس، كانت مكاسب كشوف المرتبات في الولايات المتحدة الأضعف في سبعة شهور، وأقل من أكثر التوقُّعات تشاؤماً. لا يوجد مفر حالياً من هدوء التعافي السريع، إلا أنَّه يصعب في هذا الوقت اتخاذ أي قرارات بشأن تغيير الاتجاه، حتى وإن كانت تدريجية. يتعيّن على صانعي السياسات التحلي بالفطنة، بدلاً من أن يكونوا متسرعين.
اقرأ أيضاً: سوق الوظائف الأمريكية تسجل أدنى مكاسب لها في سبعة شهور
ردَّاً على سؤال في شهادته البرلمانية الشهر الماضي حول معنى العبارة الموجودة على كوب قهوته، قال لوي: "هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن كيفية سير الاقتصاد خلال الشهور القليلة المقبلة، ويعتمد الكثير على الوضع الصحي، لكنَّ تجربتنا وتجارب الآخرين في أماكن أخرى، تشير إلى التعافي الاقتصادي السريع بمجرد السيطرة على الوضع الصحي".
برغم تدهور الأمور في أستراليا وخارجها منذ ذلك الحين، يبدو أنَّ لوي مستعد للنظر إلى الأمام، وستحدد الصورة التي سيراها مستقبل الخطوات النقدية الراديكالية المتباطئة أو المتراجعة أو المتوقفة مؤقتاً. يواجه كلٌّ من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك الشعب الصيني، حسابات مماثلة في الشهور المقبلة، وسيلعب التواصل هنا الدور الأهم. دعونا نأمل أن يكون زعماؤنا الذين يختصون في السياسات النقدية، نصف يقظين على الأقل.
*في شهر يوليو، قالت لجنة تأريخ دورة الأعمال التابعة للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وهي اللجنة الأكاديمية الأمريكية التي تقوم بدور المحكِّم في مسألة وضع تواريخ التوسُّع، إنَّ الدلائل الرئيسية للتوظيف والإنتاج "تشير بوضوح إلى أنَّ إبريل 2020 كان النقطة الأدنى في الموجة". تُعرِّف الكثير من الدول الركود على أنَّه يعني تسجيل ربعين سلبيين في إجمالي الناتج المحلي، لكن المكتب لا يستخدم هذا التعريف، ويبحث بدلاً عن ذلك في الانخفاض الكبير في النشاط الاقتصادي الذي يستمر عادة لأكثر من بضعة شهور.