بلومبرغ
يُرجح أن يتوقف مستقبل الدولار الأميركي الرقمي على حماية الخصوصية خلال تتبع المعاملات، فيما تستمر الجهود لتسهيل المدفوعات الافتراضية.
وبينما توزان الحكومة الأميركية بين إطلاق عملة افتراضية مدعومة من البنك المركزي أو لا، يضغط مناصرو الحريات المدنية والمتحررون لإصدار دولار رقمي محمي من المراقبة، ويوفر سرية الهوية التي توفرها النقود.
هذا الاهتمام بالدولار الرقمي مدفوع إلى حدٍ ما بظهور بدائل مثل العملات المشفرة والتحول إلى المعاملات غير النقدية الناتج عن جائحة كورونا. تمهيد الطريق لعملة رقمية صادرة عن البنك المركزي في الولايات المتحدة، يتطلب تخطيطاً موسعاً لكسب ثقة المتشككين، والعمل على التفاصيل الفنية، وتحقيق أهداف واضعي السياسات، مثل تعزيز النمو والاستقرار الاقتصادي.
ستعتمد الخصوصية التي يوفرها الدولار الرقمي على قرارات التصميم، مثل كيفية تسجيل المعاملات، وكيفية التحقق من هويات المستخدمين، وطريقة عمل المحافظ الافتراضية. تلك التفاصيل ستحدد مدى إحكام تتبع المعاملات، سواء كان هذا التتبع عبر مراقبة جهات إنفاذ القانون للمعاملات المالية غير المشروعة، أو عبر شركات القطاع الخاص المهتمة بعادات المستهلكين الشرائية.
التصميم هو العامل الأهم
"الأمر كله يتوقف على التصميم" حسب ما قاله مارك يانغ، المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، والذي يشغل الآن منصب كبير موظفي المخاطر في شركة "كونسين سيس" (ConsenSys) لتقنية برمجيات البلوكتشين. يعمل يانغ مستشاراً في "مشروع الدولار الرقمي" (Digital Dollar Project)، وهو مجموعة تبحث التحديات والفرص المصاحبة لعملة رقمية صادرة عن البنك المركزي.
الولايات المتحدة هي واحدة من 100 دولة واتحاد نقدي تستكشف إمكانية استخدام أموال افتراضية غير مطبوعة أو مسكوكة يصدرها بنك مركزي مثل العملة التقليدية، وفقاً لأحد المتتبعين من "المجلس الأطلسي" (Atlantic Council). وقد أطلق المتشككون على اليوان الرقمي الذي تنشره الصين اسم "عملة المراقبة"، إذ إنها قد تسمح للحكومة برصد المعاملات بشكل أيسر.
المخاوف بشأن المراقبة، دفعت صانعي السياسات الجمهوريين، ومنهم توم إيمر، عضو مجلس النواب عن مينيسوتا، والسيناتور تيد كروز نائب تكساس، لاقتراح تشريع يمنع أي مساعٍ للحكومة الأميركية لإصدار دولار رقمي مباشرة للمواطنين الأميركيين بطريقة تسهل الرصد المالي.
يخطط نائب ماساتشوستس، ستيفن لينش، لإعادة طرح مشروع القانون الذي يؤيده الديمقراطيون خلال الدورة الجارية لانعقاد الكونغرس، بدلاً من اقتراح برنامج تجريبي لاختبار تقنيات الدولار الرقمي التي تستنسخ سمات حماية الخصوصية للنقدية المادية.
تُصور المقترحات التشريعية آراء معارضة لما قد يمثله الدولار الرقمي للحرية المالية للمواطنين الأميركيين.
الإمكانات الرقمية
المسؤولون في وزارة الخزانة و"الاحتياطي الفيدرالي" لم يقتنعوا بعد بحاجة الولايات المتحدة إلى عملة رقمية صادرة عن البنك المركزي، رغم الجهود المستمرة لدراسة إمكاناتها.
كمثال، أشار محافظ "الاحتياطي الفيدرالي"، كريستوفر والر، إلى وجود طرق أخرى لتطوير نظام المدفوعات الحالي في الولايات المتحدة دون طرح نوع جديد من العملات.
ينظر المؤيدون لإصدار دولار رقمي على أنه طريقة للمحافظة على الريادة المالية العالمية للولايات المتحدة، مع زيادة تسهيل المعاملات وكفاءتها وشمولها.
التحول الرقمي المتنامي للتمويل عبر بطاقات الائتمان أو تطبيقات الدفع، قد يستبعد المجتمعات المعتمدة على النقود، مثل المهاجرين والعمال منخفضي الأجور وساكني المناطق الريفية، ممن قد يفتقرون إلى حساب مصرفي، أو تنعدم ثقتهم بالنظام المالي الحالي.
كما أن المخاوف حول الخصوصية، هي أحد أهم الأسباب التي ساقتها العائلات التي "لا تتعامل مع البنوك" لعدم امتلاكهم لحساب مصرفي، وفقاً لاستبيان أجرته "المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع" في 2019.
أي دولار رقمي يتم العمل على إصداره، يجب أن يكون مثل النقود، كما يرى جاي ستانلي، محلل أول للسياسات لدى "مشروع الحديث والخصوصية والتقنية" الذي يتبع "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" (ACLU).
قال ستانلي: "المعيار الذهبي خاص بالنقود، حيث لا يوجد وسيط ولا مراقبة تقريباً"
التمويل غير المشروع
تراجعت خصوصية المعاملات الرقمية في يومنا الحالي، يرجع ذلك -إلى حدٍ ما- إلى اللوائح الفيدرالية التي تهدف إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والأنشطة الإجرامية الأخرى. يفرض قانون السرية المصرفية على المؤسسات المالية الأميركية مساعدة جهات إنفاذ القانون من خلال رصد الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عن المعاملات النقدية التي تتجاوز مبلغ 10 آلاف دولار.
المحافظة على نظام رقابة في نظام الدولار الرقمي، قد تفرض تنازلات عن الخصوصية.
"كلما زادت الخصوصية التي تحميها، قلت كفاءة الحكومة في تنفيذ مهامها الرقابية، وهذا هو مصدر القلق الذي يحاولون التعامل معه حالياً على مستوى السياسات"، حسب غريغ غويدل، مدير الشؤون القانونية بشركة "فلوينت فاينانس" (Fluent Finance) المتخصصة في بنية التكنولوجيا المالية التحتية.
يخشى معارضو الدولار الرقمي من تنامي المراقبة المالية وتطبيقها على الأموال، وفقاً لجيم هاربر، الزميل الأول غير المقيم لدى "معهد المشروع الأميركي" (AEI). دعا هاربر ومعه جيه كريستوفر جانكارلو، الرئيس السابق لدى "لجنة تداول السلع الآجلة" (CFTC)، إلى إصدار "عملة حرية" لا تخضع لتتبع أو مراقبة بلا داعي.
صرحت وكيلة وزارة الخزانة للتمويل المحلي، نيللي ليانغ، في خطاب في 1 مارس بأن وضع طبقات لشروط الإبلاغ قد يكون طريقة للتوفيق بين الخصوصية ومخاوف التمويل غير المشروع، فتُجمع بيانات أقل حول المعاملات المالية الصغيرة أو الحسابات صغيرة الحجم.
مع ذلك، أشارت ليانغ إلى أن فرض قيود على مبالغ المعاملات أو عددها، قد يجعل استخدام العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي في تعاملات التجزئة "أقل نفعاً للمستهلك النهائي"، مضيفة أن إيجاد حلول للحد من هذه التنازلات، الأرجح باستخدام التكنولوجيا، كان مشروعاً قيد التنفيذ.
الابتكار التقني
قد تساعد الابتكارات التقنية على إمكانية حماية مستخدمي الدولار الرقمي فضلاً عن منع الأطراف سيئة النوايا من استخدام العملة. طلب "مكتب البيت الأبيض لسياسات العلوم والتكنولوجيا" معلومات عن التقنيات المشابهة للاطلاع على بحوث الأصول الرقمية وتطويرها.
"الادعاء بأن المعاملات بالدولار الرقمي لن تحفظ سرية الهوية مثل المعاملات بالنقدية المادية هو إفراط في التبسيط"، حسب ديفيد تريت، كبير المديرين التنفيذيين في شركة "أكسنتشر" الاستشارية وأحد أعضاء مجلس إدارة "مشروع الدولار الرقمي".
تستخدم العملات المشفرة التي تحمي الخصوصية، مثل "زي كاش" (Zcash) ما يعرف باسم "براهين المعرفة الصفرية" (zero-knowledge proofs) لضمان سلامة كل من المعاملات على حدة مع إخفاء التفاصيل.
أنشأ "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT) و"الاحتياطي الفيدرالي" في بوسطن، عملة رقمية افتراضية صادرة عن البنك المركزي في بحث مشترك اسمه "بروجكت هاملتون"، وأوضح المشروع إمكانية إجراء المعاملات دون حاجة إلى التخزين المركزي لأرصدة المستخدمين أو هوياتهم.
الإنفاق الشخصي
بعيداً عن مراقبة الحكومة للنظم المالي، يتخوف المدافعون عن الحرية الرقمية من قدرة القطاع الخاص على تتبع بيانات المستهلك المالية ومشاركتها.
كتب "مركز معلومات الخصوصية الإلكترونية" (EPIC)، وهو مركز بحوث غير هادف للربح، رداً على بحث "مكتب البيت الأبيض للسياسات" في الأصول الرقمية، أن نظم المدفوعات الحالية مصممة بطريقة تمكن سماسرة البيانات من جمع بيانات المستهلكين وبيعها، بما فيها معاملات بطاقات الائتمان وبطاقات الخصم.
وأوضح المركز أن السماسرة يمكنهم استخدم بيانات المعاملات لإنشاء ملف شخصي مفصل للأفراد قد يكشف عنهم معلومات خاصة، مثل آرائهم السياسة ومعتقداتهم الدينية واختياراتهم الأسرية والعائلية وتفضيلاتهم وعاداتهم الشخصية.
ليا هولاند، مديرة الحملات والاتصالات لدى "فايت فور فيوتشر"، وهي مجموعة بحثية غير ربحية متخصصة في الحقوق الرقمية، شدّدت على المخاوف حول تمكن الشركات من التجسس على ما ينفق الناس عليه أموالهم، بل وربما حظر أنشطة بعينها، مثل إغلاق الحسابات المصرفية لعاملات الجنس.
تحث "فايت فور فيوتشر" المشرعين الأميركيين على تقديم أولوية حماية الخصوصية على أولوية العملات الرقمية.
قالت هولاند: "لا نُفرِّق كثيراً بين مراقبة الشركات ومراقبة الحكومة".