بلومبرغ
بتاريخ 26 أكتوبر، أي قبل أيام من انهيار بورصة العملات المشفرة "إف تي إكس" (FTX)، جلس سام بانكمان–فريد بمطعمٍ فخم في دبي، مختبراً بدهاء إمكانية حصوله على تمويل، من مؤسسي شركات ومصرفيين ومموّلين كان مجتمعاً بهم، من ضمنهم أنطوني سكاراموتشي (المصرفي الاستثماري المخضرم).
مثّل هذا الاجتماع المحاولة الأخيرة قبل انكشاف أزمة الملياردير السابق أمام العالم. فانهيار "إف تي إكس"، الذي انتقل من امتلاك 32 مليار دولار إلى الإفلاس في الأسابيع التالية، أدى إلى تدهور أسواق العملات المشفرة، ما دفع إلى خروج مليارات الدولارات من بعض أكبر البورصات العالمية.
ترددت أصداء هذا الزلزال بشدة في دولة الإمارات، وتحديداً مدينة دبي، التي تعمل على جذب كبريات الشركات العالمية من خلال سياساتها "الصديقة" للعملات المشفرة. ففي حين شددت بعض المراكز المالية لوائحها الخاصة بصناعة التشفير، روّج مسؤولون إماراتيون للأصول الافتراضية "كمنجم ذهب" للنمو الاقتصادي، وباعتبارها محورية لاستراتيجية تنويع مصادر الدخل بعيداً عن الوقود الأحفوري.
شراكة بين منصة "بينانس" ودبي لإنشاء مركز للأصول الرقمية العالمية
الأموال الرقمية والعقار
عززت الدولة الخليجية مكانتها كمركز للعملات المشفرة، عبر جذب الشركات ذات الثقل الكبير في الصناعة، بموازاة دفع المصرفيين والمحامين والتنفيذيين بمجال التكنولوجيا لتبديل وظائفهم باتجاه القطاع. وأفاد سماسرة العقارات عن ضخ أموال التشفير في الفلل الفاخرة. مع ذلك، فإن نهاية السوق الصاعدة جعلت البعض يعبّرون عن ندمهم مع تحول الأحداث.
قلصت البورصتان المحليتان "رين فاينانشال" (Rain Financial) و"بيت أوايسيس" (BitOasis) عدد موظفيهم في دبي. وكان من ضمن الذين أعادوا النظر في انغماسهم بالقطاع، حازم شيش، وهو مصرفي سابق في "باركليز"، أنشأ مؤخراً صندوق تحوط للعملات المشفرة في أبوظبي. ورغم أن أداء الصندوق كان جيداً في الشهور الأولى على انطلاقه، إلا أن تحدي جمع الأموال من المؤسسات وسط اضطراب السوق دفع شيش إلى التراجع عن إدارة الصندوق الرئيسي، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، والذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لخصوصية المعلومات. ومن جانبه، رفض حازم شيش التعليق.
كانت "إف تي إكس" إحدى أولى الشركات التي حصلت على ترخيص من سلطة دبي لتنظيم الأصول الافتراضية، في إطار جهود الإمارة لتحفيز جذب الأعمال، واتخذت بورصة العملات المشفرة من دبي مقراً إقليمياً لها.
في ذلك الوقت، أشاد هلال المري، المدير العام لسلطة مركز دبي التجاري العالمي، والتي تحتضن مقر سلطة دبي لتنظيم الأصول الافتراضية، بخطوة "إف تي إكس"، مصرحاً أن الترخيص لها جاء بعد تقييم صارم، وذلك قبل شهور من إفلاس الشركة.
دبي تعتمد تحويل المركز التجاري العالمي كمنطقة لتنظيم الأصول المشفرة
مع مواجهة "إف تي إكس" وبانكمان–فريد في الوقت الراهن تحقيقات، من الولايات المتحدة إلى جزر الباهاما، نأى المسؤولون في الإمارات بأنفسهم عن الموضوع، كما أزيلت تفاصيل الترخيص الممنوح لبورصة العملات المشفرة من موقع الجهة التنظيمية على الإنترنت. لكن كان من الصعب إزالة بعض الروابط من المشهد. حيث تصطف اللافتات التي تروّج لحفل ترعاه "إف تي إكس" خلال سباق الجائزة الكبرى لسيارات "فورمولا 1" الذي أُقيم مؤخراً في أبوظبي، على رصيف إحدى أكثر الوجهات البحرية تميزاً في دبي. وفي مضمار السباق، ارتدى المتفرجون قبعات يزيّنها شعار "إف تي إكس".
ضربة مزدوجة
كان انهيار "إف تي إكس" بمثابة ثاني ضربة كبيرة لجهود دبي "التشفيرية" بغضون شهور. ففي يونيو الماضي، انهار صندوق التحوط "ثري أروز كابيتال" في إحدى أكبر حالات السقوط بمجال تداول العملات المشفرة، وذلك بعد أسابيع من الحصول على ترخيص مؤقت في المدينة. وامتدت الدراما إلى كيانات إدارة الأصول الأخرى.
ضخّت عدة صناديق تحوط بمجال العملات المشفرة، أُنشئت مؤخراً بدولة الإمارات، جميع أموال عملائها على منصة "إف تي إكس"، ما فرض تدافعاً جنونياً إلى التخارج من المنصة قبل إيقاف عمليات سحب الأموال تجنّباً لانهيارها، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر.
يوجد نحو 4% من عملاء "إف تي إكس" العالميين في الإمارات، وفقاً لملفات تمّ إيداعها بالمحكمة في قضية إفلاس الشركة، ما يجعلها إحدى أكثر 10 أسواق تأثراً بالتداعيات.
لم تحصل كل من "إف تي إكس" و"ثري أروز كابيتال" على تراخيص ذات صلاحيات كاملة، ما قلّص التداعيات المحلية إلى حد ما. ويهدف هيكل الجهة المسؤولة عن تنظيم الأصول الافتراضية في دبي إلى فتح المجال أمام أكبر الشركات لممارسة أنشطتها، ولكن التراخيص الأولية لا تتيح إلا نطاقاً ضيقاً من الخدمات.
مع ذلك، أثارت الحوادث جدلاً عمّا إذا كانت السلطات تسرّعت في سعيها لجذب شركات التشفير، وإضفاء الشرعية على الكيانات التي أفلست منذ ذلك الحين.
دابو أكو، خبير الامتثال السابق في "يو بي إس غروب"، الذي تساعد شركته "جيه. أوان آند بارتنرز" (J. Awan & Partners) شركات التشفير لإنشاء أعمالها في الإمارات، يَعتبر أنه "بصفتك جهة تنظيمية، هناك دائماً خطر إذا ساءت الأمور أن تنعكس بشكل سيئ. لكنها أيضاً فرصة لإعادة التفكير في إطار العمل، فلو لم يفشل بنك "ليمان براذرز"، لما كان لدينا لوائح مصرفية جديدة".
بورصة العملات المشفرة "بينانس" قد تتخذ من دبي مقرّاً رئيسياً لها
مسؤول في سلطة دبي لتنظيم الأصول الافتراضية أكد أن "إف تي إكس" لم تستكمل عملية الموافقات لترويج خدماتها لأي عملاء أو لمباشرة نشاطها. وفي بيان في شهر يوليو، أُعلن أن الترخيص سيسمح للبورصة الافتراضية بعرض منتجات مشتقات التشفير وخدمات التداول على المستثمرين المؤهلين من المؤسسات.
وفيما يخص "ثري آروز كابيتال"، أوضح ممثل سلطة دبي أن التصريح المؤقت هو بمثابة "موافقة على المبدأ"، مع الأخذ في الاعتبار إتمام الموافقات من سلطات التراخيص الأخرى، فالحصول على رخصة كاملة يتطلّب خطوات إضافية، وهي لم تكتمل بالنسبة لـ"ثري آروز".
ردّاً على أسئلة، أجاب مسؤول إماراتي أن هناك التزام بالتمكين الاقتصادي الشامل، لكن مع التركيز على حماية المستهلكين، والأمن المالي عبر الحدود، والاستقرار الاقتصادي. فيما رفض متحدث باسم "إف تي إكس" التعليق.
مسؤول سابق بسوق أبوظبي العالمي يقود أعمال "بينانس" في الشرق الأوسط
قنبلة موقوتة متحركة
تركّز معظم الرهان الإماراتي على عالم التشفير حول "بينانس هولدينغز" ورئيسها التنفيذي تشانغبنغ جاو.
حظيت أكبر بورصة تشفير في العالم بحفاوة في دبي لدرجة أن رئيسها التنفيذي، البالغ من العمر 45 عاماً، جعل منها محل إقامته، وسرعان ما بنى علاقات مع الوسطاء الأقوياء في البلاد، ومنحت الإمارات عدّة تراخيص لـ"بينانس"، واستقر أكثر من 500 موظف من منسوبي الشركة في الدولة الخليجية.
بعد انهيار "إف تي إكس"، ارتفعت حصة "بينانس" من إجمالي حجم تداول العملات المشفرة عالمياً إلى ما يناهز 50%، وفقاً لبيانات "كريبتو كومبير" (CryptoCompare). مع ذلك، فإن سرعة تفكك "إف تي إكس" أثارت جدلاً حول القوة المالية لبورصات العملات المشفرة المركزية، وسحب المتداولون الأموال من مثل هذه الكيانات.
في قمةٍ عُقدت في أبوظبي في 16 نوفمبر، وصف الخبير الاقتصادي نورييل روبيني، منتقد العملات المشفرة والمُشار إليه باسم "دكتور الهلاك" (لتوقعاته المتشائمة)، "بينانس" بـ"القنبلة الموقوتة المتحركة"، ولام المنظمين على منح تراخيص للشركة، وحثّ المسؤولين على طرد جاو من الإمارات.
في اليوم التالي، ردّ عليه الرئيس التنفيذي لـ"بينانس" أثناء مؤتمر معهد "ميلكن" في أبوظبي: "ما هي الكلمات التي تُقال للأشخاص غير المهمين؟ نحن لا نُبالي". وترافق هذا الشجار مع حصول البورصة على مزيد من الموافقات من سوق أبوظبي العالمي.
رئيس "بينانس" يلجأ لأموال الشرق الأوسط لصندوق تعافي العملات المشفرة
تنظيم أكثر صرامة؟
منذ وصول جاو العام الماضي، عزز اللاعبون المؤثرون وجودهم في الإمارات بدءاً من "كراكن" (Kraken) إلى "أو كيه إكس" (OKX) و"بايبت" (Bybit) و"كريبتو دوت كوم" (Crypto.com)، وهو ما يتماشى مع طموحات الدولة لبناء اقتصاد رقمي يخلق المزيد من الوظائف في القطاع غير النفطي. مع ذلك، أعرب مسؤولون إماراتيون سراً عن مخاوفهم بشأن وتيرة الموافقات التنظيمية، وأنهم ربما تقدموا بسرعة كبيرة جداً ولم يُوفّقوا بتوقع انهيارات "ثري آروز كابيتال" و"إف تي إكس"، حسبما قال أشخاص مطلعون.
يستقطب مركز دبي للسلع المتعددة، الذي يخضع لتدقيق محدّد من وزارة الخزانة الأميركية بشأن تشريعاته المتساهلة، نصيب الأسد من شركات التشفير، ويضم أكثر من 500 شركة، وفق متحدث باسم المركز.
تتوقّع غابرييلا دانكر، المقيمة في فيينا والمؤسسة لشركة "فاينانشال ترانسبيرنسي أدفايزرز" (Financial Transparency Advisors)، التي قدّمت سابقاً استشارات للحكومة الإماراتية، أن يكون "جميع المنظمين أكثر حذراً وتحفظاً بالنظر إلى أحدث التطورات".
يتأهب لاعبو عالم التشفير في الإمارات حالياً لأي مستجدات من الجهات التنظيمية.
تخطط سلطة دبي لتنظيم الأصول الافتراضية للإعلان عن رئيسها التنفيذي في الأسابيع المقبلة، وتعتزم إجراء المزيد من المشاورات مع أصحاب المصلحة الرئيسيين قبل نهاية العام، وفقاً لأشخاص مطلعين.
في غضون ذلك، تباطأت وتيرة جهود أبوظبي لاستكمال تشريع اتحادي ينظم قطاع التشفير، إذ تواجه السلطات محاولات ضغط من العاملين في القطاع، وكذلك تدقيقاً من الجهات الدولية حول هواجس تتعلق بغسل الأموال وحماية المستهلكين.
من جانبه، أطلق الرئيس التنفيذي لـ"بينانس" نظام إثبات الاحتياطيات للتأكيد على "الشفافية الكاملة"، لكن شركته رفضت الكشف عن التفاصيل الكاملة لهيكلها المؤسسي.
جاو صرّح لتلفزيون "بلومبرغ"، الخميس الماضي: "لدينا أكبر المكاتب في دبي وباريس لذا يمكنكم اعتبار المدينتين كمراكز عالمية". بينما أفصح متحدث باسم "بينانس" أن البورصة تعزز فريقها في الإمارات وتخوض عملية إعادة هيكلة للشركة تستهدف إعطاء المنظمين المزيد من الوضوح حول عملها.
خطة "بينانس" لإنقاذ التشفير لم تبدد مخاوف عدوى "إف تي إكس"
عواصم "التشفير"
في الوقت الحالي، تتمسك الإمارات، مثلها مثل بعض المراكز المالية، بعزمها أن تصبح مركزاً للعملات المشفرة. وأكدت هونغ كونغ رغبتها في جذب شركات الأصول الافتراضية، فيما اقترحت اليابان تسهيل قواعد إدراج الرموز المشفرة. ومن ناحية أخرى، أعلنت سنغافورة عن تفضيلها لتكنولوجيا بلوكتشين القائمة على حالة الاستخدام، بينما حذّرت من تداول العملات المشفرة بالتجزئة.
شكّلت صناديق أبوظبي، بما في ذلك شركة مبادلة للاستثمار، لجاناً لدراسة الاستثمارات في منظومة التشفير، وأشار أشخاص مطلعون إلى أنهم على قناعة بأن لديهم المبررات الكافية للمضي قدماً بحذر، ويخططون للتقدم بحرص في الأشهر المقبلة. ورفض ممثل من "مبادلة" التعليق على الأمر.
وكان إبراهيم عجمي، المسؤول في "مبادلة" نشر تغريدة سابقاً بشأن الأمر.
في المقابل، واصلت كيانات تابعة لمستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد نهجها القوي، وتمضي قدماً بخطط الاستثمار في المجال. وذكرت "بلومبرغ"، الثلاثاء الماضي، أن جاو وفريقه التقوا بداعمين محتملين، بما في ذلك كيانات أخرى تابعة للشيخ طحنون، الذي يشرف على إمبراطورية مالية كبيرة في أبوظبي.
في وقت سابق من الشهر الحالي، بينما كان بانكمان-فريد يحاول إتمام صفقة إنقاذ مع "بينانس"، كان دومينيك لونغمان، زميل جاو، يطلق في أبوظبي جمعية الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا للعملات الرقمية وبلوكتشين بجانب مسؤولين إماراتيين يواصلون تبنّيهم للقطاع.
وقال أحمد جاسم الزعابي، رئيس مجلس إدارة سوق أبوظبي العالمي: "أبوظبي، والإمارات، رائدتان في تطوير أعمال العملات المشفرة وبلوكتشين المبتكرة المتوافقة مع التشريعات. ويسعدنا أن نكون قادرين على دعم جمعية الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا للعملات الرقمية وبلوكتشين، والتي ستسهم في تطوير هذا القطاع الحيوي".