بلومبرغ
قبل أن يدمر كادر من الموظفين السابقين لدى مجموعة "جين ستريت" (Jane Street Group) مشهد العملات المشفرة بشكل مذهل من موقعهم في "إف تي إكس" هذا الشهر؛ كانت الشركة التي تنتمي إلى "وول ستريت" تتمتع بمكانتها، باعتبارها العملاق الذي لم يعرفه أحد تقريباً.
الشركة النافذة التي يزيد عدد موظفيها على 2,000 موظف، والتي تتخذ من مانهاتن مقراً لها، تُعرف بين أقرانها بهوسها بالمخاطرة وتفضيلها للتخفي. فهي تتعمق في مدى صحة الشركاء التجاريين، وتضع نماذج للكوارث المحتملة، وتقوم بتشريح المخاطر بعناية، وتقيّد الموظفين من التعليق علناً، لأنَّها تعتبر أنَّ ذلك - برغم بساطته - يمثل خطراً.
أسهل طريقة لوصف الثقافة التي أنشأها سام بانكمان فريد في "إف تي إكس" هي: العكس.
دائرة بانكمان فريد الداخلية
نظراً لأنَّ تفاصيل قصة الانهيار الأسطوري لـ"إف تي إكس" باتت تتكشف - حيث باتت الآن بورصة العملات المشفَّرة البالغة 32 مليار دولار في حالة إفلاس - فإنَّ أحد أكبر الاكتشافات يتمثل في أنَّ المؤسس والزعيم السابق، بانكمان فريد، قام بتوظيف دائرة داخلية تتكون من موظفين كانوا يعملون في بعض أكثر الشركات جدية في "وول ستريت"، و"سيليكون فالي"، وأنشأ مثل هذه العملية العشوائية.
من بين المنشقين عن شركة "جين ستريت"، حبيبة بانكمان فريد السابقة، كارولين إليسون، التي كانت تدير الذراع الاستثمارية "ألاميدا ريسيرتش"، وبريت هاريسون، الذي أشرف على "إف تي إكس يو إس". بينما كان سام ترابوكو -الذي شارك في قيادة "ألاميدا" لفترة مع إليسون قبل إعلان مغادرته في أغسطس - متداولاً لدى "ساسكوهانا إنترناشونال غروب" (Susquehanna International Group).
عمل رئيس قسم التكنولوجيا غاري وانغ سابقاً في "غوغل"، ورئيس قسم الهندسة نيشاد سينغ في "فيسبوك". بينما عملت كونستانس وانغ - رئيسة قسم العمليات في "إف تي إكس" - سابقاً في "كريدي سويس".
إيمان لا يتزعزع.. هؤلاء تركوا مؤسسات "وول ستريت" الكبرى للعمل بالعملات المشفرة
كان يجب أن تكون "جين ستريت" ساحة تدريب مثالية. في "وول ستريت"، يُعتبر متجر تداول الأملاك بمثابة رب عمل رئيسي للمحللين الكميين والتقنيين، ويفتخر باكتشافه مخاطر كبيرة ومعقدة تفوت باقي السوق، وهو يتداول العملات المشفَّرة منذ نصف عقد. على الرغم من هذه الجذور؛ لكنَّ مجموعة متزايدة من الأدلة - التي تم إيداعها الآن في محكمة الإفلاس – تظهر أنَّ أجزاء رئيسية من "إف تي إكس"، كانت تفتقر إلى ضوابط كافية للمخاطر، وضبط السجلات. علاوة على ذلك تثير العلاقات والامتيازات المالية السرية لشركة "ألاميدا ريسيرتش" قلق المستثمرين والموظفين على حد سواء.
"إف تي إكس" هي الآن موضوع تحقيق جنائي، ويظهر حصر أصولها أنَّ "مبلغاً كبيراً" إما كان مفقوداً أو مسروقاً، بحسب ما قال محامي الشركة لمحكمة الإفلاس يوم الثلاثاء. وتشمل هذه القضية أكثر من مليون دائن.
محامي "إف تي إكس": جزء كبير من أصول الشركة مسروق أو مفقود
يقول تاي غيلاش، الرئيس التنفيذي لجمعية "هيلثي ماركتس" (Healthy Markets Association)، وهي مجموعة ضغط: "عندما يتم تداول مليارات الدولارات؛ فهذه ليست لعبة (مونوبولي) للأطفال... عليك الاحتفاظ بسجلات تبدو أفضل مما يفعله كشك لعصير الليمون يملكه أطفال في المدرسة الثانوية".
يذكر أنَّ ممثل "إف تي إكس" لم يرد على رسالة تسعى للحصول على تعليقه، ورفض متحدث باسم "جين ستريت" التعليق.
عندما أرسل موقع "فوكس" (Vox) رسالة إلى بانكمان فريد الأسبوع الماضي ليسأله من أين بدأت المشكلة؛ ألقى باللوم على "المحاسبة الفوضوية". وقال إنَّه "لم يدرك حجمها بالكامل إلا قبل بضعة أسابيع".
كتب في رسالة إلى الموظفين يوم الثلاثاء: "لم أقصد حدوث كل هذا... وكنت سأقدم أي شيء كي أتمكن من العودة في الوقت والقيام بالأشياء بشكل مغاير".
استراتيجيات التداول عند الانهيار
قضى بانكمان فريد ثلاث سنوات في "جين ستريت"، ولا توجد علامة سوداء - أو ما يُعرف في الصناعة باسم "حدث الإفصاح" - في سجلات توظيفه الشحيحة الموجودة لدى الجهات التنظيمية لعمل الوساطة.
تبدأ الشركة في تلقين المتداولين الجدد هوسها بالمخاطرة منذ لحظة وصولهم، وفقاً لأشخاص على دراية بممارساتها. يخصص قادتها شريحة ضخمة بشكل غير اعتيادي من رأس المال للتحوط، وحتى للحفاظ على استراتيجيات التداول التي تأخذ بعين الاعتبار الانهيار، في حال انهيار سوق الأسهم الأميركية.
بورصة العملات المشفرة FTX تبدأ إجراءات الإفلاس وبانكمان فريد يستقيل من الرئاسة
من المعروف أنَّ المتداولين في "جين ستريت" يعملون لوقت متأخر، ويتواصلون اجتماعياً خلال لعبهم الشطرنج، ويذهبون في نزهات جماعية للتفكير سوية. لكن قبل كل شيء؛ يتوقَّع قادتها أنَّهم سيحافظون على مستوى من ولاء الموظفين كان أكثر شيوعاً في عصر الشراكات في "وول ستريت"، عندما كانت مصالح الشركة تأتي دائماً في المقام الأول وكان التحفظ على المعلومات الخاصة هو الأهم، وفقاً لأشخاص مقرّبين من الشركة. ولم يشعر المديرون بالراحة تجاه الموظفين الذين يشكلون زمرة أو يؤيدون دعوة منافسة.
نهج إدارة بانكمان فريد
في "إف تي إكس"، تبنى بانكمان فريد نهجاً مختلفاً، يدعو إلى "الإيثار الفعال"، والتفاني في كسب أكبر قدر ممكن من المال، ثم التبرع به بالكامل. في نهاية الأمر، سكن في شقة "بنتهاوس" في جزر البهاما مع زملائه الموظفين، الذين قاموا في حالات عدة بمواعدة زملاء لهم في العمل.
في حين أنَّ "جين ستريت" تتباهى بنفسها على أنَّها آلة تشفير كاسرة للشيفرة، كانت لدى "إف تي إكس" ألعاب فيديو خلال ساعات العمل. إذ يُعرف أنَّ بانكمان فريد نفسه كان يلعب لعبة (League of Legends) خلال الاجتماعات الرئيسية.
أما غير ذلك، فكان هناك حبه للأضواء.
بانكمان فريد يروي قصة انهيار بورصة "إف تي إكس" على "تويتر"
أحدثت شركة "ألاميدا ريسيرتش" التابعة لبانكمان فريد ضجة في عام 2019 بعد أن أدرجت نفسها في لوحة تصنيف بورصة "بيت ميكس" (BitMex)، كانت تلك خطوة لافتة، وفقاً لمعايير العملات المشفَّرة أيضاً، حيث يفضل التجار عموماً الأسماء المستعارة في التصنيفات لتجنّب جذب القراصنة أو عمليات السطو على المنازل.
قال بانكمان فريد - عندما اتصل به مراسل "بلومبرغ" في ذلك الوقت - إنَّ التخلص من نهج عدم الكشف عن هويته كان أمراً استراتيجياً، كطريقة لبث نفوذ فريقه في السوق خلال استعداده لإطلاق "إف تي إكس". كان اثنان من حسابات "ألاميدا" من بين أكثر 10 حسابات نجاحاً على لوحة التصنيف من خلال أرباح القيمة الدائمة للعميل.
في الواقع، كان صعود "إف تي إكس" سريعاً.
في أواخر ذلك العام، ذهبت المستثمرة المغامرة، إديث يونغ، إلى فندق "بينينسولا" الفاخر في هونغ كونغ كي تقوم بتعريف مسؤول حكومي على بانكمان فريد، وكانت تبلغ من العمر آنذاك 27 عاماً، وتدير أحدث مشروع استثماري لها. كان بانكمان فريد وزملاؤه يترقبون جولة تمويلية أخرى، ويستأجرون جناحاً في شقة "بنتهاوس" ذات الإطلالة الرائعة على المدينة.
تذكرت يونغ، الشريكة العامة في "رايس كابيتال" (Race Capital) ذلك اليوم في مقابلة مع "بلومبرغ" أجريت معها قبل انهيار "إف تي إكس"، أنَّها وصلت في منتصف الحفلة، وأضافت: "أتذكر أنَّني كنت مع هذا الرجل الذي يرتدي بدلة وربطة عنق، وعندما دخلنا، كانوا يلعبون (بونغ البيرة)". التفت إليها المسؤول الحكومي وسألها: "هل استثمرت في هؤلاء الأطفال؟".
سوق العملات المشفرة تواصل التراجع مع سحب الأموال من "إيثريوم"
مع ارتفاع الحصة السوقية لـ"إف تي إكس"؛ صعدت أيضاً المكانة الشخصية لبانكمان فريد العامة. فسرعان ما بات يظهر في كل مكان، مخاطباً المنظمين والمشرعين مباشرة، بينما اشترت "إف تي إكس" الإعلانات وحقوق تسمية ملعب تابع لنادي كرة السلة.
رأت السلطات في بانكمان فريد شخصاً يمكنه المساعدة في التقريب بين قطاع العملات المشفَّرة و"وول ستريت". بدأ شهادته أمام الكونغرس، خلال جلسة استماع عقدت في ديسمبر الماضي، بذكره لفترة عمله التي قضاها كمتداول كمي. سرعان ما تباهى بأنَّ شركته تقدّم رقابة قوية على المخاطر على مدار الساعة، التي قال إنَّه يمكن لأي شخص التحقق منها من خلال مراقبة بياناتها.
تابع بانكمان فريد: "على عكس النظام المالي التقليدي، حيث تتراكم المخاطر بين عشية وضحاها، كما يلزم وجود نماذج مخاطر منفصلة لعطلات نهاية الأسبوع، والنشاط الليلي، والعطلات، التي يمكن خلالها أن تمر الساعات دون القدرة على تخفيف المخاطر على النظام؛ لدينا نظام شفاف".
الشعور بالتجاهل
كانت الحقيقة أنَّ "إف تي إكس" تجاهلت بعض الأعراف الروتينية المتبعة في "وول ستريت". فوفقاً لأشخاص مطّلعين على الأمر؛ فإنَّ بعض الأمثلة على خرق تلك الأعراف تتمثل في حذف الرسائل والمستندات التي تمت مشاركتها في القنوات التابعة لـ"إف تي إكس" على منصة اتصالات "سلاك" (Slack) تلقائياً على فترات منتظمة، ويجوب الغرباء في بعض الأحيان مكان عمل الشركة، ويُسمح للأشخاص في الشركات التي أبرمت "إف تي إكس" صفقات معها، فضلاً عن المطوّرين الذين يبنون اعتماداً على مشاريع "سولانا بلوكتشين" (Solana blockchain) التي تدعمها، القدوم إلى مكان العمل والتسكع في مكاتبها.
قال الموظفون الحاليون والسابقون إنَّ الهيكل التنظيمي لشركة "إف تي إكس" حجب أحياناً الوضع الخاص الذي تمت به الدائرة المقربة من بانكمان فريد، فقد كان لدى أفرادها إمكانية الوصول إلى المعلومات الحيوية، في حين تذمر كبار المسؤولين التنفيذيين الآخرين من حجب المعلومات عنهم، بما في ذلك تلك المتعلقة بعلاقة "ألاميدا" بشركة "إف تي إكس".
كيف تعيد سلسلة من انهيارات العملات المشفرة تشكيل القطاع؟
تمت ترقية إليسون، التي كانت تعرف بانكمان فريد منذ أن كان في"ألاميدا ريسيرتش"، إلى منصب الرئيسة التنفيذية المشاركة لشركة "ألاميدا" في عام 2021، عندما توقف عن الإدارة اليومية لهذه الشركة كي يركز على "إف تي إكس". لفترة من الوقت، كانا في علاقة عاطفية أثناء قيادتهم لأعمالهم التجارية، وفقاً لأشخاص مطّلعين على الوضع طلبوا عدم ذكر أسمائهم لمناقشتهم معلومات خاصة.
قال أحد الأشخاص إنَّه بالنظر إلى افتقارها للخبرة القيادية، كان تعيينها مفاجئاً. وبالمقارنة معه، فقد كانت تنشر تغريدات أقل، ونادراً ما تحدثت إلى الصحافة.
وفقاً لمسؤول تنفيذي سابق آخر؛ واجه في الوقت ذاته الأشخاص الذين يعملون في بعض المشاريع الجانبية العديدة لشركة "إف تي إكس"، صعوبات للوصول إلى بانكمان فريد لاتخاذ القرارات الرئيسية. إذ كان خلال الأشهر القليلة الماضية تحديداً يتسم بالتكتم. شعر كبار المسؤولين بأنَّه تم تجاهلهم، وعبّروا خلال المحادثات الشخصية عن قلقهم بشأن الموارد المالية. في إحدى الحالات، كاد أن يفوّت موعد دفع المرتبات لجزء من الشركة. وفي حالة أخرى، تأخرت المكافآت.
أقدار متباينة
كتب بانكمان فريد في رسالته يوم الثلاثاء أنَّه كان بإمكان متداولي العملات المشفَّرة استخدام استراتيجيات التداول التي تأخذ بعين الاعتبار الانهيار عند دخولها في فترة الهبوط هذا العام. في "إف تي إكس"، تضاءل جبل من الضمانات يبلغ 60 مليار دولار إلى 9 مليارات دولار. وأشار إلى مزيج من الضائقة الائتمانية، وبيع العملات الافتراضية، و"التهافت على السحب من البنك".
3 مليارات دولار ديون "إف تي إكس" غير المؤمنة لأكبر 50 عميلاً
كجزء من الإفلاس؛ يرأس الشركة جون جيه راي الثالث، الذي أشرف على تصفية شركة "إنرون" (Enron)، وهو الذي انتقد بشدة في إيداع الأسبوع الماضي ضوابط شركة "إف تي إكس"، و"الغياب التام للمعلومات المالية الجديرة بالثقة".
كتب راي أنَّ "إف تي إكس" تفتقر إلى نظام للتنبؤ بالسيولة التي ستكون متاحة عند وصول الإيرادات ودفع الفواتير. وقال إنَّه لم يتم إخضاع جميع أقسام الأعمال الرئيسية الخاصة بها إلى تدقيق من جهة منفصلة، وذكر أنَّ التدقيق الوحيد جرى من قبل "شركة لا أعلم شيئاً عنها" سوى أنَّها أعلنت مؤخراً عن مقر "ميتافيرس" لها في "ديسينترالاند" (Decentraland).
في نهاية المطاف، تباينت النتائج في "جين ستريت"، و"إف تي إكس"؛ عندما بدأت جائحة كوفيد-19 في الولايات المتحدة في أوائل عام 2020، ارتفعت عائدات "جين ستريت" بنسبة 54% لتصل إلى 10.6 مليار دولار في الأشهر الـ12 التي تلت ذلك. عندما تدهورت أسعار العملات المشفَّرة هذا العام، وظهر عمق تشابكات "إف تي إكس" مع "ألاميدا"؛ انهارت "إف تي إكس".
قطاع التشفير يمكنه النجاة من وفاة "إف تي إكس" المحتملة
لكن برغم ذلك؛ كان لانهيار بانكمان فريد تأثير غير مرغوب فيه على "جين ستريت"، فقد أدى إلى إبراز مكانتها. إذ تُظهر "غوغل تريندس" (Google Trends) - وهي أداة لتتبّع اهتمامات الجمهور - أنَّ عمليات البحث عن اسمها بدأت في الارتفاع في وقت مبكر من هذا الشهر.