بلومبرغ
حين تبنت شركة "فريبورت ماكموران" (Freeport-McMoRan) للتنقيب عن النحاس إبان الجائحة سياسةً اعتبرها أحد المحللين "نهج تقشف متشدد"، تمكنت مديرتها المالية كاثلين كوريك من خفض النفقات الرأسمالية بنحو 30%.
وفي شركة "دوبون" (DuPont)، كلف مجلس الإدارة المديرة المالية لوري كوخ بالسعي لاستعادة ثقة المستثمرين و"إعادة بناء الانضباط التشغيلي". أمّا في "نيويل براندز" (Newell Brands) التي تصنع أقلام "شاربي" وغراء "إيلمر"، فقد قلّص المدير المالي كريستوفر بيترسون تنوّع المنتجات بشدة ليخفض التكاليف.
خلال الأشهر 18 الماضية، بات كل أولئك على قمة الهرم الوظيفي لشركاتهم في موجة متنامية عمّت الشركات التي دأبت على تعين متخصصين في الشؤون المالية في موقع القيادة.
قالت شركة "كريست كولدر أسوشييتس" (Crist Kolder Associates)، المتخصصة بالبحوث التنفيذية، إن 8.4% من الشركات المدرجة على مؤشر "إس آند بي 500" أو على قائمة "فورتشن 500" رقّت مديرها المالي في 2023 ليصبح رئيساً تنفيذياً، وهذا رقم قياسي فيما كانت هذه النسبة 5.8% في 2013.
ولعل في هذا إنصافاً لمن يسمّيهم البعض من قبيل التهكم: "رقباء عدّ حبوب الفاصولياء"، ويقول مسؤولو التوظيف إن الطلب على أصحاب المهارات المالية سجل ارتفاعاً شاملاً.
حتى حين لا يُرقّى المديرون الماليون إلى قمة الهرم، فإن نفوذهم ومكانتهم في صعود. ولعل أبرز مثال على ذلك، روث بورات التي انضمت إلى شركة "ألفابت" في 2015. لقد تذمر موظفو "غوغل" حينها من أن تكليفها بفرض الانضباط والتركيز في عملاقة التقنية التي تتميز بروحها الجامحة، سيقضي على ثقافة الشركة. لكن الشركة عينتها العام الماضي كواحدة من رؤسائها ومديرةً لاستثماراتها، في دليل على ما حققته بورات من نفوذ منذ ذلك الحين.
كان صعود المديرين الماليين مدفوعاً جزئياً بسمعة أنهم قادة حازمون يتجنبون المخاطر في عالم تسوده الاضطرابات. خلال فترات عدم اليقين، تميل مجالس إدارة الشركات إلى تعيين شخصية منضبطة أو حتى مملّة في موقع القيادة.
تشمل نقاط قوة المديرين الماليين قدرتهم على التعامل مع قضايا معقدة مثل التحديات التنظيمية والتوترات الجيوسياسية وتقلبات السوق وارتفاع أسعار الفائدة، بالإضافة إلى قدرتهم على مخاطبة وول ستريت حول كل هذه الأمور. قال تاي ويغينز الذي يعمل مستشاراً للرؤساء التنفيذيين في مجال القيادة إن ما يحدث "يدل بوضوح على المشاعر الحالية حيال السوق العالمية".
الأهمّ من كل ذلك أن هذه الموجة من تعيين مديرين ماليين كرؤساء تنفيذيين تعكس الأولويات السائدة في الشركات الأميركية، التي يركز معظمها على خفض التكاليف والهندسات المالية. إذ تعمد الشركات حالياً إلى إعادة شراء الأسهم بمعدلات قياسية، فقد أعلنت "أبل" مثلاً في مايو عن أكبر خطة إعادة شراء أسهم في تاريخها، فيما عززت تسريحات موظفين في شركات مثل "ألفابت" و"أمازون" و"مايكروسوفت" نموّ الأرباح إلى معدلات قياسية. إن "عام الكفاءة" الذي دعا إليه مارك زوكربيرغ في شركته "ميتا بلاتفورمز"، وهو يتسم بتقليل الموظفين وخفض التكاليف، امتد اليوم ليشمل كافة بيئة الأعمال.
كانت العقلية التي تركز على الربح بدل النمو قد منعت تاريخياً المديرين الماليين من التسلق إلى أعلى السلم الوظيفي في الشركات.
لكن اليوم، مع رواج التركيز على صافي الأرباح زادت جاذبية المديرين الماليين. لعل أفضل مثال عن التغيير في اتجاهات الشركات يتجلى في عنوانين متناقضين في صحيفة "فايننشال تايمز" نُشرا بفارق 14 سنة. فقد سألت الصحيفة في 2010 "لماذا عدد قليل جداً من المديرين الماليين يصبحون رؤساء تنفيذيين؟" (وقد أجابت أن ما يتمتعون به من مهارات تجعلهم غير مناسبين للمنصب)، لتعود وتسأل في مارس 2024 "لماذا أعداد متزايدة من المديرين الماليين يصبحون رؤساء تنفيذيين؟" (والإجابة أن مجالات مسؤولياتهم قد توسعت، وهم أصلاً يحتلون المرتبة الثانية في الشركة).
إلا أن بعض البيانات تشير إلى أن تولي أهل الشأن المالي لزمام القيادة لا يحدث تقدماً كبيراً. حسب دراسة أجرتها شركة البحوث التنفيذية "سبينسر ستيوارت" (Spencer Stuart)، ظهر أن من بين المسارات الأربعة الأكثر شيوعاً لبلوغ المنصب الأعلى في الشركات، فإن المدير مالي الذي يُعيّن في منصب الرئيس التنفيذي كان الأقل احتمالاً للتفوق لناحية تحقيق مكاسب قيمة مضافة لحاملي الأسهم.
وقد وجد التقرير أنه خلال عقدين ، تمكن 8% فقط من المديرين الماليين الذين عُيّنوا في منصب الرئيس التنفيذي من قيادة شركاتهم لتحقيق أعلى معدلات الأداء، المحتسبة على أساس إجمالي عوائد المساهمين خلال فترة تولي الرئيس التنفيذي لمنصبه مقارنة ببقية السوق. وقد تفوّق عليهم المسؤولون التنفيذيون الذين رُقّوا من مناصب مديري أقسام تنفيذيين أو كانوا يشغلون سابقاً مناصب مسؤولي عمليات أو مناصب أدنى في الشركة. وفي أغلب الأحيان، المديرون الماليون الذين يلمعون في منصب الرئيس التنفيذي تكون لديهم خبرة سابقة في إدارة خط إنتاج في مرحلة ما من حياتهم المهنية.
ربما يقع اللوم في تعثر الأداء هذا على الطبيعة البشرية. فغالباً ما يركز الناس ويبدعون في الأمور التي يألفونها، وطبعاً في حالة المسؤولين التنفيذيين الماليين، ما يألفونه هو الربحية. قال كلاوديوس هيلديبراند، الاستشاري الذي أعد دراسة شركة "سبنسر ستيوارت" (Spencer Stuart): "يعمل المدير المالي كمسؤول عن الانضباط، ما يسمح للرئيس التنفيذي التركيز على النمو"، شارحاً أنه حين ينتقل المدير المالي إلى المنصب الأعلى "يشكل ذلك تحولاً كبيراً في العقلية... إذ لا يمكن التقشف فيما تسعى للازدهار. وفي مرحلة ما يجب أن تكون حذراً فلا تخفض الإنفاق بشدة".
يعدّل المديرون الماليون الذين يُعيَنون في منصب الرئيس التنفيذي نهجهم مع مرور الوقت، ولكن بحلول تلك المرحلة يكون الضرر قد وقع. وقال هيلديبراند إن دراسته أظهرت بأن الشركات التي يقودها مدير مالي سابق عرضة لتحقيق إيرادات أقل بنحو مليار دولار بسبب انخفاض النمو خلال سنواته الأولى في المنصب.
مع ذلك، تُقرّ الدراسة أن "البيانات ليست دلالة قدر محتوم"، فكثير من المديرين الماليين يحققون نجاحات في مناصبهم كرؤساء تنفيذيين، كما أن هيلديبراند لا يقول بوجوب عدم تعيينهم على رأس الشركات. إلا أنه حذّر من أن المديرين التنفيذيين الذين يشغلون منصب الرئيس التنفيذي ومجالس الإدارة التي تعيّنهم، يجب أن يدركوا التحديات المرافقة لتولي الوظيفة بعقلية "التحفظ المالي" حسب وصف الدراسة.
قال هيلديبراند: "الرؤساء التنفيذيون القادمون من خلفية إدارة مالية الذين ينجحون في وظيفتهم الجديدة هم من يدركون هذا الأمر مبكراً ويتمكنون من التعامل معه... أمّا من لا يتكيفون مع ذلك، غالباً ما يصبحون عرضة لخطر تقديم أداء ضعيف".
يبدو أن مزيداً من مجالس الإدارات بدأت تدرك ذلك، فباتت تكلّف مديريها الماليين بمزيد من المسؤوليات وتعيّنهم في وظائف عملية تعدّهم بشكل أفضل لتولي القيادة. مثلاً رقّت شركة "تارغت" (Target) مديرها المالي إلى منصب مدير عمليات في وقت سابق هذا العام. كما وسعت "مايسيز" (Macy’s) في 2023 مسؤوليات مديرها المالي ليشمل إدارة العمليات.
الخطر الأكبر الذي يتهدد الشركات هو حين ينعكس صعود المدير المالي على رغبة مجلس الإدارة في جعل خفض النفقات أولوية قصوى. فقد أصبحت "كفاءة الإنفاق" الشغل الشاغل على امتداد الشركات الأميركية، وهو أمر يمكن أن يتحول سهولة إلى خفض للنفقات لا تُحمد عقباه.
لعل شركة "بوينغ" هي أفضل حالة دُرست عن هذا، فقد قال بيل جورج، الرئيس التنفيذي السابق لـ"ميدترونيك" (Medtronic)، وهو اليوم زميل تنفيذي في كلية إدارة الأعمال في جامعة "هارفرد" إن الشركة "تقدم مثالاً كلاسيكياً عمّا يحصل حين يتولى أشخاص يركزون على خفض التكاليف قيادة الشركة... تولى أربعة رؤساء تنفيذيين يركزون على الشأن المالي في قيادة الشركة، واليوم تدفع ثمناً باهظاً لذلك".
بدأ تحوّل "بوينغ" من شركة يقودها مهندسون إلى شركة يحكمها المحاسبون في منتصف التسعينيات، حين استحوذت "بوينغ" على شركة "ماكدونيل دوغلاس" (McDonnell Douglas)، وتتابع على قيادتها بعد ذلك رؤساء تنفيذيون أتوها من "جنرال إلكتريك". وقد التزموا جميعاً بمعظم خطط العمل المستندة إلى الأرقام التي تتلمذوا عليها على يد جاك ويلش، والقائمة على خفض النفقات وتعهيد الإنتاج إلى الخارج وتسريح الموظفين وإعادة شراء الأسهم.
بحلول بداية الألفية، كانت "بوينغ" تعهّد معظم إنتاجها للطائرات وأيضاً بعضاً من تصاميمها، إلى أطراف خارجية. وقد كوفئ المساهمون على نموذج التصنيع الذي وُصف بـ"الخفيف لناحية رأس المال". وأفادت مجلة "فورتشن" بأن بين 2014 و2020، كان إنفاق الشركة على إعادة شراء الأسهم أكبر بثلاث مرات من الإنفاق على تطوير الطائرات التجارية.
قال النقاد إن عواقب التركيز على الربحية على حساب الجودة ظهرت بشكل مدمّر بين 2018 و2019 حين تسبب تحطم طائرتين من نوع "بوينغ 737 ماكس" بمقتل 346 شخصاً، واستمرت عيوب التصنيع تلاحق الشركة منذ ذلك الحين.
في عام 2004، صرّح رئيس "بوينغ" التنفيذي حينئذ هاري ستونيسيفر علناً بما كان يُهمس به سرّاً، فقال في مقابلة مع صحيفة "شيكاغو تريبيون": "حين يقول الناس إنني غيرت ثقافة (بوينغ)، فهذا كان متعمداً، وذلك حتى تُدار كشركة أعمال بدل شركة هندسية. إنها شركة هندسية عظيمة، ولكن الناس يستثمرون في الشركات لأنهم يريدون جني الأموال".
هنا بالذات تكمن خطورة السماح للمحاسبين بتولي القيادة، إذ تنسى الشركة فجأة أن وظيفتها صنع منتج ذي جودة عالية وليس أن تحقق مكاسب فقط.