بلومبرغ
كان من السهل فهم جاذبية تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" عند ظهورها في بداية العقد الحالي، فالقيام بالمشتريات أسهل إن لم تكن مضطراً لدفع ثمنها مسبقاً.
وكان من الواضح أيضاً أن مثل هذه التطبيقات تستهدف جمهوراً محدداً، أي أبناء الجيل "زد" وجيل الألفية الذين لديهم رغبة مندفعة للشراء، ولكن يبغضون البطاقات الائتمانية. ولكن اليوم، يشكّل المتقاعدون وغيرهم من أصحاب الدخل الثابت، واحدة من فئات المستخدمين الأسرع نمواً لهذه التطبيقات، في حين أقصى ارتفاع معدلات الفائدة بعض الوافدين الجدد إلى القطاع. ولكن ما الذي لم يتغير؟
تحوم الكثير من الشكوك حول الطريقة التي تجني فيها شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" أموالها على المدى الطويل، وما إذا كانت تؤمّن فعلاً بديلاً أوفر عن البطاقات الائتمانية، أو أنها مجرد وسيلة جديدة لجذب المقترضين لمراكمة مستويات غير مدروسة من الديون.
1. كيف تعمل تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً؟
تعمل هذه التطبيقات عادةً عبر السماح للمستهلكين بتسديد قيمة مشترياتهم على ثلاثة أو أربعة أقساط.
وكثيراً ما توزّع شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" هذه الأقساط على عدّة أسابيع، وغالباً من دون تقاضي أي فائدة، على الرغم من أن الكثير منها تفرض غرامات في حال التأخر بالدفع.
وكان الإنفاق باستخدام تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" ارتفع من 33 مليار دولار عام 2019 إلى 300 مليار دولار عام 2023، بحسب الشركة البحثية "غلوبال داتا" (GlobalData)، وهي تتوقع أن يترفع هذا الرقم إلى 570 مليار دولار بحلول عام 2026.
2- هل هذه فكرة جديدة؟
ليس فعلاً. فالتقسيط هو نوع من الائتمان الذي تعود جذوره إلى القرن التاسع عشر، وقد ترافق انتشاره مع انطلاق الثورة الصناعية التي وضعت المزيد من السلع الاستهلاكية في متناول الجمهور إذا كان قادراً على دفع ثمنها.
ولعلّ أشهر الأمثلة على ذلك، ماكينات الخياطة "سنغر" التي كانت تباع تحت شعار "دولار الآن، ودولار بعد أسبوع". ثمّ اتسع نطاق التقسيط الأسبوعي أو الشهري، مع سعي صانعي المفروشات وآلات البيانو والمعدات الزراعية والسيارات لوضع منتجاتهم في متناول شريحة أكبر من المستهلكين.
أسهمت بعدها بطاقات الائتمان في توسيع ممارسة تأجيل الدفعات هذه لتشمل مشتريات أصغر. إلا أن الشباب الذين يجذبهم مفهوم "اشتر الآن وادفع لاحقاً"، عادة ما ينفرون من البطاقات الائتمانية، فبشكل عام، يتخوّف المتسوقون الشباب من الشركات التي تتربّح من تخلّف المستهلكين عن دفع ديونهم.
اقرأ أيضاً: نمو نموذج "اشترِ الآن وادفع لاحقاً" يثير قلق هيئات حقوق المستهلكين
3- ما سرّ نجاح تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"؟
يعزى هذا النجاح لأسباب عدّة، منها طفرة التسوق الإلكتروني خلال فترة جائحة كورونا، يضاف إليها الاستثمارات التي تدفقت نحو مجموعة من الشركات الناشئة الجديدة التي طرحت تطبيقات سهلة الاستخدام استهدفت الشباب الذين يقومون بمشتريات بقيمة 200 دولار وما دون، ومنها "كلارنا" (Klarna) و"أفترباي" (Afterpay) و"أفيرم" (Affirm) و"زيب" (Zip) و"زيلش" (Zilch).
لم تكن معظم خدمات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" مصمّمة لتستخدم في تسديد دفعات كبيرة، بل تهدف بشكل عام لتمكين المستهلك مثلاً من شراء سترة لا تُفوَّت يكون قادراً على تسديد ثمنها لاحقاً بسرعة. كما لا تُخضع هذه التطبيقات المستخدم عادةً إلى تحقيق ائتماني معمّق من شأنه أن يبطئ عملية الشراء الأولى، ما ساعد أيضاً على اتساع انتشار هذه التطبيقات. كما أن الافتقار للقواعد الناظمة ساعد إلى حدّ ما في النموّ المدهش لهذا النوع من لتسهيل الائتماني السريع.
اقرأ أيضاً: الحذر من طفرة تطبيقات الدفع ضروري لجيل الألفية
4- ما هي التغيرات التي طرأت على القطاع؟
ركزت تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" في البداية على الموضة، فيما شكّل أبناء الجيل "زد" وجيل الألفية الجزء الأكبر من قاعدة عملائها. إلا أن الجمهور المستخدم لهذه التطبيقات الائتمانية ما لبث أن توسّع.
وفي ديسمبر 2023، قالت شركة "كلارنا" إن الفئة العمرية من ستين وما فوق أصبحت الأسرع نمواً، وقد أصبحت الأدوات المنزلية وأدوات الاعتناء بالحدائق إحدى السلع الأكثر شعبية التي يشتريها المتسوقون عبر التطبيقات.
يعزى ذلك بجزء كبير منه إلى الزيادة الكبيرة في معدلات التضخم في السنوات الماضية، ما دفع بالمستهلكين من كلّ الأعمار للبحث عن وسائل تتيح لهم الاستفادة القصوى من أموالهم، أو تأجيل دفع الفواتير. ولم يعد المستهلكون يكتفون باستخدام تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" للقيام بمشتريات لمرّة واحدة، بل باتوا يستخدمونها لتسديد الدفعات المتكررة، مثل فواتير الكهرباء وشراء الوجبات من المطاعم وحتى شراء البقالة، ما أثار قلق الهيئات الناظمة.
5- كيف كان تقدم شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"؟
بعد فترة من النموّ السريع في البدايات، أدّت إلى تقييمات مبالغ فيها لبعض الشركات الجديدة، عادت هذه الشركات وتعثّرت.
في عام 2022، انخفضت قيمة "كلارنا" بشكلّ كبير من 46 مليار دولار إلى 6.7 مليار دولار، فيما تراجعت قيمة أسهم "أفيرم" بنسبة 90% بحلول نهاية العام، وخسرت "زيب" نحو 95% من قيمتها. (عادت قيمة الشركات وارتفعت إلى حدّ ما بعد ذلك).
وقد نجم ذلك عن ثلاثة أحداث، أحدها مسارعة منافسين جدد لدخول القطاع، من بينهم كبرى شركات التقنية مثل "أبل" و"أمازون" والبنوك التجارية مثل "إتش أس بي سي" و"باركليز" وشركات وول ستريت مثل "غولدمان ساكس" و"سيتي غروب"، إضافة إلى نشوء لاعبين كبار في أسواق لم تكن مغطاة من قبل بما فيه الكفاية، مثل شركة "تابي" في الخليج، و"هوبي" (Huabei) في الصين.
اقرأ أيضاً: بعد جيل "زد".. خدمات "ادفع لاحقاً" تستهدف إقراض الشركات
أمّا العامل الآخر فيعود إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي هندستها العديد من البنوك المركزية في مسعى لكبح التضخم. أسفر ذلك عن ارتفاع التكاليف التي تكبدتها شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"، بما أنها تستدين المال الذي تدفعه إلى التجار أو تقرضه إلى المستهلكين، وقد ازداد هذا العبء عليها مع ازدياد قيمة القروض.
كما أن ارتفاع التضخم تسبب في تعثّر المزيد من قروض "اشتر الآن وادفع لاحقاً". وفي النصف الأول من 2022، أعلنت "كلارنا" أن خسائرها تضاعفت ثلاث مرات نتيجة ارتفاع التكاليف التشغيلية وخسائرها الائتمانية. ولكنها أعلنت لاحقاً أن المزيد من الأشخاص عادوا لتسديد ديونهم في الوقت المحدد، وانخفضت معدلات التخلف عن الدفع إلى أدنى معدل لها عند 1%. مع ذلك، فإن نحو ربع مستخدمي تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" تخلفوا عن تسديد دفعة أو دفعتين خلال الأشهر الستة التي سبقت ديسمبر 2023 في المملكة المتحدة.
6- ما هو نموذج الأعمال الذي تتبعه تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"؟
تتبع هذه التطبيقات نماذج متعددة، ولكنها تشترك في أمر واحد. فحين يستخدم المستهلك تطبيق "اشتر الآن وادفع لاحقاً" لتسديد الدفعات، فإن التطبيق يدفع معظم التكلفة سلفاً، حيث يسدد للتاجر المبلغ بالكامل. ثمّ يعود المستهلك لتسديد المبلغ إلى الشركة على أقساط.
وبما أن هذه الشركات لا تفرض فوائد عادة، فهي تلجأ إلى مصادر متنوعة لتحقيق الإيرادات، فمنها من تكسب المال من خلال فرض رسم صغير على بائعي التجزئة، ومنها من تفرض رسوم تأخير على المستهلكين، فيما تحقق أخرى الأموال من خلال الإعلانات، وقد أطلقت أيضاً نماذج اشتراكات من أجل إنشاء المزيد من القنوات بغية تحقيق الإيرادات. كما أبرمت العديد منها شراكات مع مؤسسات ناشطة في قطاع السياحة والسفر، فيما أطلقت أخرى خدمات الخصم الفوري أيضاً.
اقرأ أيضاً: قروض "اشتر الآن وادفع لاحقاً" تستأثر قلوب معظم المتسوقين حول العالم
7- من أين تأتي هذه الشركات بالمال للدفع إلى التجار؟
غالباً ما تلجأ شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" إلى البنوك الشريكة كمصدر للتمويل. كما تموّل بعض الشركات الناشئة الدين من المستثمرين لتتمكن من تسديد تكلفة المشتريات سلفاً. مثلاً، تسهيلات الدين من "زيلش" هي مموّلة من "غولدمان ساكس"، أما "كلارنا" فهي مصرف، بالتالي يمكنها استخدام إيداعات العملاء في الحسابات المصرفية الاعتيادية المفتوحة لديها في السويد وألمانيا لتمويل نشاطها.
ما هي الجوانب السلبية لتطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً"؟
تعرب الهيئات الناظمة وتلك المدافعة عن المستهلكين عن قلقها من أن تشكل وسائل الدفع هذه نوعاً من الاقتراض غير المسؤول. إذ يمكن للمستهلكين الذي يواجهون تسارعاً في التضخم وارتفاعاً في معدلات الفائدة، أن يراكموا الديون من خلال استخدام تطبيقات مختلفة، ما يدفعهم للسحب على المكشوف من حساباتهم المصرفية أو الاستدانة بواسطة البطاقات الائتمانية من أجل تغطية قروض تطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً".
وكان "مكتب نصائح المواطنين" (Citizens Advice Bureau) في المملكة المتحدة وجد أن واحداً من أصل كلّ خمسة مستخدمين لتطبيقات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" تخلّف عن تسديد واحدة من الدفعات على الأقل أو تأخر في تسديدها خلال الأشهر الـ12 الماضية، وأن نحو ثلث الأشخاص الذين ترتب عليهم تسديد دفعات في الشهر الماضي استدانوا المال لدفع أقساطهم.
وبشكل عام، فإن احتمال أن تقود تطبيقات "ادفع الآن واشتر لاحقاً" إلى اقتراض متسلسل، قد يتسبب في نشوء مخاطر مجهولة للنظام المصرفي.
تدعو هيئة الإدارة المالية البريطانية لإخضاع القطاع إلى قيود ناظمة، في حين يتعين على شركات "اشتر الآن وادفع لاحقاً" في أستراليا الالتزام بموجبات الإقراض المسؤول، وأن تكون حاصلة على تراخيص ائتمانية أسترالية، فيما كانت ولاية كاليفورنيا قد فرضت رسوماً على المقرضين غير المرخصين. تزعم الشركات نفسها أنها تقدم بدائل أقل تكلفة لبطاقات الائتمان مرتفعة الفائدة والسحب على المكشوف وخدمات الائتمان المتجدد التي قد تشكل مصادر تمويل أخرى للعملاء.