الشرق
في وقت اعتبر رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي في دافوس نشاط القطاع الخاص مصدر النمو لاقتصاد البلاد، فإن ما رشح عن مشروع قانون موازنة 2024 الذي أعدته حكومته وأقره مجلس النواب مع تعديلات، يوحي بإلقاء "عبء" إضافي على القطاع الخاص تحديداً.
وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام قال في تصريحات لـ"الشرق"، إن انعكاس الموازنة على الاقتصاد والقطاع الخاص "غير إيجابي على المديين القصير والطويل، وفيها انعدام للرؤية الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة لتحقيق نمو".
وأضاف أن "التوقيت غير مناسب لفرض ضرائب ورسوم"، نظراً لأن البلد "بحالة انكماش اقتصادي ويعاني من تدهور قيمة العملة الوطنية"، ولأن فرض هكذا رسوم "يعقّد ويشل الحركة الاقتصادية"، مضيفاً أن هذه الموازنة "بُنيت على قاعدتين أساسيتين: الدولة بحاجة إلى زيادة التمويل وبسرعة، وضرورة اللحاق بسعر الصرف (في السوق الموازية) المرتفع"، منبهاً إلى أن هذه المعايير "غير صحيحة أو سليمة" للقطاع الخاص.
وتابع: "أنا كوزير اقتصاد، لا يمكنني الموافقة على هكذا موازنة أو القول إنها جيدة، لأنها ضد مبادئي. هذه موازنة اتفق الجميع، مجلس النواب والوزراء، على أنها أقل الشرور"، مضيفاً: "لا أستطيع القول إنها جيدة أو تفيد القطاع الخاص".
وبشأن نسب النمو المتوقعة والتي قدرها رئيس حكومة تصريف الأعمال في 2023 بنحو 1.5 إلى 2% ويمكن أن ترتفع في 2024 بسبب القطاع الخاص، قال وزير الاقتصاد إن لبنان توقع نسبة نمو بين 2 و3% نتيجة الموسمين السياحيين الصيفي والشتوي، ولكن استمرار حالة عدم الاستقرار في جنوب لبنان، في إشارة إلى التوترات العسكرية بين "حزب الله" وإسرائيل، "سيضر بنحو 1.5 إلى 2% من النمو الذي كان متوقعاً"، لا بل قد يؤدي إلى "انكماش إذا بقي الوضع على حاله".
فرض ضرائب جديدة
أثار إقرار هذه الموازنة غضب الهيئات الاقتصادية في لبنان، واستنسخ بعض المشاهد التي شهدها البلد في بداية الانهيار الاقتصادي عام 2019، على غرار طوابير الأشخاص الذين ينتظرون دورهم للحصول على المحروقات أو الخبز مثلاً.
أمين عام الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس اعتبر أن الضريبة "الخطيرة" التي رشحت عن مشروع الموازنة ولم يتم التأكد منها بعد، هي رفع الضريبة على أرباح المؤسسات من 17% إلى 25%، أسوةً بالضريبة على الدخل على الشريحة الأعلى من الأفراد.
شماس أشار في تصريحات لـ"الشرق"، إلى أن المؤسسات التجارية "الشرعية" تدفع هذه الضريبة، كما أنها تدفع ضريبة أخرى تصل إلى 10% عند توزيع الأرباح، ما يعني أنها تدفع قبل إقرار هذه الضريبة المزمعة نحو 25.3%.
مشروع الموازنة الذي صادقت عليه لجنة المال والموازنة يُظهر بشكل واضح تعويل الحكومة على الضرائب، إذ يفترض أن تبلغ الإيرادات الضريبية المتوقعة في 2024 نحو 229.7 تريليون ليرة لبنانية (الدولار في السوق الموازية يساوي 89 ألف ليرة) وهو ما يصل إلى 77% من مجمل الإيرادات الحكومية، مقارنة بـ19.5 تريليون ليرة في قانون موازنة 2022.
الضريبة على الشركات المستفيدة من الدعم
هذه الزيادة الضريبية المزمعة على الشركات ليست الوحيدة التي أثارت غضباً في أوساط الهيئات الاقتصادية الخاصة، فهناك ضريبة إضافية دفعت بعض القطاعات إلى التلويح بالإضراب، في وقت توقفت الشركات المستوردة للمحروقات عن تسليم المحطات لبعض الأيام احتجاجاً عليها.
اقرأ أيضاً: علاقة لبنان وتونس مع صندوق النقد.. "غموض وجمود"
يشرح رئيس جمعية تجار بيروت هذه الضريبة، بأنها تشمل الشركات التي استفادت من سياسة الدعم الحكومية التي بدأ تطبيقها في سبتمبر 2019.
سياسة الدعم شملت في البداية 3 سلع رئيسية هي القمح والأدوية والمحروقات، ثم زادتها حكومة حسان دياب لاحقاً إلى 30 ثم 300. وبموجب هذه السياسة، تتمكن الشركات من الحصول على دولار "مدعوم" بسعر أقل من أسعار السوق الموازية، مقابل استيراد كميات محددة من هذه المنتجات الأساسية وبيعها بسعر مدعوم للمستهلك، وفق شماس.
نقولا شماس أضاف أن هذه الضريبة التي أطلق عليها "استثنائية على أرباح استثنائية" أثارت غضباً، خصوصاً بسبب اللغط وعدم الوضوح بشأن ما إذا كانت ستطال الأرباح أم مجمل الإيرادات، مبدياً في الوقت ذاته تحفظاً على مبدأ فرض ضريبة بمفعول رجعي، خصوصاً أن سياسة الدعم كانت سياسة دولة.
تقديم ضمانات
نقيب الشركات المستوردة للمحروقات مارون شماس لم يذهب بعيداً في تبريره أسباب التوقف عن التسليم، إذ أكد في تصريحات لـ"الشرق" أن فرض ضرائب على حجم الأعمال أمر غير منطقي، خصوصاً أن الحكومة هي التي حددت هامش الربح وسعر البيع، في وقت أن الربح الصافي لهذه الشركات هو "أقل من 1%" على حسب تعبيره.
شماس أكد أن الشركات عادت إلى تسليم المحروقات بعد يومين من توقفها، وذلك بعد تلقيها ضمانات بأن الضريبة ستكون على الأرباح، وليس على إجمالي الإيرادات.
وفي تعليقه على الموازنة بشكل عام، أشار نقيب الشركات المستوردة للمحروقات إلى أنها تساهم في "خنق قطاع منتج"، معتبراً أن حجم الاقتصاد الموازي بات يفوق حجم الشركات "الشرعية"، ما يعني أن إيرادات الضرائب المفترضة ستكون أقل بسبب التهرب الضريبي، وبسبب توجه المستهلكين إلى الشراء من القطاعات "غير الشرعية" التي لا تدفع ضرائب، نظراً إلى أن كلفة المنتجات لديها أقل، منبهاً في الوقت ذاته إلى أزمة أخرى تعصف بالشركات، وهي "التهريب عبر الحدود من دون حسيب أو رقيب".
الاعتراض على هذه الضريبة لم يقتصر على الشركات المستوردة للمحروقات، رغم أنه القطاع الوحيد الذي لجأ إلى وقف التسليم بغرض التهديد، إذ أطلق نقيب أصحاب المطاحن أحمد حطيط صرخة اعتراض على هذه الموازنة بشكل عام، والضريبة المذكورة بشكل خاص.
واعتبر حطيط في تصريح لـ"الشرق" عبر الهاتف، أنه لا يجوز فرض ضريبة على سياسة دعم اعتمدتها الحكومة، وهي من حدد آليات الدعم وعناصر الكلفة ونسبة الأرباح، وفرضت على القطاع الخاص والشركات تنفيذها.
ونظراً إلى أن المادة التي تؤمنها هذه الشركات مرتبطة بالأمن الغذائي في لبنان، أكد حطيط أنها لن تلجأ لمرحلة وقف تسليم الطحين، ولكنه اعتبر أن إجراءات كهذه يمكن أن توصل القطاع إلى الإفلاس، وبالتالي توقفه قسراً.
وتوالت البيانات من الهيئات الاقتصادية التي تندد بهذه الضريبة، فقبل أيام، أعلنت نقابة مستوردي المواد الغذائية برئاسة هاني بحصلي في بيان، استهجانها وتحفظها الشديدين على هذه المادة من مشروع الموازنة، في حين اعتبرت "جمعية المستهلك" في بيان، الموازنة ككل "تعميماً للخراب"، معتبرةً أن الطعن بها "ضروري".
وقف التهريب
الضريبة التي فرضتها الحكومة تحمل في طياتها رسائل تفيد بأن الشركات التي استفادت من الدعم حصدت الكثير من الأرباح خلال فترة الأزمة من خلال استغلال أسعار الصرف المختلفة أو حتى تهريب المواد إلى دول أخرى.
لم ينكر من تحدثت معهم "الشرق" وجود عمليات تهريب، بل ذهبوا أبعد من ذلك وأكدوا رفضهم لهذه التصرفات، معتبرين أنه من غير المنطقي معاقبة شركات القطاع بأكمله بسبب وجود من عمل على استغلال الأزمة، داعين الحكومة إلى القيام بواجبها ومعاقبة الشركات المخالفة عوضاً عن القطاع بأكمله.
موازنة بصفر عجز: "حبر على ورق"
رئيس جمعية تجار بيروت وصف هذه الموازنة بأنها "محاسبية صرفة"، ولا تحتوي على أي "رؤية اقتصادية أو مقاربة إصلاحية"، معتبراً أنه من الصعب على القطاع الخاص "المنكوب منذ 4 سنوات" تحمل هذا العبء، خصوصاً في ظل وجود فراغ في هرم السلطة، في إشارة إلى غياب رئيس جمهورية، ووجود حكومة تصريف أعمال، كما أن البرلمان اللبناني لم يقر الإصلاحات المطلوبة منه لتمرير حزمة دعم من صندوق النقد.
الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أشار إلى أن تصفير العجز تم "على الورق"، ولكن العجز لن يكون صفراً في نهاية السنة نظراً إلى التضخم الكبير في النفقات، في حين أن الإيرادات "جرى تضخيمها أيضاً على الورق، ومن الصعب أن تتحقق".
مارديني الذي وصف الموازنة بأنها "موازنة تصريف أعمال" أشار إلى أنها تفتقر إلى إصلاحات هيكلية، إذ "لا تزال الحكومة تعتمد على النهج نفسه" المتمثل في "احتكار" القطاعات الأساسية مثل الكهرباء والإنترنت، والتي بدورها تعاني من مشكلات تخنق نمو القطاع الخاص، وتمنع القطاع الخاص من الاستثمار في هذه القطاعات.