لا تحتاج أكبر شركة عالمية لتصنيع البطاريات إلى التعاون مع شركات "فورد موتور" أو "تسلا". لكنْ العكس صحيح، فشركات صناعة السيارات الأميركية - والعالمية– التي تسعى جاهدة إلى التحول بسرعة للمركبات الكهربائية، هي التي تحتاج إلى خدمات هذه الشركة الصينية العملاقة.
في الأشهر الأخيرة، ثارت ردود فعل غاضبة بعد انتشار أنباء تفيد أنَّ شركة "كونتمبوراري أمبيركس تكنولوجي" (Contemporary Amperex Technology)، المعروفة اختصاراً باسم "CATL"، ستدخل إلى السوق الأميركية عبر شراكات مع شركات مثل "فورد" و"تسلا". كما أنَّ توجّه عدد متزايد من صنّاع السيارات نحو العمل مع هذه الشركة الصينية التي هيمنت بشكل منفرد على السوق لسنوات يطرح سؤالاً أكبر، وهو: كيف تمكنت شركة واحدة من تحويل نفسها إلى جزء أساسي لا غنى عنه في السوق، ويعتمد عليها العالم اعتماداً شديداً إلى هذه الدرجة؟
هيمنة مبنية على أسس قوية
برغم أنَّ كثيراً من الأشخاص ربما يرفضون الاعتراف بهذا الأمر في العلن، لكنَّ هيمنة "CATL" القوية لا تعتمد على حجمها فقط. فبطارياتها موجودة في سيارات "تسلا" و"مرسيدس" والعديد من المركبات الكهربائية التابعة لشركات أخرى، ودعمت الشركة - التي تتخذ من مقاطعة فوجيان الصينية مقراً لها- التكنولوجيا الواقعية، واستهدفت شراكات مع مؤسسات لها وزنها، واستفادت من الأسواق ذات المزايا التنافسية الكبيرة من أجل إنتاج بطارياتها بأسعار أقل دائماً مقارنة بنظيراتها.
"تسلا" تُؤمِّن معادن البطاريات بصفقات صينية طويلة الأجل
ليس هذا وحسب؛ إذ يعود جزء كبير أيضاً من الفضل في هذه الهيمنة إلى الطرق التي وسّعت بها الشركة نطاق إطلاق منتجاتها ومرافق تصنيعها الأساسية، ومن ذلك مثلاً: حصولها على حقوق الملكية الفكرية، وشراء حصص الأقلية. وعندما توفّرت لها الإمكانات اللازمة؛ بنت الشركة مصانع ضخمة، واستثمرت في مناجم المواد الخام لضمان إحكام قبضتها على الإمدادات. كما عززت بصمتها في سلسلة القيمة، ودعمت شركات السيارات الكهربائية الصغيرة.
أدى كل ذلك إلى بزوغ فجر إمبراطورية عالمية جديدة مترامية الأطراف لم تُقدّر حتى الآن حق قدرها، إذ تحوّلت الشركة الصينية العملاقة بفضل الشركاء والمصانع إلى جزء لا غنى عنه في مسيرة التحوّل العالمي نحو السيارات الكهربائية.
توسعات "CATL" الخارجية
في العام الماضي، ارتفعت إيرادات الشركة من خارج الصين بنسبة 176%، وشكّلت ما يقرب من ربع مبيعاتها. وفي اليابان، تعاونت "CATL" مع "دايهاتسو موتور" (Daihatsu Motor)، وهي شركة لإنتاج السيارات الصغيرة تابعة لـ"تويوتا موتور"، من أجل توريد بطاريات السيارات الكهربائية.
وفي إندونيسيا، استثمرت الشركة ما يقرب من 6 مليارات دولار في مناجم النيكل المملوكة للدولة، وهو مادة خام رئيسية. وهذه خطوة ذكية أخرى لأنَّ شركات صناعة السيارات مثل "تسلا" و"فورد" تتجه إلى هناك أيضاً. وفي تايلندا، التي عانت من التأخر عن ركب المركبات الكهربائية، أعطت "CATL" ترخيص التكنولوجيا الخاصة بها لشركة "آرون بلس"(Arun Plus)، التابعة لشركة النفط والغاز "بي تي تي" (PTT).
كانت شركة النفط والغاز الكبرى المملوكة للدولة قد أعطت دفعة للمركبات الكهربائية، وعقدت شراكة مع "هون هاي بريسيجن إندستري" (Hon Hai Precision Industry)، المعروفة أيضاً باسم "فوكسكون" (Foxconn)، والتزمت بضخ مليار دولار في إنشاء مصنع جديد. وفي بوليفيا، تساهم الشركة الصينية في بناء مخزونات من احتياطيات الليثيوم غير المستغلة في الدولة.
أما أكثر المشروعات الدولية طموحاً لشركة "CATL" فموجودة في أوروبا، إذ أدى تشديد الجهات التنظيمية هناك إلى تسريع اعتماد المركبات الكهربائية، وما تزال آفاق منتجات تخزين الطاقة مشرقة. وتمتلك الشركة مصانع في المجر وألمانيا، وتفكر في إنشاء مصنع ثالث في المنطقة. وهناك مئات الموظفين في هذه المصانع، مما يعزز الأهمية الاقتصادية لوجود "CATL" في تلك الدول.
صانعة البطاريات "كالب" تسعى لجمع 1.7 مليار دولار في بورصة هونغ كونغ
وبرغم أنَّ التوسع في الولايات المتحدة ليس ضمن أولويات "CATL"؛ فإنَّ العملاقة الصينية لم تُسقط السوق الأميركية من حساباتها. ففي 2020، اشترت "CATL" مصنعاً في جلاسكو بولاية كنتاكي، واستثمرت ما يقرب من 100 مليون دولار هناك قبل إطلاق قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، الذي أدى إلى ازدهار مصانع البطاريات، مع وجود خطط لتوظيف نحو 350 عاملاً. كما أنَّ ما يقرب من ثلث رأس المال مؤهل للدخول تحت مظلة برنامج كنتاكي للاستثمار. وقبل عامين من ذلك التاريخ؛ افتتحت الشركة مركزاً للمبيعات في ديترويت، وهو الأول لها على مستوى أميركا الشمالية.
أكثر من مجرد دعم سياسي
أن ننسب الفضل كله في صعود "CATL" إلى مساعدة إدارة بكين لها؛ يعد تبسيطاً مخلاً، فالدعم السياسي وحده لا يفسر كيف أصبحت الشركة ذات أهمية قصوى في سلسلة توريد السيارات الكهربائية.
ومما يتضح من جهود الشركات المصنّعة الأخرى؛ فإنَّ تصنيع بطاريات جيدة على نطاق واسع ليس أمراً سهلاً.
كيف يدعم بحث "تسلا" عن بطاريات أرخص هيمنة الصين؟
ولا شك أنَّ المنح والإعانات السخية التي قدّمتها بكين على البطاريات ساعدت الشركة. مع ذلك؛ فتلك المساعدات تشكل جزءاً ضئيلاً نسبياً من الإيرادات المتزايدة. والحقيقة هي أنَّ هناك شركات أخرى استفادت من سخاء الدولة أيضاً. وهذا لم يمنح "CATL" أفضلية كبيرة مقارنة بالشركات المحلية الأخرى.
ركائز النمو
يُبنى كل مصنع تابع لـ"CATL" الآن بتكاليف أقل، كما تدير الشركة إمدادات المواد الخام والأجزاء الداخلة في التصنيع بشكل فعال، وتستمر سيطرتها القوية على أنشطة البحث والتطوير.
كما تشير التقديرات إلى أنَّ السعة الإنتاجية للبطاريات سترتفع إلى 800 غيغاواط/ ساعة بحلول نهاية العام المقبل، أي أكثر من ضعف ما تحقق في نهاية عام 2022. وأنفقت الشركة ما يزيد قليلاً عن 48 مليار يوان (ما يعادل 6.97 مليار دولار أميركي) للقيام بذلك، وأعادت هيكلة عقود تسعير السلع الرئيسية بذكاء، مما ساعد في دعم هوامش الأرباح.
ومع توفّر أكثر من 5500 براءة اختراع محلية و1065 دولية لديها؛ حرصت "CATL" بشدة على حماية ملكياتها الفكرية، وشنّت معارك قانونية للحفاظ على قبضتها المُحكمة على تلك الاختراعات.
ثمن باهظ للتوسع
لكنَّ حلاوة هذا التوسع لم تأتِ دون نار، فقد انخفض إجمالي هوامش "CATL" إلى النصف في السنوات الست الماضية، وتراجع من 43.7% في 2017 إلى 20% حتى ديسمبر الماضي. مع ذلك؛ كان هذا دائماً هو الثمن الذي يجب دفعه للنجاح، عبر الموازنة بين هوامش الأرباح مقابل حصة السوق. ولطالما كان المستثمرون قلقين بشأن تراجع هوامش الأرباح، وما إذا كان ذلك سيعيق النمو في نهاية المطاف، لذلك قامت "CATL" مؤخراً بإعادة هيكلة طريقة تسعير البطاريات، ومن المفترض أن يساعد ذلك في خفض التكاليف على نطاق أوسع.
أما بخصوص دعم إدارة بكين لها؛ فيمكن القول إنَّه في ظل هيمنة بهذا الحجم، تسير "CATL" على خط رفيع للموازنة بين علاقتها مع بكين من ناحية، وعداء هذه الإدارة للشركات الخاصة الكبيرة للغاية من ناحية أخرى. ولكن يتوجب علينا مجدداً الإشارة هنا إلى أنَّ أحد أهم أهداف الصين التي لا تنقطع يتمثل في الحصول على شركة تكنولوجيا عملاقة وقوية ذات منتج مهم عالمياً، بحيث تكون أداة رئيسية لتعزيز نفوذها في علاقتها مع الولايات المتحدة.
ومع مواصلة مثل هذا النفوذ، وفي ظل انتشار قبضتها القوية بجميع أنحاء العالم؛ من الصعب تخيّل استبدال "CATL" أو تكرار قصة نجاحها في أي وقت قريب.