بلومبرغ
اندلع مسلسل العداء مجدداً على وسائل التواصل الاجتماعي، بين المشاهير من فئة "ذكور ألفا" (أو المؤثرين من الرجال) في مجال العملات المشفرة على هذه المنصات. تمحورت المعركة هذه المرة حول ثروة من الأصول الرقمية تقدّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، والتي تبخرت في لمح البصر.
أزمة الثقة التي أدت إلى انهيار إمبراطورية العملة المشفرة العالمية مترامية الأطراف المملوكة للملياردير سام بانكمان-فريد، نجمت إلى حد كبير عن بعض التغريدات المضللة هذا الأسبوع من تشانغبنغ "سي زي" جاو، مؤسس شركة "بينانس هولدينغز" (Binance Holdings) المنافسة. فقد أثارت هذه التداعيات هزة في السوق التي لا تزال تعاني من الانهيار الداخلي في وقت سابق من هذا العام بسبب عملة "تيرا" على شبكة "بلوكتشين" بقيادة دو كوون، الذي يعد نجم تشفير آخر مشهوراً بمشاحنات ملتهبة عبر الإنترنت، والانتقادات اللاذعة من جانب المتابعين الذين توقعوا الفشل الذريع لمشروعه.
لطالما كان الانتقاد الرئيسي للعملات المشفرة هو أنه لا يوجد منها تقريباً ما هو مدعوم بأصول أو تدفقات نقدية في العالم الواقعي. ما تبرزه حلقات الشحن هذه هو أهمية، بل وهشاشة، ما يدعمها حقاً، وهم شخصيات أضخم من الواقع والقصص التي يروونها لجمهورهم. عندما تخوض هذه الشخصيات القيادية معركة في مكان مكشوف للجميع وينتهي الأمر بهم بأن تفضح انتقاداتهم الثغرات التي تزلزل عزيمة المستثمرين، يمكن حينها أن تنفجر الأمور بسرعة، ما يتسبب في ألم شديد للمستثمرين، الكبار منهم والصغار على حد سواء.
بالنسبة إلى بيتر أتواتر، الأستاذ المساعد في "ويليام آند ماري" (William & Mary) الذي يدرس دور الثقة في مجال التمويل، يمكن أن تكون المشاحنات عبر المنصات الاجتماعية أشبه بـ"تنافس دموي". فالأمر "لا يتعلق بالانتصار فحسب، بل بقهر خصومي والفوز على حسابهم"، على حد قوله.
ضاع كل شيء.. مستثمرون في بورصة "إف تي إكس" يستعدون للخسائر
قال أتواتر، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس "فاينانشال إنسايتس" (Financial Insyghts): "الأمر بديهي، لكن ربما يلزم القول، إنها بيئات شديدة الذكورية. ولذا، فهو نوع من المصارعين المعاصرين، مكتمل بالكثير من تلك الصور. فهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم محاربون أشدّاء".
كان بانكمان-فريد محارباً غير متوقع في هذه الساحة، وربما لعب ذلك دوراً في النجاح الهائل الذي تمتع به قبل سقوطه. فهو يتحدث بصراحة غلب عليها اللطف، لكنه متكلم وبليغ، كما أنه عقلاني. لكنه غريب الأطوار، ونادراً ما كان يبدل مظهره المعروف بالقميص القصير، والسراويل القصيرة، والأحذية الرياضية، كما أنه لا يمشّط شعره الكث، حتى عندما كان يتحدث في جلسة نقاشية بحضور رئيس أميركي ورئيس وزراء بريطاني سابقين. ربما يتسبب هذا النوع من المظهر في السخرية من "وول ستريت"، ولكن في عالم العملات المشفرة المناهض لما هو تقليدي والمتعارف عليه، ساهم ذلك في جعله مؤسساً نموذجياً في أعين أصحاب رؤوس الأموال الذين يتطلعون باندفاع وحماسة، لخوض عالم التشفير.
صفعة للمصداقية
إقدامه على الإدلاء بشهادته بصراحة أمام الكونغرس وطرح توصيات بشأن اللوائح، أعطاه أيضاً هالة من المصداقية وسط صناعة تفتقر إليها بشدة. كل هذا يزيد من صعوبة استيعاب السقوط الذي لحق به، بالنظر إلى سمعة هذه الصناعة كمرتع لـ"الأوغاد". إذا كنت لا تستطيع الوثوق حتى في سام بانكمان-فريد، فمن هو تحديداً الذي يمكنك أن تثق به الآن؟
قالت نويل أتشسون، مؤلفة النشرة الإخبارية "كريبتو إز ماكرو ناو" (Crypto Is Macro Now)، في مقابلة: "لقد كان واجهة للتنظيم الداعم لعالم التشفير. القلق الذي يساور الناس له ما يبرره، وهو الصفعة التي أطاحت بالمصداقية".
مع ذلك، كان بانكمان-فريد أحياناً مقاتلاً نشطاً، بطريقته الخاصة البارعة، في بيئة أشبه بدراما "مباريات الجوع" (Hunger Games) التي تجاوزت اللاعبين في الصناعة ممن يتنافسون على الفوز باهتمام المستثمرين، وسط سوق هابطة وسلسلة من حالات الإفلاس هذا العام.
في تغريدة أطلقها أواخر أكتوبر الماضي، والتي وضع فيها إشارة إلى حساب جاو، مؤسس "بينانس"، وتم حذفها منذ ذلك الحين، بدا أن بانكمان-فريد كان يستهدف منافسه، وقد استعرض موقفه في الحصول على إذن الجهات التنظيمية والسياسيين في واشنطن، حول كيفية إحلال النظام مكان الفوضى، قائلاً: "أنا متحمس لرؤيته يمثل الصناعة في العاصمة في المستقبل! آه، لا يزال مسموحاً له بالذهاب إلى العاصمة، أليس كذلك؟".
بعد أسبوع، غرّد جاو بالقول إن "بينانس" كانت تبيع كل ما تمتلكه من رموز "إف تي تي" (FTT)، وهي عملة مشفرة أنشأتها "إف تي إكس"، والتي تقدم رسوم تداول أقل عبر هذه البورصة وحوافز أخرى لحامليها. تلقت "بينانس"، وهي المستثمر السابق في "إف تي إكس"، الرموز عندما باعت حصتها في البورصة إلى شركة بانكمان-فريد في العام الماضي.
أشار جاو إلى "المكاشفات الأخيرة"، دون أن يقول بالضبط ما الذي كان يقصده. ومع ذلك، فقد فُسِّر ذلك على نطاق واسع على أنه إشارة إلى مقال نشر في الثاني من نوفمبر الجاري على موقع أخبار العملات المشفرة "كوين ديسك" (CoinDesk)، والذي صور ارتباطاً مثيراً للقلق بين "إف تي إكس" ومشروع آخر تابع لبانكمان-فريد، وهي شركة التداول "ألاميدا ريسيرش" (Alameda Research). وذكر ذلك التقرير أن "ألاميدا" لديها التزامات بقيمة 8 مليارات دولار، في حين أن الكثير من الأصول في ميزانيتها العمومية تتألف من رمز "إف تي تي". قال جاو في تغريدته:
تحذير سوء
أصرّ جاو، الذي غالباً ما يستخدم الأحرف الأولى من اسمه "سي زي"، عبر "تويتر" على أنه "في ما يتعلق بأي تكهنات حول ما إذا كانت هذه خطوة ضد منافس، فإنها هي ليست كذلك". مع ذلك، أضاف تحذيراً ينذر بالسوء، عندما قال: "في كل مرة يفشل فيها مشروع علناً، فإنه يؤذي كل مستخدم وكل منصة".
سرعان ما انخفضت قيمة رمز "إف تي تي"، حيث كان مستخدمو "إف تي إكس" يسارعون إلى سحب أصولهم من المنصة. ولا تزال عملية سحب العملات المشفرة التي تعادل سحب الأموال من البنوك جارية، ووصلت إلى ذروتها مع إيداعات طلبات الحماية من الإفلاس التي جرت أمس الجمعة، وشملت أكثر من 130 كياناً مرتبطاً ببانكمان-فريد.
فاقم الانهيار السريع لـ"إف تي إكس" الخسائر في "شتاء تشفير" دمر ثروات ضخمة لا تُعد ولا تُحصى. وانخفضت عملة "بتكوين"، وهي الأكبر من حيث القيمة السوقية التي تداولت عند 69 ألف دولار تقريباً في العام الماضي، لتصل إلى ما دون 16 ألف دولار في وقت ما خلال الأسبوع الجاري. عانت كل العملات الرقمية تقريباً، إذ تهاوت كل من "إيثر" و"بولكادوت" (Polkadot) و"دوج كوين" (Dogecoin) وغيرها. وانهارت "إف تي تي" بنسبة 90% تقريباً. وأوقع تراجع "إف تي إكس" أيضاً "بلوك فاي" (BlockFi) في فخ، وهي منصة متعثرة لإقراض الأصول الرقمية والتي بلغت قيمتها يوماً ما 3 مليارات دولار، والتي حصلت عليها عن طريق خط ائتمان من "إف تي إكس يو إس" (FTX US). وقالت الشركة إنها ستوقف عمليات سحب العملاء مؤقتاً، مشيرة إلى "عدم الوضوح" بشأن وضع شركات "إف تي إكس يو إس" والشركات الأخرى التابعة لبانكمان-فريد. ولا نعرف بعد، ما هي التداعيات الأخرى التالية.
موارد محفوفة بالخطر
من المؤكد أن ملف إفلاس "إف تي إكس" هو دليل على أن الموارد المالية لإمبراطورية بانكمان-فريد كانت محفوفة بالمخاطر. لا يزال هناك العديد من الأسئلة غير المحسومة بشأن سبب توقف "إف تي إكس" عن تلبية طلبات السحب من العملاء، وما هو الدور الذي لعبه الرمز "إف تي تي" في مواردها المالية. إنها فوضى عارمة ستستغرق بعض الوقت من المحققين والمحاسبين القانونيين ومحكمة الإفلاس لكي يتم حسمها. جاو ليس مسؤولاً عن أي شيء من هذا بالطبع. ومع ذلك، فإنه لن يكون واضحاً أبداً ما إذا كان التدفق الثابت للأموال الناتجة عن "إف تي إكس" كافياً للتغلب على المشكلات والحفاظ على استمرار الشركة على المدى الطويل، إذا لم يكن جاو قد استهدف بانكمان-فريد بهذه الطريقة على الملأ.
قال ويلفريد داي، الرئيس التنفيذي لشركة "سيكيوريتايز كابيتال" (Securitize Capital)، المتخصصة في إدارة الأصول الرقمية: "إذا قرأت شكسبير، سوف تدرك أن الأمر كله يتعلق بالغطرسة والفخر والمعنويات. سام يريد أن يكون واجهة لبورصات العملات المشفرة المنظمة، في حين أن جاو لا يستطيع حقاً الوصول إلى واشنطن لفعل أي شيء. لذا، فإن مناوشاتهما معاً بطريقة خاطئة، قد تسببت في عواقب غير محسوبة".
أنانيون حتى النخاع
السهولة التي تتيح بها وسائل التواصل الاجتماعي للشخصيات المؤثرة في مجال التشفير الترويج لمشاريعهم، أو الدخول في جدال مع منافسيهم، تنطوي على قوة هائلة ومخاطرة جسيمة. كان دو كوون، رائد منظومة التشفير المفلسة "تيرا" (Terra) والتي تبخّرت قيمتها البالغة 60 مليار دولار في وقت سابق من هذا العام، أحد أكثر الشخصيات نفوذاً و"قتالاً" على صفحات "تويتر" الخاصة بالعملات المشفرة، قبل أن يثبت أن منتقديه كانوا على صواب. قائمة العداوات البارزة الأخرى في مجال التشفير طويلة. فقد اشتهر أليكس ماشينسكي، مؤسس مقرض العملات المشفرة "سلزيوس نتورك" (Celsius Network)، باتخاذ موقف مشاكس تجاه المنتقدين قبل انهيار "تيرا" وفوضى السوق الأخرى التي أجبرت شركته على الإفلاس. حتى جاك دورسي، المؤسس المشارك لـ"تويتر"، وصاحب رأس المال المغامر مارك أندريسن، خاضا خلافاً حول دور رأس المال المغامر في بناء الجيل الثالث من الإنترنت (web3) عبر شبكات "بلوكتشين".
بطبيعة الحال، تميل الصناعات الأخرى إلى اتخاذ قرارات مدفوعة بالأنانية وتؤدي في النهاية إلى الدمار. يقول مارك تشاندلر، كبير استراتيجيي السوق في "بانوكبيرن غلوبال فوركس" (Bannockburn Global Forex): "فكّر في نموذج إيلون ماسك وتويتر.. لكن في ظل وجود لاعبين في مجال التشفير، فالأمر واضح للغاية، إذ لا توجد طبقات من بيروقراطية الشركات والتسويق. وترى الأنانية الخالصة التي تتخفى من خلالها الشركات الأميركية خلف جداول البيانات، وخلف شهادات الماجستير في إدارة الأعمال. هذه الأنماط غير قائمة في عالم التشفير. فالأمر مكشوف تماماً".
كبار المسؤولين بـ"سلسيوس" يسحبون 30 مليون دولار قبل الإفلاس
الإرث الكامل لسقوط بانكمان-فريد لم يُشاهد بعد، لكن يعتقد الكثيرون بأنه أحدث تغييراً أبدياً في الصناعة بطرق كبيرة ومحدودة. تقول سادي راني، الرئيسة التنفيذية لصندوق التحوط الكمي الرقمي "ستريكس ليفياثان" (Strix Leviathan)، إنها ستنظر في المشاريع بشكل مختلف من الآن فصاعداً، وتراقب الشخصيات القيادية التي تميل بشدة إلى لعب دور "المؤثر" على وسائل التواصل الاجتماعي.
قالت عن مبتكر "بتكوين" الذي يُفترض أنه يحمل اسماً مستعاراً "ساتوشي ناكاموتو"، خلال مقابلة عبر بودكاست "وات غوز أب" (What Goes Up): "أقصد أن ساتوشي ناكاموتو كان على حق، من خلال بناء هذه المنظومة المذهلة، ثم عدم الكشف عن هويته أو ماهيته أبداً. ساتوشي ليس حاضراً كمؤثر لما يحدث، وهو أمر أشبه بالسحر حقاً. السبب الوحيد الذي يجعلني أرغب في مقابلتكم، هو الوقوف على كيف التزمتم الصمت عندما أخذت الأمور تسوء في بعض الأحيان؟".
'لعبت جيداً'
بالنسبة إلى بانكمان-فريد، فهو لم يقرر بعد التزام الصمت، أو إغلاق تطبيق "تويتر"، على الأقل، حتى بعد تنحيه عن منصب الرئيس التنفيذي لشركة "إف تي إكس" وتراجع صافي ثروته التي تزيد على 16 مليار دولار الشهر الماضي إلى قيمة أقرب لأن تكون صفر دولار في الوقت الحالي. لقد غرّد عشرات المرات خلال هذه الكارثة، وأعرب عن مشاعره بكلمات تحمل مزيجاً من الاعتذارات والتفسيرات والوعود ببذل كل ما في وسعه لعودة الأمور إلى نصابها لعملائه السابقين.
مع ذلك، فقد توقف عن توجيه الشتائم عبر التغريدات تماماً إلى منافسه. وقال في التغريدة رقم 20 من أصل 22 تغريدة يوم الخميس الماضي: