قبل عشرين عاماً، وبعد انتهاء الإجازات الصيفية؛ بدأ موظفو "إتش إس بي سي هولدينغز" الانتقال إلى مقرّهم الجديد العالمي اللامع في منطقة "كناري وارف" للأعمال في لندن، حيث كان المبنى الذي صمّمه نورمان فوستر واحداً من برجين جديدين يطلّان على أفق في شرق المدينة؛ في حين كان المبنى الآخر موطناً لبنك "سيتي غروب" الذي انتقل موظفوه إلى المبنى قبل ذلك ببضعة أشهر. في ذلك الوقت، كان هذان البرجان هما ثاني أطول المباني في المملكة المتحدة، وعكسا ثقة البنكين المتنافسين معاً ليكون أحدهما البنك الأكبر والأكثر هيبة عالمياً.
لكن بعد مرور عقدين، أصبح البرجان الآن بمثابة آثار لعصر قد مضى، إذ تقلّصتْ الطموحات العالمية لكل من "إتش إس بي سي" و"سيتي غروب"، واستُبدِلت بتركيز أضيق على الأسواق الأساسية. فمن جانبه خفّض "إتش إس بي سي" عدد البلدان والأقاليم التي يعمل فيها إلى 64 سوقاً وذلك بالانتقال من 88. كما يسعى أكبر المساهمين فيه، وهي مجموعة "بينغ آن إنشورانس" (Ping An Insurance) الصينية، نحو المطالبة بفصل عمليات البنك في آسيا. وفي العام الماضي، أعلنت "سيتي غروب" عن خروجها من 13 سوقاً عبر آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وهي تحاول بيع شركتها المكسيكية "بانامكس" (Banamex).
سنوات البداية
التحول في استراتيجيات البنكين يتتبّع مسار منحنى العولمة الآخذ بالتغيّر.
في عام 2002 أطلق "إتش إس بي سي" شعاره "البنك المحلي العالمي" لوصف استراتيجيته. وفي السنوات العشر السابقة، قام بسلسلة من عمليات الاستحواذ في المملكة المتحدة، والبرازيل، والولايات المتحدة، وفرنسا، والمكسيك كجزء من استراتيجية الأعمال الثابتة المعروفة بـ"المقعد الثلاثي الأرجل" (three-legged stool)، لبناء وجود له في جميع أنحاء آسيا وأميركا الشمالية وأوروبا.
تأسّس البنك في هونغ كونغ عام 1865، ونما بشكل فاق سوقه المحلية حتى بدأ في استثمار رأس المال الفائض في الخارج. وكانت الاستراتيجية من بنات أفكار مايكل ساندبرغ، رئيس مجلس إدارة البنك بين عامي 1977 و1986، الذي قال: "إذا لم تقم بأي تحركات في هذه الأيام، فيعني أنَّك تتراجع إلى الخلف في الحقيقة".
اتبعت استراتيجية "إتش إس بي سي" المسار الذي وضعه بنك "سيتي بنك" المُنافس. ففي عام 1967؛ قام بنك "سيتي" بترقية والتر بريستون، رئيس أعماله في الخارج، إلى منصب الرئيس. كان بريستون قد أوضح بالفعل طموحاته خلال مأدبة عشاء قبل بضع سنوات، إذ قال: "كانت الخطة في قسم الأعمال الخارجية هي إنشاء فرع لـ"سيتي بنك" في كل دولة ذات أهمية تجارية في العالم. في حين كانت المرحلة الثانية هي البدء في الاستفادة من سوق الودائع المحلية من خلال وضع فروع متباعدة أو فروع صغيرة في الدول. أما المرحلة الثالثة؛ فتمثلت بتصدير خدمات العمليات البنكية الفردية والمعرفة من نيويورك".
سنوات الذروة
على غرار "إتش إس بي سي"، استثمر "سيتي" رأس ماله في جميع أنحاء العالم. وفي ذروته، امتلك البنك عمليات في أكثر من 140 دولة (تضم الأمم المتحدة حالياً 193 دولة).
بالإضافة إلى ذلك، بحلول الوقت الذي انتقل فيه موظفو البنكين إلى مكاتبهم الجديدة، كان بنكا "إتش إس بي سي" و"سيتي" الأكثر تنوعاً على مستوى العالم من بين البنوك الدولية الكبرى. حيث قال ويليام بورفيز، الذي خلف ساندبرغ في منصب رئيس مجلس الإدارة: "كان بيننا مشاحنات كالقطط والكلاب، لكنَّنا كنا قريبين جداً في بعض النواحي". ومع تضخم التجارة العالمية؛ استفاد البنكان من مكانتهما كوسيطين ماليين، وركبا موجة التكامل الاقتصادي العالمي بعد الحرب الباردة.
الانحسار
مع الأزمة المالية العالمية في عام 2008؛ بدأ نموذج العولمة السائد في الانحسار. ومع تحوّل البلدان إلى الداخل وازدياد هيمنة التكتلات التجارية الإقليمية؛ تباطأ توسّع سلاسل القيمة العالمية. وبعد زيادة مستمرة استحوذت معها على 29% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1993، بلغت تجارة السلع - مجموع الواردات والصادرات من السلع - ذروتها عند 51% في عام 2008 (وانخفضت في عام 2021 إلى 46%).
كما هو الحال مع العديد من نقاط التحول المهمة، لم يكن التحول واضحاً في البداية. حيث روّج "سيتي" لاستراتيجية أن يصبح "بنكاً حضرياً، يخدم العملاء في أفضل 100 مدينة حول العالم". وجادل فيكرام بانديت، مديره التنفيذي في فترة ما بعد الأزمة، بأنَّ "الناس في هذه المدن الكبرى لديهم قواسم مشتركة كعملاء، بشكل يفوق بكثير مما يجمعهم بحسب الجنسية؛ فمن منظور مصرفي، تشترك ساو باولو مع لندن، أكثر مما تشترك مع مدينة سان خوان جارتها". واصل "إتش إس بي سي" بنشر شعار "البنك المحلي العالمي" عبر معابر الطائرات في كبرى المطارات العالمية حتى عام 2016.
تراجع الطموح
مع انخفاض الربحية في مراكزه الخارجية، وزيادة تكلفة إدارة المؤسسات النائية، بالإضافة إلى اللوائح الأكثر صرامة في فترة ما بعد الأزمة؛ بدأت البنوك في التخلص من تطلعاتها العالمية. حرص خليفة بانديت في منصب الرئيس التنفيذي، مايك كوربات، على الخروج من عدد من الأسواق، في حين ضاعفت خليفته، جين فريزر، الخروج من عدة أسواق أخرى، بما في ذلك المكسيك التي تُعدُّ أكبر وجود للخدمات الفردية لبنك "سيتي" خارج الولايات المتحدة.
فضلاً عن ذلك، كان "إتش إس بي سي" ينسحب بالمثل من أسواق متعددة. وفي العام الماضي باع أعماله الفرنسية لشركة الأسهم الخاصة "سيربيروس كابيتال" (Cerberus Capital Management) مقابل يورو واحد بمحاولة منه للحد من خسائره. في حين عادت هونغ كونغ إلى المساهمة بنسبة 30% من قروض البنك، وهو مستوى لم نشهده منذ أكثر من 20 عاماً.
كذلك تواجه المجموعة الآن الاختبار الأكبر لها، وهو يتمثل بدعوة لتفكيك ما تبقى من انتشارها وفقاً لاستراتيجية "المقعد الثلاثي الأرجل". حيث تعتقد شركة "بينغ آن" أنَّ فصل أعمالها الآسيوية يمكن أن يُحرّر 8 مليارات دولار من رأس المال، ويخلق ما بين 25 مليار دولار و35 مليار دولار من القيمة السوقية الإضافية. وخلال عرض نتائجه المؤقتة في وقت سابق من هذا الشهر؛ ردّ بنك "إتش إس بي سي" على ذلك بأنَّ "التغيير الهيكلي يُخاطر بإضعاف اقتصاديات نموذج أعمالنا الدولي".
لكن مع تراجع العولمة؛ تضاءلت قيمة الشبكة المصرفية الدولية. ومن مقره العالمي بـ"كناري وارف" في لندن باتت استراتيجية "إتش إس بي سي" العالمية تعد بمثابة رجوع للوراء إلى عصر مختلف.