بلومبرغ
قد تنقسم المملكة المتحدة حول خطط يُمكن أن تتسبب في ثورة بالقطاع الإسكاني تماماً مثلما فعلت عمليات بيع المساكن الشعبية أثناء رئاسة مارغريت تاتشر لمجلس الوزراء في ثمانينيات القرن الماضي.
تعدّ خطط حزب المحافظين الحاكم، والتي تشمل احتمال تطبيق برامج للرهن العقاري بفائدة ثابتة لمدة 40 عاماً، أحدث جزء من فكرة "ديمقراطية ملكية العقارات" التي ناصرتها عدة أجيال من السياسيين في المملكة المتحدة. يشغل أصحاب العقارات ثلثي المنازل التي يملكونها، وتغيرت النسبة بشكل محدود خلال العقد الماضي في الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار وتراجع فيه نمو الأجور والمنازل الجديدة.
مع ذلك؛ ستستمر المساعي المعلنة من قبل بوريس جونسون في شهر يونيو لإيجاد سبل شراء المنازل بأسعار معقولة، برغم الاضطرابات التي اجتاحت الحكومة مع مغادرة رئيس الوزراء، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر. كما قدّمت بدائل جونسون من المرشحين ملامح سياساتهم الإسكانية مؤخراً. تعهّد ريشي سوناك بوضع قيود تجعل تشييد المنازل على الحزام الأخضر أشد صعوبة، في حين رأت ليز تروس ضرورة قيام البنوك بدراسة الإيجار الذي يدفعه طالب القرض قبل تحديد إمكانية تحمّله تكلفة الرهن العقاري.
يستطيع أكثر من نصف الأشخاص المستأجرين تحمّل سداد أقساط الرهن العقارية الشهرية، ولكن 6% فقط يمكنهم الحصول بسهولة على قرض عادي لشراء وحدة سكنية للمرة الأولى، بحسب تقديرات الحكومة. تقف في طريق المشترين شروط البنوك من ودائع مرتفعة القيمة وفحوص صارمة لقياس القدرة على تحمل التكاليف، التي جرى تشديدها بعد الأزمة المالية لعام 2008.
يبحث مسؤولو وزارتي الخزانة والمساواة والإسكان والمجتمعات منتجات الادّخار من أجل السماح للمستأجرين بتكوين الودائع، فضلاً عن برامج التأمين لتغطية المقترضين الأكثر خطورة.
"حق الشراء"، الذي وضعته تاتشر وباعت بموجبه نحو مليوني منزل اجتماعي للقطاع الخاص، قد يمتد إلى مستأجري جمعية الإسكان، وقد تُمرَّر القروض طويلة الأجل التي تصل إلى 50 عاماً تقريباً من الآباء إلى الأبناء. تتضمّن الأفكار الأخرى المطروحة على الأجندة، ولكن في ذيل القائمة، عملية بناء منازل بأسعار معقولة.
إلا أنَّ الاستراتيجية الجوهرية التي تثير بعض أقوى المشاعر تتعلق بخطة طور الإعداد تُركّز على الابتعاد عن السوق الذي يُسيطر عليه الاضطراب في المملكة المتحدة. تتنافس البنوك حالياً بشدة على تقديم قروض بأسعار فائدة ثابتة لمدة سنتين أو خمس سنوات فقط، وهذا يعني أنَّ المقترضين يُبدِّلون المنتجات باستمرار.
عوضاً عن ذلك، يُمكن جعل القروض بالأسعار الثابتة لعدة عقود أمراً سائداً، مثلما تفعل دول كالولايات المتحدة وهولندا. لم تُظهر وزارة الخزانة أي اهتمام بنسخ ما تقوم به شركتا "فاني ماي" (Fannie Mae) و"فريدي ماك" (Freddie Mac)، وهما شركتان مملوكتان للحكومة الأمريكية التي تقوم بتمرير مخاطر أسعار الفائدة على الرهون العقارية طويلة الأجل من المقرضين إلى دافعي الضرائب. قد تُستخدم بعض شركات التأمين لتحمّل بعض المخاطر.
إعادة هيكلة الرهون
قال غراهام إدواردز، المؤسس المشارك لمجموعة العقارات "تليريل تريليوم" (Telereal Trillium)، وعضو مجلس إدارة المركز الفكري لدراسات السياسات، إنَّ عدد "المستأجرين المتضايقين" يصل إلى 3.6 مليون تقريباً في المملكة المتحدة. أشار إدواردز في ورقة بحثية للمركز الفكري لدراسات السياسات عام 2019 إلى أنَّه إذا ركّزت طلبات قروض العقارات السكنية على قدرة المقترضين على تحمّل سداد الأقساط الشهرية بدلاً من القيمة الإجمالية للممتلكات، فإنَّ مليوني فرد سيصبحون من أصحاب المنازل.
تتغير ديناميات سوق الإسكان في المملكة المتحدة سريعاً ومن المرجح استمرار صعود أسعار الرهن العقاري، مع رفع بنك إنجلترا لأسعار الفائدة، وتركيز البنوك على التسعير لجذب المقترضين إلى صفقات تصل مدتها لخمس سنوات. - المحلل المصرفي جوناثان تايس
رأي "بلومبرغ إنتليجنس"
ينتمي إدواردز إلى مجموعة من خبراء الإسكان والاقتصاديين الدافعين نحو إصلاح نظام الرهن العقاري بدلاً من بناء منازل جديدة لأنَّهم يرون أنَّ أسعارها ستكون باهظة وستستغرق وقتاً طويلاً، فضلاً عن استحالة تنفيذها على نطاق كبير وبشكل كافٍ لحل المشكلة. تجذب الأفكار شخصيات بارزة في حكومة المحافظين، ربما لأنَّهم يدركون أنَّ 57% من ملاك المنازل منحوا أصواتهم لحزبهم في الانتخابات العامة الأخيرة، وفقاً للمؤسسة البحثية "غلوبال كاونسل"(Global Council) .
بعد فشل برنامج "هيلب تو باي" Help to Buy في تعزيز معدلات شراء المنازل بشكل عام، وتفشي وباء كوفيد-19 الذي أجّل أعمال الاستراتيجيات الأخرى؛ يعتقد إدواردز أنَّ قضية الإسكان عادت حالياً إلى دائرة الضوء بغض النظر عن التغيير القادم في رئاسة الوزراء.
قال إدواردز: "بالنظر إلى المكانة الحيوية لملكية المنازل في القيم الأساسية لحزب المحافظين، وحجم التقدم المُحرز في هذا المجال، والالتزام بالبيان الرسمي؛ سيكون عدم تشجيع استمرار هذا المشروع من قبل الفريق القيادي الجديد للمحافظين مفاجئاً إلى حد ما".
تحذيرات من الديون
لا يوجد إجماع على أنَّ التغييرات تقدّم أي مساعدة. يعني الإصلاح تخفيف معايير الإقراض وسط ارتفاع أسعار الفائدة وتأثير التضخم واحتمال انخفاض أسعار المنازل، مما قد يرهق الملاك الجدد بقروض تزيد قيمتها عن منازلهم في عملية تُعرف باسم الملكية السلبية.
قال كيفن داود، أستاذ التمويل والاقتصاد بكلية إدارة الأعمال بجامعة "دورهام"، إنَّ الرهون العقارية التي تصل إلى 50 عاماً ستُصبح "وسيلة للتحايل السياسي وقد ترفع الطلب ثم الأسعار بشكل أكبر. هذه ليست حلولاً لأي مشكلة معقولة ونحن بحاجة إلى قفزة في عرض المنازل".
رأى إيان مولهيرن، المدير التنفيذي وكبير الاقتصاديين في معهد توني بلير للتغيير العالمي، أنَّ مجرد بناء المزيد من المنازل لن يحدث تغييراً جذرياً في فئة القادرين على تحمّل تكاليفها. قال مولهيرن في ورقة بحثية حديثة إنَّه لن يتطرّق إلى حقيقة أنَّ "العديد من العائلات وقعت في فخ تأجير المنازل الخاصة، بما في ذلك العائلات من ذوي الأطفال الذين ارتفع عددهم بثلاثة أضعاف عن منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين".
يخشى بعض كبار المصرفيين، الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم أثناء مناقشة السياسة الحكومية المحتملة، من تعرّض القطاع للمطالبة بتعويضات في حالة انخفاض أسعار الفائدة لاحقاً، وهو الأمر الذي سيثير غضب الناس المحاصرين بتعاقدات باهظة الثمن نسبياً. يلوح طيف الأزمة المالية الأخيرة في الأفق، لا سيما أنَّها اشتعلت بسبب قروض الإسكان الرخيصة والمُيسَّرة.
يقول المسؤولون في الجهات الرقابية، ومنهم أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، إنَّهم مستعدون للبحث في حلول مبتكرة في قطاع الرهون العقارية، ولكن يعتقد مراقبو السوق أنَّ خطط تحرير القطاع قد تواجه مع ذلك مقاومة من الهيئات التنظيمية.
ألغت لجنة السياسة المالية في بنك إنجلترا، التي تعمل على رصد المخاطر المحتملة، مطلباً يُلزم المقترضين بإثبات قدرتهم على سداد القروض حتى بعد انتهاء فترة أسعار الفائدة الثابتة. لكنَّ البنك أبقى على تدبير احترازي آخر يحدّ من عدد القروض الصادرة للعملاء الذين يقترضون أكثر من دخلهم بـ 4.5 ضعف، الأمر الذي يحد من الناحية الفعلية من قروض الرهن العقاري طويلة الأجل.
إجراء مطلوب
في حين لا تستطيع أو تتردد البنوك الكبرى في تحمّل الديون الأكثر خطورة؛ بدأت البنوك المتخصصة فعلياً في تقديم قروض مدتها 30 و40 سنة.
تعرض شركة "كينسنغتون مورتغيجز" (Kensington Mortgages) منذ شهر نوفمبر قروضاً عقارية تتراوح مدتها بين 11 و40 عاماً بفائدة ثابتة للأشخاص الذين لا يمكن التنبؤ بتدفقات دخولهم كفئتي أصحاب الأعمال الحرة وغير القادرين على تحمّل قروض قصيرة المدة. قالت فيكي هاريس، كبيرة الإداريين التجاريين للشركة، في مقابلة، إنَّ البنك المتخصص يطلع وزارة الخزانة البريطانية على الأمر بشكل دائم.
قال راي بولغر، كبير المديرين الفنيين لدى شركة الوساطة العقارية "جون تشاركول" (John Charcol)، إنَّ الشركة تعرض القرض الذي تصل مدته إلى 30 عاماً بفائدة ثابتة قدرها 4.15% على قرض الرهن العقاري الذي يصل إلى 60% من قيمة الوحدة السكنية، وفائدة ثابتة بمقدار 5.02% على قرض بنسبة 95% من قيمة الوحدة السكنية. بالمقارنة؛ يبلغ أدنى معدل فائدة حالياً في المملكة المتحدة 3.24% بثابت لعامين و3.21% بثابت لمدة 5 سنوات.
تتعاون شركة "كينسنغتون" وشركة التكنولوجيا المالية "مولو فاينانس" (Molo Finance) مع شركة تأمين المعاشات "روثساي لايف" (Rothesay Life)، التي تستطيع استخدام الدخل الموثوق على مدى طويل في دفع معاشات المتقاعدين مستقبلاً. ويحرص عدد متزايد من شركات التأمين على عقد صفقات خاصة لتمويل الرهون العقارية، وفتح سوق جديدة ضخمة محتملة، لكن يرى بعضهم ضرورة القيام بإصلاحات تنظيمية ضرورية لجعل ذلك ممكناً.
سوق جديدة
يمكن أن يؤدي هذا الاهتمام المبدئي من قبل الصناعة إلى إفلات الحكومة من المخاطر طويلة الأمد، وتبحث وزارة الخزانة في أمثلة فرنسا والدنمارك التي تبيع فيها البنوك سندات مغطّاة برهون عقارية إلى شركات التأمين على الحياة وصناديق التقاعد.
قال جيفري يو من "بنك أوف نيويورك ميلون" (Bank of New York Mellon): "هذه سوق كبيرة للغاية في أوروبا، في حين تظل غالبية الرهون العقارية هنا في بريطانيا مدرجة في الميزانيات العمومية للبنوك". إنَّ وجود سوق للسندات المضمونة بقروض الرهن العقاري وسيلة جيدة حتى تتخلّص البنوك من المخاطر، وتزيد من حجم الإقراض في أنشطة أخرى أو تخفّض تكلفة الائتمان".
ولكنَّه حذّر من أنَّ القروض مختلطة الأجيال قد تعني مستويات مختلفة من المخاطر. قال يو: "ربما يكون بالإمكان هيكلة قرض من قروض الرهن العقاري في صورة شرائح مختلفة تأخذ في الحسبان اختلاف التقييم الائتماني، ولكن هذا الأمر يتشابه إلى حد ما مع منتج التزامات الديون المدعومة بالأصول، ونحن نعلم جميعاً ما آلت إليه هذه الديون المهيكلة".
يبقى نجاح مبتغى الإصلاحيين قائماً على إبقاء القروض الجديدة بعيدة عن السقف البالغ 15% الذي حدّدته الجهات التنظيمية على الرهون العقارية بحجة اختلاف مخاطرها، وهذا يعني ضرورة احتفاظ البنوك برأس مال أقل مقابلها، لكي تستطيع منح العملاء عروضاً أرخص.
إرث تاتشر
مثلما أدت المساكن الشعبية لفوز تاتشر بأصوات جديدة في الثمانينيات؛ يُمكن أن يمنح تغيير ملكية المنازل الحديثة دعماً لحزب المحافظين في الوقت الذي يكافح فيه الاضطرابات الناجمة عن ضغط تكاليف المعيشة والسباق المؤلم لاستبدال زعيم أطاحت به الفضيحة.
ولكن لا توجد حلول سهلة في سوق الإسكان. قالت إيما بورنيل، المستشارة السياسية والمحررة السابقة للموقع الإخباري "ليبر ليست"(Labour List) المؤيد لحزب العمال المعارض: "بيع المساكن الشعبية أضرّ بكل جيل في السنوات المتتالية، ولكنَّه كان نجاحاً سياسياً لتلك المجموعة الواحدة في ذلك الوقت".
لكنَّها أضافت أنَّ الاستراتيجية الحالية تُشكِّل نوعاً مختلفاً من الهبات، قائلة: "إما أن تحصل هنا على منزل شعبي رخيص أو تحصل هنا على بعض الديون الباهظة وطويلة المدة حقاً. وهذان العرضان مختلفان".