أزمة سلاسل التوريد تهدد اقتصاد العالم بالهبوط

time reading iconدقائق القراءة - 19
سفن على مقربة من موانئ لونغ بيتش في كاليفورنيا - المصدر: بلومبرغ
سفن على مقربة من موانئ لونغ بيتش في كاليفورنيا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

اختلجت عربة الاقتصاد العالمي العام الماضي قبل توقفها على جانب الطريق، لكن ما إن تحركت مرة أخرى هذا العام حتى علقت في أحد أكبر اكتظاظات المرور في التاريخ.

توضح المؤشرات الجديدة التي طورتها "بلومبرغ إيكونوميكس" الحدود القصوى التي بلغتها المشكلة وفشل العالم في أن يجد حلاً سريعاً لها، وكيف أن الأزمة الكبرى لعام 2021 مازالت تتفاقم في بعض الأقاليم.

تحسب الدراسة كمياً ما هو جليّ للعيان في معظم أرجاء العالم، في المتاجر ذات الأرفف الفارغة وفي الموانئ، حيث تتزاحم السفن قرب الشواطئ، أو في مصانع السيارات، حيث يتوقف الإنتاج بسبب نقص الرقائق. يخيم على كل هذا ارتفاع أسعار كل شيء تقريباً.

قد تضطر البنوك المركزية، التي تتراجع فعلا عن آرائها بأن ارتفاع التضخم "مؤقت وانتقالي"، لمواجهة زيادة الأسعار عبر رفع أسعار الفائدة بأبكر مما هو متوقع.

يمثل ذلك تهديداً جديداً أمام تعافي الاقتصاد الذي يترنح، وقد يقطع ريح شراع أسعار الأسهم والعقارات.

يقف وراء هذه العقد خليط من شبكات النقل المثقلة بالكثافة الزائدة، ونقص العمالة عند مناطق اختناق رئيسية، وارتفاع الطلب في الولايات المتحدة الذي عززته برامج التحفيز المرتبطة بمواجهة الجائحة ويتركز على السلع أكثر من الخدمات.

ليست المشكلة مجرد أزمة في نقل أشياء هنا وهناك. بل أيضاً أن العالم مازال يعاني من أجل إنتاج ما يكفي من المنتجات.

باغت الانتعاش الاقتصادي هذا العام المنتجين بعد أن خفضوا طلبهم على المواد الأولية العام الماضي حين توقف المستهلكون عن الإنفاق.

موجات جديدة

اضطرت المصانع التي تنتج أحذية "نايكي" في فيتنام لتخفيض الإنتاج، لأن العمال المهاجرين تركوا معسكراتهم وعادوا إلى المقاطعات التي ينتمون لها خوفاً من فيروس كوفيد-19.

تواجه الصين، وهي مركز القدرات الصناعية في العالم، اندلاع موجات جديدة لانتشار الفيروس وتستجيب لذلك بعمليات إغلاق موجهة. ترتفع أسعار المنتجات فيها على أرض المصنع بنسبة 10% سنوياً، في أسرع زيادة لها منذ تسعينات القرن الماضي.

لدى تجميع تفاصيل المشهد المتفرقة، كشفت مؤشرات جانب العرض لدى "بلومبرغ إيكونوميكس" عن أزمات عجز تداني أعلى مستوى منذ 20 عاماً بالنسبة للولايات المتحدة. وسجلت المؤشرات المتعلقة بالمملكة المتحدة ومنطقة اليورو مستويات مرتفعة مشابهة.

تعتمد هذه المؤشرات على مجموعة واسعة من البيانات، من أسعار بوابة المصنع إلى معدل المخزون إلى المبيعات بالنسبة لتجار التجزئة، وحجم الطلب المتراكم بالنسبة لشركات القطاع الخدمي.

يشير الصفر إلى الأوضاع العادية، أما سالب واحد فيشير لوفرة في معروض السلع، ويشير رقم واحد إلى عجز في المعروض. تكشف هذه المؤشرات عن تحول مفاجئ من فائض المعروض قبل أزمة فيروس كوفيد إلى النقص الشديد الذي نراه حالياً.

تطويع السلاسل

السؤال الرئيسي الآن هو متى ستنتهي هذه المشكلات؟ وذلك بالنسبة للشركات التي تبيع منتجاتها في مختلف أنحاء العالم، وللمستهلكين الذين ينتظرون التسليمات، وللشركات الصناعية العالمية مثل "تويوتا"، التي خفضت إنتاجها في سبتمبر بأزيد من الثلث مقارنة بمستوى 2020 لأن نقص التوريدات عطل ما اشتهرت به من الإنتاج في الوقت الملائم.

حتى الشركات العملاقة مثل "أمازون" و"أبل"، التي اعتادت أن تطوع سلاسل التوريد وفقاً لما تريد، لا ترى تحسناً سريعاً في الموقف الحالي.

أعلنت "أمازون" أنها قد تخسر أرباحها في الربع الأخير من العام كاملة بسبب ارتفاع تكلفة العمالة وتنفيذ الطلبات. كما قالت "أبل" إنها فقدت مبيعات بقيمة 6 مليارات دولار بسبب عجزها عن تلبية الطلب، وقد تخسر أكثر منها في الفصل المقبل.

يُنتظر أن تبدأ أوضاع شحن البضائع بالتحسن بعد احتفالات السنة الصينية الجديدة في أوائل فبراير المقبل، "رغم أن الاضطرابات قد تستمر على الأقل حتى منتصف العام المقبل"، وفق تصريحات شانيلا راجاناياغام، محللة اقتصاديات التجارة لدى بنك "إتش إس بي سي".

تقول راجاناياغام إنه حتى حينئذ فإن استمرار الضغوط بسبب الطلب المكبوت وسعي الشركات لإعادة بناء المخزون قد يؤجلان لفترة حل أزمة سلاسل التوريد.

ما يلي ذلك منطقة مجهولة لم يطرقها أحد من قبل، ويعود ذلك جزئياً إلى عدد نقاط الاختناق في مسار العملية من خطوط التجميع حتى سلال التسوق في محال التجزئة. فيما ينتظر أحد الموردين مورداً آخر لتسليمه المدخلات، تغذي التأخيرات بعضها بعضاً عبر هذه السلسلة.

ترتبط الأنظمة اللوجستية عادة بموجات صعود وهبوط الاقتصاد العالمي بصورة نمطية متوقعة، حيث ينشط ارتفاع الطلب حركة التجارة ما يؤدي لارتفاع أسعار الشحن معلناً فترة ازدهار في شركات نقل البضائع، حتى تتجاوز طاقاتها التشغيلية حجم الطلب ثم تقع الأزمة.

غير أن جائحة كورونا أحدثت خللاً في نظام هذه الدورة. فحتى وسط دلائل تباطؤ النمو الاقتصادي، لم تكن مسارات التجارة الدولية تعاني من نقاط اختناق وتكدس مثلما هي الآن.

بعرض البلاد

تحمل أكثر من 70 سفينة راسية قرب ميناء لوس أنجلوس، على سبيل المثال، عدداً من الحاويات النمطية بطول 20 قدماً مملوءة بالبضائع تصل بين كاليفورنيا وشيكاغو لو اصطفت الواحدة وراء الأخرى.

حتى حين تبلغ هذه السفن رصيف الميناء، فلن يحدث شيء سوى أن حمولاتها سوف تتكدس ضمن آلاف الحمولات الأخرى العالقة في الموانئ بانتظار تحميلها على وسائل نقل أرضية، ما يتطلب توافر المزيد من سائقي الشاحنات والمقطورات في أجل قصير.

يستلزم حل هذه المشكلة في الأمد الطويل السيطرة على فيروس كوفيد-19، وإقامة بنية أساسية جديدة مثل زيادة عدد الموانئ عالية الكفاءة، وتحسين تقنية المعاملات الرقمية وسرعة الاتصالات.

تأتي حالات اختناق طرق الشحن في مناطق أخرى من العالم غالباً في أعقاب موجات انتشار لفيروس كورونا والظواهر المناخية العنيفة، مثل موجة الانتشار القوية الأخيرة لكوفيد-19 في سنغافورة.

كشف تحليل عن الزحام في الميناء عن زيادة في البضائع المتكدسة الإثنين الماضي في سنغافورة، التي تعد مركزاً للخدمات المالية واللوجيستية، مع رسو 53 سفينة حاويات على الميناء، وهو أكبر عدد للسفن الراسية منذ بدأت "بلومبرغ" رصد هذه البيانات في أبريل.

تشكل هذه مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تعتمد الملابس والسلع الإلكترونية المنزلية التي تملأ سلال التسوق على مدخلات أجنبية وأعمال التجميع. لن تنتهي هذه المشكلة في وقت قريب مع استمرار انخفاض معدلات التلقيح ضد كورونا في كثير من البلاد الآسيوية.

يقول سايمون هيني، مدير أول بحوث سفن الحاويات لدى شركة "دريوري" لأبحاث النقل البحري في لندن: "سنحتاج إلى قدر معين من الحظ حتى تتعافى سلاسل التوريد" بتجنب الكوارث المناخية أو بؤر انتشار جديدة لفيروس كوفيد "علاوة على مزيد من الوقت والاستثمار بزيادة الطاقة التشغيلية للخدمات اللوجيستية".

بالنسبة لاقتصاد عالمي يخرج من أعمق فترة ركود في التاريخ الحديث، فإن نقص المعروض جزئياً بسبب قوة الطلب يعتبر مشكلة إيجابية. المشكلة الأسوأ بوضوح تام هي المشكلة العكسية: أي وفرة المعروض بسبب استمرار الكساد في الاقتصاد وملايين العاطلين عن العمل.

غير أن هذا الخيار الأخف ضرراً ما يزال يتسبب بكثير من المشكلات في حد ذاته.

يرتفع معدل التضخم بدرجة تكفي ليكون خارج النطاق المريح لصناع السياسة النقدية. يبلغ معدل التضخم حالياً 5.4% في الولايات المتحدة، وقد يستمر عالقاً في نطاق 4% إلى 5% خلال العام المقبل إن لم تحل مشكلة العرض، حسب النماذج التحليلية لدى "بلومبرغ إيكونوميكس".

لا يعني ذلك أن العالم في مرحلة عودة ظاهرة الركود التضخمي على نمط سبعينات القرن الماضي، فقد استغرق الأمر عشر سنوات من النشاط الاقتصادي الزائد والإجراءات السياسية الخاطئة حتى يتجاوز التضخم في الولايات المتحدة 10% آنذاك.

لا يرجح أن يكرر بنك الاحتياطي الفيدرالي ونظراؤه نفس الأخطاء مرة أخرى. كما أن معدل البطالة أقل كثيراً من الذروة التي بلغها في سبعينيات القرن الماضي، علاوة على اتجاهه نحو الانخفاض.

مع ذلك، فإن البيئة السائدة التي قد يصح تسميتها ركوداً تضخمياً خفيفاً، تمثل تحدياً للبنوك المركزية.

سيسمح بقاء أسعار الفائدة عند مستوياتها المنخفضة حالياً باستمرار تعافي الاقتصاد، غير أنه يخاطر بزيادة مستمرة وكبيرة في الأسعار إذا بدأت الشركات والعائلات تتوقع مزيداً من نفس السياسات. أما السياسة النقدية التقشفية فستكبح التضخم ليس عن طريق معالجة مشكلة نقص المعروض، وإنما عن طريق الضغط على الطلب وخنقه. قد تصل هذه السياسة النقدية إلى ما يوازي وضعاً في الطب يعلن عنده الطبيب أن: "العملية نجحت لكن المريض مات".

يراهن المتعاملون الآن على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيزيد أسعار الفائدة مرتين في 2022، فيما أن أوسط آراء أعضاء "اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة" يشير أنه ليس هماك أي زيادة. يشير نموذج "بلومبرغ إيكونوميكس" على ردود أفعال بنك الاحتياطي الفيدرالي – أي السياسة التي يستخدمها استجابة للتغيرات الاقتصادية – إلى أن زيادة أسعار الفائدة حتى لو مرتين خلال العام المقبل لن تكفي فيما لو ارتفع معدل التضخم وانخفضت البطالة.

سياسات تقشفية

كانت توقعات تنفيذ سياسة نقدية تقشفية سريعة خاطئة فيما مضى، ويمكن أن تكون خاطئة هذه المرة أيضاً. قد يتراجع الطلب على السلع مع إزالة برامج التحفيز التي ارتبطت بانتشار الجائحة أو أن تتآكل الثقة بسبب مخاوف انتهاج سياسة مالية تقشفية.

سيؤدي كذلك تحويل الإنفاق من السلع مرة أخرى إلى الخدمات، وهو الحال في الولايات المتحدة، لتخفيف مشكلة اختلال التوازن بين نقص المعروض وارتفاع مستوى الطلب. علاوة على أن استمرار تباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين، ربما يؤدي لانخفاض شديد في أسعار السلع الأولية.

أضف إلى ذلك إمكانية أن تنتهي أزمة اختناق سلاسل التوريد أسرع من المتوقع. فالقراءة الأخيرة لمؤشر "بلومبرغ" الذي يقيس نقص الإمدادات كشفت عن تراجعه، رغم استمراره عند مستوى مرتفع تاريخياً.

تكمن المشكلة فقط في عدم وجود سابقة تاريخية تلقي مزيداً من الضوء على متى وكيف تعود الأوضاع لطبيعتها.

قال جون باتلر، رئيس "مجلس الشحن العالمي": "إن الوضع الحالي فريد من نوعه ويختلف تماماً عن الاضطرابات المنعزلة والمتفرقة في حركة الشحن التي شهدها العالم من قبل".

أضاف رئيس المجلس الذي يمثل كبرى شركات النقل البحري في العالم: "إن الطريقة التي ستنتهي بها مشكلة تكدس الموانئ وخطوط النقل الحالية في نهاية المطاف ستكون مختلفة وفريدة هي الأخرى".

تصنيفات