كيف يبدو الإبحار بسفينة شحن ضخمة محملة بآلاف الأطنان من الحبوب انطلاقاً من ميناء دولة تمزّقها الحرب لخوض المياه المزروعة بالألغام؟
أصبح هذا السؤال يحمل أهمية مع إطلاق مخطط جديد هذا الأسبوع يهدف بالسماح بتصدير شحنات الحبوب من الموانئ الأوكرانية. وبالفعل بسبب ذلك، تراجعت احتمالات ندرة الغذاء والاضطرابات السياسية إلى حد ما، لا سيما في الدول التي تعاني الجوع في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. لكن الإجراءات البحرية لم تُحسم بعد، وبالنسبة للسفن القليلة الأولى التي تبحر إلى الخارج، فإن التحديات هائلة.
فهل سيتمكن الأوكرانيون من تصدير الكمية الضخمة التي تفوق 20 مليون طن من الحبوب والتي باتت تشكل عبئاً على مرافق التخزين الخاصة بهم؟
أول السفن
لنتأمل الوضع المخيف الذي يواجهه بحّارة هذه السفن التجارية مثل سفينة "رازوني" التي ترفع علم سيراليون، والتي أبحرت يوم 1 أغسطس من أوديسا متجهة إلى لبنان حاملةً 27 ألف طن من الذرة.
للأسف في كثير من الأحيان، تكون نتيجة أول ملامسة للألغام غير المرئية المزروعة في المياه حدوث انفجار. فعندما كان قبطان "رازوني" ينطلق من الميناء، بالتأكيد كان يتحرك بقلق كمن يعبر جسراً يهتز وهو يراقب كلاً من الميناء وأطراف سفينته.
لأول مرة منذ الغزو الروسي.. سفينة حبوب تغادر ميناء أوديسا الأوكراني
النجاة من الألغام البحرية
استطاعت السفينة أن تبحر عبر حقول الألغام، وهي رحلة مرعبة حتى بالنسبة لأكثر البحارة خبرة. ففي الثمانينيات، واجهت البحرية الأمريكية الألغام عندما أغلقت إيران مضيق هرمز في إطار ما يسمى بـ"حرب الناقلات" بين الدول العربية وطهران. حين اصطدمت فرقاطة الصواريخ الموجهة "يو إس إس صمويل بي. روبرتس" بلغم وكانت على وشك الغرق، قبل أن يتم إنقاذها بواسطة فريق بطولي ضمن طاقمها أعضاؤه مدرّبون تدريباً عالياً نجحوا بالسيطرة على الضرر.
وعلى مدى فرق البحرية في الخليج، واجهت البحرية الأميركية حوادث اصطدام لعدد من سفنها الأخرى بألغام عائمة، بما في ذلك اصطدام السفينة الحربية "يو إس إس برينستون" في أوائل عام 1991 بلغم وهي كانت تحمل منظومة صواريخ "إيغيس" المتقدمة.
يتم إيلاء الكثير من الاهتمام في البحرية للألغام. التي يكون معظمها مربوطاً في قاع البحر، وتكون مواقعها محددة بعناية من قبل الدولة التي تضعها لتتمكن سفنها من العبور في ممرات آمنة.
استراتيجة الألغام
يمكن استخدام حقول الألغام بشكل دفاعي (كما تفعل أوكرانيا لثني أسطول البحر الأسود الروسي عن القيام بهجوم برمائي على أوديسا) أو بشكل هجومي كما فعل الإيرانيون خلال "حرب الناقلات"، عندما وضعوا ألغاماً عائمة في المياه الإقليمية ودفعوها نحو سفن الولايات المتحدة أو سفن الحلفاء.
ويمكن أن تنفجر الألغام بطريقتين: إما عبر التلامس المباشر بين جسم السفينة المعدني ومعدن اللغم ما يفعّل آلية الإطلاق على سطح اللغم؛ أو من خلال استجابة لتردد من صوت أو اهتزازات السفينة أو من الضغط الناجم عن مرور جسم السفينة فوق سطح اللغم ما يؤثر على نظام أسلحة اللغم ضد محركات السفينة.
وبالنسبة لكل من السفن الحربية التابعة للبحرية والسفن التجارية، فإن خط الدفاع الأول والأفضل هو امتلاك الاستخبارات الجيدة. وقد رافقت سفينة "رازوني" باخرة أوكرانية يرجح أنها تمتلك معلومات حول المواقع الدقيقة للألغام التي زرعتها البحرية الأوكرانية.
أوكرانيا تطمئن الأسواق.. صادراتنا من الحبوب تصل 3.5 مليون طن شهرياً قريباً
إجراءات السلامة
على الرغم من كل التكنولوجيا المتقدمة التي تمتلكها السفن اليوم، فإن العنصر الرئيسي الثاني لتجنب وقوع انفجار لغم هو المراقبة المرئية المُحكمة. إذ إن وجود نقاط المراقبة المتمركزة في أقصى السفينة وعلى الجانبين أمر بالغ الأهمية. بالنسبة لسفينة تجارية ذات طاقم صغير جداً، فهذا يعني أن المهمة تحتاج لكل فرد من أفراد الطاقم، لاستخدام مناظير تمشيط الأفق باستمرار بحثاً عن أي أجسام عائمة مجهولة.
في الحالة المثالية، يبحر المرء عبر ممرات تم تحديدها بوضوح على الخرائط وأيضاً تمّ التحقق منها بواسطة سفينة كاسحة للألغام. فتقوم الولايات المتحدة بتشغيل سفن كاسحة للألغام عالية الكفاءة يمكنها مسح مثل هذه الممرات أو تأكيد أنها خالية من الألغام بالفعل. ولدى "الناتو" قوة دائمة كاسحة للألغام تُدرّب باستمرار وتجري تدريباتها كفريق واحد. وفي عام 2021، وافقت المملكة المتحدة على تزويد البحرية الأوكرانية بسفينتين من تلك السفن، لكن الحرب أوقفت تلك الخطة.
روسيا تهاجم ميناء أوديسا في أوكرانيا بعد يوم من توقيع اتفاق لتصدير الحبوب
هناك إجراء آخر للسلامة يتمثّل في استخدام أجهزة استشعار علوية يمكنها اكتشاف الألغام، وعادة ما يتم ذلك بواسطة طائرات الهليكوبتر التي تعمل إما من الشاطئ أو من السفينة نفسها، على الرغم من أن الطائرات بدون طيار قد تقوم بهذه المهمة اليوم. تتمتع معظم السفن التجارية بسعة محدودة لمدرج الطيران، لذا فإن استخدام طائرة هليكوبتر صغيرة أو طائرة بدون طيار مع أول مجموعة من السفن العابرة إلى الخارج هو أمر منطقي.
التغلّب على الخوف
مع ذلك فإن جميع الاحتياطات التي يمكن تصوّرها ليست مثالية. فإذا شاهد الطاقم لغماً في الماء أمامه، فإن الخوف سيبدأ، حيث يعني ذلك أنك تُبحر في ممر غير خالٍ من الألغام. وقد يكون أفضل حل هو ببساطة محاولة "التراجع" -مثلما تفعل مع السيارة- والإبحار بأبطأ سرعة مستقرة للخروج من المنطقة.
من الممكن أيضاً تفجير لغم أو تعطيله باستخدام رشاشات عيار 50 من سطح السفينة أو طائرة هليكوبتر، لكن هذا ليس خياراً ممكناً بالنسبة للسفن التجارية مثل سفينة "رازوني". وهنا يكون وجود سفن حربية أوكرانية أو تابعة لـ"الناتو" ضمن نطاق طائرات الهليكوبتر أمراً منطقياً، فكل من رومانيا وبلغاريا وتركيا لديها قوات بحرية قادرة.
هذه الإجراءات غير المألوفة ستمر في ذهن قبطان أي سفينة تجارية، وتشعره بالقلق بينما يشق طريقه ويراقب البحر من أعلى السفينة.
فرق اختبار
سيتم اختبار بعض هذه الإجراءات الاحترازية في الأيام المقبلة، وهي قد نُظّمت من خلال مركز التنسيق المشترك الذي أنشأته تركيا وروسيا وأوكرانيا تحت مراقبة الأمم المتحدة. إذ سيتم فحص ومراقبة كل سفينة تحاول أن تخرج من الموانئ الأوكرانية الثلاثة التي يشرف عليها هذا الجهد المشترك -الموانىء: أوديسا وتشورنومورسك ويوجني- أثناء عبورها.
تركيا: أوكرانيا تبدأ تصدير الحبوب خلال أسبوع
هناك نحو 80 سفينة تنتظر الخروج من أوديسا، والكثير منها بحاجة إلى بحارة متمرّسين يغادرون منطقة حربية. بينما يُعتبر الساحل بأكمله على قائمة السواحل شديدة الخطورة وفقاً لشركة" لويدز لندن" (Lloyd’s of London).
بينما وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خطة التصدير هذه مُكرهاً، خوفاً من أن عدم إفراجه عن شحنات الحبوب، سيعني أن "الناتو" قد يفعل ذلك بالقوة، ويرافق الشحنات بالسفن الحربية. لكنه مع ذلك قد يحاول تخريب المخطط من خلال عمليات "السفن التي تحمل أعلاماً خاطئة" يلقي اللوم فيها على أوكرانيا، أو يستخدم وسائل سرية أخرى.
وفي الوقت الحالي، يتعيّن على الحلفاء الغربيين أن يفعلوا ما في وسعهم لدعم البحارة المدنيين الشجعان الذين يبحرون في هذه الطريق الخطرة.