صائدو غاز الميثان

time reading iconدقائق القراءة - 30
شارون ويلسون وهي توجه كاميرتها التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء نحو أحد الصهاريج في ضواحي ميدلاند، بتكساس. - المصدر: بلومبرغ
شارون ويلسون وهي توجه كاميرتها التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء نحو أحد الصهاريج في ضواحي ميدلاند، بتكساس. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تسمح أجهزة التكسير الهيدروليكي في أكبر حقول النفط الأمريكية بتدفق كميات هائلة من الغاز الطبيعي إلى الغلاف الجوي. ويحاول العلماء والنشطاء العثور على هذه التسريبات واحتجازها قبل أن ترتفع درجات الحرارة على الكوكب بصورة أكبر.

على ارتفاع خمسمئة ميل فوق سطح الأرض، كان القمر الصناعي "كوبرنيكوس سنتينل-5" (Copernicus Sentinel-5)، وهو قمر صناعي بحجم شاحنة صغيرة، يدور حول الكوكب منذ أربع سنوات، ويلتقط صوراً للغلاف الجوي الموجود أسفله. ويستطيع مستشعر الأشعة تحت الحمراء للقمر الصناعي رؤية الأشياء التي لا يستطيع البشر رؤيتها. وفي عام 2019، ألقى يوزونغ تشانغ، زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد، نظرة على بعض قراءات القمر الصناعي الأولى.

الميثان مقابل الكربون

كان تشانغ مهتماً بـغاز الميثان، وهو غاز غير مرئي عديم الرائحة. وعلى الرغم من أن ثاني أكسيد الكربون الناتج عن حرق الوقود الأحفوري هو السبب الرئيسي لظاهرة الاحتباس الحراري، فإن الميثان له قوة احترار أكثر من الكربون بمرات عدة، ويُعتقد أنه مسؤول عن نحو ربع الزيادة في درجات الحرارة العالمية التي يسببها البشر. وعندما وضع تشانغ قراءات القمر الصناعي على خريطة للولايات المتحدة، ظهر أكبر تركيز للغاز على شكل بقعة حمراء على مساحة 150 ميلاً في تكساس ونيو مكسيكو.

قام باحث ما بعد الدكتوراه بتحميل القراءات على كمبيوتر عملاق لحساب ما يتطلبه الأمر لتشكيل هذا النمط، وبعد أيام قليلة حصل على إجابة، إذ اكتشف تشانغ أن 2.9 مليون طن متري من الميثان كانت تتدفق إلى السماء كل عام. ووفقاً لأحد المقاييس، تسهم سحابة الغاز هذه في الاحتباس الحراري، مثلها مثل ما ينبعث من فلوريدا، بما في ذلك كل محطة طاقة، وزورق بمحرك، وشاحنة صغيرة في الولاية.

اقرأ أيضاً: الأقمار الصناعية ترصد تسرب الميثان من بؤرة غازات دفيئة بالجزائر

انحراف حوض البرمي

يسمي تشانغ -الذي يعمل حالياً في جامعة ويست ليك في هانغزو في الصين- هذه الظاهرة بـ"انحراف الميثان في حوض البرمي"، إذ يحدث هذا الانحراف مباشرة فوق حوض البرمي، وهو أحد أكثر المناطق إنتاجاً للنفط في العالم ويقع جنوب غربي الولايات المتحدة. وتنتج الآبار هناك غازاً طبيعياً أقل ربحية إلى جانب البترول، والغاز الطبيعي يتكون في أغلبه من الميثان. وأظهر بحث تشانغ أن كمية مذهلة من هذا الغاز -أكثر من ضعف ما تقدره حكومة الولايات المتحدة- تتسرب في الهواء دون أن تحترق. تخيل معي أن شخصاً ما أدار كل مقابض الموقد دون إشعال لهب. والآن، تخيل وجود 400 ألف موقد منتشرة عبر الجنوب الغربي للولايات المتحدة، تصدر أصوات هسهسة ليلاً ونهاراً، ولا تقوم بطهو شيء سوى الكوكب نفسه.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتصدى لتغيّر المناخ؟

يمكن أن يؤدي تحديد هذه التسريبات واحتجازها إلى إبطاء تغير المناخ أكثر من أي إجراء آخر تقريباً. فعلى عكس الكربون، يتحلل الميثان بسرعة نسبياً في الغلاف الجوي، وهذا يعني أن الجهود المبذولة لتقليصه يمكن أن تؤتي ثمارها في غضون جيل. وفقاً لأحد التقديرات الحديثة، يمكن تجنب ما يقرب من ثلث الاحترار المتوقع في العقود القليلة المقبلة عن طريق تقليل انبعاثات الميثان التي يسببها الإنسان، دون الحاجة إلى ابتكار تكنولوجيا جديدة أو خفض الاستهلاك. وقد يأتي بعض من ذلك عبر تنظيف مصادر أخرى، مثل مدافن القمامة وحقول تسمين الماشية (تجشؤ الأبقار مليء بالميثان). لكن حقول النفط والغاز هي أكثر الأماكن وضوحاً للبدء بها، لأنها توفر أكبر التخفيضات المحتملة بأقل تكلفة.

مشكلة مُلحّة

في السنوات القليلة الماضية فقط، جرى التركيز على الميثان كمشكلة مُلحّة، ويرجع ذلك جزئياً إلى التكنولوجيا الجديدة، والأبحاث العلمية الت تكشف عن الانسكابات، بدءاً من خطوط الأنابيب في روسيا، وصولاً إلى الآبار القديمة في وست فرجينيا. ويقول أحدث تقييم، نُشر في 9 أغسطس من قِبل علماء تدعمهم الأمم المتحدة، إن "التخفيضات القوية والسريعة والمستدامة" لهذه الانبعاثات أساسية لتحقيق الأهداف المناخية. وفي الولايات المتحدة لا يُحافَظ على تطبيق اللوائح، ففي كثير من الحالات يكون لمنتجي الطاقة ومشغلي خطوط الأنابيب حرية إطلاق غاز الميثان في الهواء دون التعارض مع أي قانون.

للتعويض عن دور اللوائح، تعمل المجموعات والنشطاء غير الربحيين مراقبين خاصين، ويديرون برامج مراقبة خاصة بهم لحوض البرمي، ويضغطون على الشركات بشكل مباشر. وتستجيب أسواق الغاز لهذا أيضاً. ففي العام الماضي انهار عقد بقيمة 7 مليارات دولار لإرسال الغاز الطبيعي المسال من حوض البرمي إلى فرنسا، بسبب مخاوف بشأن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وتدفع البنوك والمستثمرون أيضاً نحو اتخاذ إجراء. والآن، تطلق شركات النفط طائراتها دون طيار، وطائراتها التقليدية، وأقمارها الصناعية، في خدمة الجهود التي تحدث بشكل طوعي في الغالب، للعثور على الانسكابات ووقفها.

قد يهمك أيضاً: بين الجيولوجيا والاقتصاد.. كيف يمكن فهم تأثيرات تغيّر المناخ في الكوكب؟

عوائق كثيرة

من غير الواضح إلى أي مدى ستمتد الإجراءات الخاصة والطوعية. ويتمثل أحد العوائق في الحجم الهائل لمنطقة حوض البرمي، وهي منطقة مغطاة بالشجيرات وذات كثافة سكانية منخفضة، إذ يمكن أن تستمر التسريبات فيها بسبب الفوهات المفتوحة، وأعطال المعدّات، وما شابه ذلك، لأيام عدة قبل أن يلاحظها أحد. وهناك عائق آخر، وهو المزيج الفوضوي للشركات والآبار، فحتى مستشعر "سنتينل–5 بي" القوي يواجه مشكلة في تحديد التسريبات الفردية، وتكون الانسكابات كبيرة ومتعددة لدرجة أنها تندمج في كتلة واحدة لا يمكن تمييزها عند رؤيتها من الفضاء.

عند النظر من مسافة قريبة، يكون حوض البرمي مسطحاً وجافاً، إذ تتجول الأبقار عبر سهول المسكيت المنعزلة، ورافعات المضخات الصدئة تنتشر في الأفق. وكان المنقبون يطاردون النفط هناك منذ قرن من الزمان، لكن لا شيء في الماضي يمكن مقارنته بالجنون الذي ساد المنطقة منذ نحو ست سنوات.

لقد أدى التقدم في تقنيات الاستخراج، بما في ذلك الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي، إلى التوصل إلى الاحتياطيات الموجودة في الكتل الصخرية التي كان يتعذر الوصول إليها سابقاً، ما ساعد على خفض أسعار الطاقة العالمية. وأدى ذلك إلى البحث عن آفاق يمكن أن تكون مربحة حتى لو ظل النفط رخيصاً، وبرزت الجيولوجيا غير العادية لحوض البرمي. في غضون ذلك، أنهى الكونغرس حظراً طويل الأمد على صادرات النفط، ما سمح بالاستفادة من الأحواض التي تنتج الخام الخفيف الحلو، الذي يمكن للمصافي الأجنبية التعامل معه بشكل أفضل. وتدفقت الأموال من شركات النفط الكبرى وصناديق الأسهم الخاصة، وجرى شغل أكثر من نصف الحفارات، واقتربت حقوق الحفر من 100 ألف دولار للفدان، وبدأت الفنادق في ميدلاند بتكساس، التي تُعَدّ المركز التجاري لمجموعة النفط، في فرض أسعار مانهاتن.

انتشار صهاريج النفط

ثم طرأ على المشهد تحوُّل، إذ ظهرت مجموعات من صهاريج تخزين النفط الأسطوانية في كل مكان، جنباً إلى جنب مع البرك المستطيلة التي تماثل حجم ملاعب كرة القدم، وتحتوي على المياه اللازمة للتكسير الهيدروليكي. ووُضعت معسكرات تتسم بالانضباط العسكري لآلاف العمال المهاجرين.

بعد أيام قليلة من رفع الحظر، وفي عشيّة عيد الميلاد عام 2015، بدأ المنقبون في حفر بئر جديدة تمثل قصتها نسخة مصغرة عن حوض البرمي. وتقع بئر "ستيت باسفيك 55–تي 2–8 إكس 17"، وهو الاسم الذي يُعرف به الموقع، على امتداد من المراعي بالقرب من نهر بيكوس في مقاطعة لوفينغ في تكساس (التي يسكنها 169 نسمة). وبعد شهرين، اكتمل حفر البئر التي تتكون من فوهة بئر وستة صهاريج تخزين جاثية على قطعة أرض فارغة مستطيلة الشكل.

جرى تمويل "ستيت باسيفيك" (State Pacific) من مجموعة "بي إتش بي" (BHP)، وهي شركة تعدين أسترالية عملاقة أنفقت مبالغ كبيرة حتى تقوم بالحفر أسرع من المنافسين. وأنتجت البئر وحدها 166 ألف برميل من النفط والسوائل الهيدروكربونية الأخرى في عامها الأول، بالإضافة إلى 620 مليون قدم مكعبة من الغاز.

غاز بلا مخططات

عندما بدأت شركات مثل "بي إتش بي" بمطاردة النفط الخام في حوض البرمي، لم يكن هناك كثير من الخطط الموضوعة للغاز إلى جانب النفط، فالغاز يصعب تخزينه، ويتطلب طرحه في السوق نظاماً معقداً من خطوط الأنابيب، والضواغط، ومحطات المعالجة المبردة. وفي المناطق الأكثر ربحاً في القطاع، بما في ذلك مقاطعة لوفينغ، كانت تلك البنية التحتية غير كافية أو غير موجودة. وفي ظل استخراج القليل جداً من الغاز، لدرجة أن السعر كان يصل إلى معدلات سلبية في بعض الأحيان، كان بمقدور الشركات توفير المال بمجرد حرقه بدلاً من انتظار بناء خطوط الأنابيب. وفي جميع أنحاء المنطقة بدأت مئات المشاعل تضيء السماء كل ليلة، ومن الفضاء بدت الصحراء مشرقة مثل مدينة ألباكركي.

حتى عندما يتمكن المنتجون من التوصيل بخط أنابيب، كانت هذه الخطوط غالباً مزدحمة وعرضة للانقطاع. وفي آبار شركة "بي إتش بي" مثل "ستيت باسيفيك" تفاقمت المشكلات بسبب الأعطال المتكررة لضواغط الديزل اللازمة لدفع الغاز إلى خطوط الأنابيب بنحو 1000 رطل لكل بوصة مربعة. وتميل الآلات إلى التعطل إذا ارتفعت درجة الحرارة أو ضغط النظام بشكل كبير. ونظراً إلى أن المواقع كانت غير مزودة بالعمال، فإن الانقطاعات تمتد إلى أيام. ووفقاً لقراءات من قمر صناعي أمريكي يمكنه اكتشاف مشاعل فردية في الليل، أحرقت "بي إتش بي" الغاز بشكل متكرر في "ستيت باسيفيك" خلال السنوات الثلاث الأولى من تشغيلها، ما أدى إلى حرق ربع الغاز المنتج على الأقل.

من الناحية النظرية، لا ينبغي أن يسهم الحرق كثيراً في مشكلة الميثان، لأن حرق الميثان يحوله إلى ثاني أكسيد الكربون، وهو أيضاً غاز من الغازات الدفيئة، لكنه أقل فاعلية بكثير. وبالطبع يكون هذا صحيحاً فقط إذا كان الحرق يعمل على النحو المنشود.

دور نشطاء البيئة

قبل وقت طويل من حساب تشانغ لحجم الضرر في حوض البرمي، كانت شارون ويلسون، وهي ناشطة من دالاس، تقود سيارتها عبر تكساس مستخدمة كاميرا يبلغ سعرها 100 ألف دولار حتى ترصد التسريبات. وتعمل ويلسون في مجموعة "إيرث ووركس" (Earthworks) للدفاع عن البيئة، وتعمل أجهزتها على جعل غاز الميثان يظهر باللون الأسود في الصور.

وإذا كان القمر الصناعي يوفر منظراً كاملاً للمنطقة من أعلى، فبمقدور ويلسون تتبع الأعمدة الفردية مباشرة إلى المصدر. وفي شهر مايو الماضي، خلال إحدى رحلاتها المنتظمة إلى غرب تكساس، كانت في الجزء الخلفي من سيارة "جي إم سي يوكون" المستأجرة، فيما كان أحد زملائها في أعمال الحفر يسير على طريق سريعة متجاوزاً حقول القطن المحروثة حديثاً. وكانت الكاميرا القابعة في حضنها من طراز "فلير جي إف 320" (FLIR GF320)، تطنّ بهدوء ليعلو صوت آلية التبريد التي تحافظ على برودة مكوناتها الداخلية بدرجة أصقع من الثلج الجاف.

قالت ويلسون، وشعرها الأشقر الذي لامسه الشيب مطويّ تحت قبعة بيسبول: "إذا كان صنبورك يقطر فهذا يسمى تسرباً". وأضافت: "نادراً ما أرى تسرباً هنا، فما أراه أشبه بخرطوم الحديقة. أو خرطوم الحريق، أو البركان".

بعد كل رحلة، تحمّل ويلسون أكثر الصور إثارة على موقع "يوتيوب" وترسلها بالبريد الإلكتروني إلى الجهات التنظيمية في الولاية -بما في ذلك سحب الميثان المتدفق من الصمامات المعطلة، والمحركات المعطلة، والفوهات المفتوحة- على أمل الضغط على الشركات والمسؤولين الحكوميين لتنظيف هذه الأشياء.

شركات النفط المتهم الأول

لم تكن ويلسون، البالغة من العمر 68 عاماً، تفكر كثيراً في البيئة عندما كانت تعمل في شركة تسويق نفطي. لكن ذلك تغير، حسب قولها، عندما عاشت في منطقة البراري شمال فورت وورث ورأت التكسير الهيدروليكي وهو يدمّر المكان. وتطلق ويلسون على المديرين التنفيذيين للشركة اسم "حمقى الغاز" أو الـ"gasholes" على "تويتر"، وتستمتع بسرد القصص عن مواجهاتها مع عمال حقول نفط العدوانيين، ممن تلقّبهم دائماً بالـ"جيثرو" (Jethro).

حسب ما وجدته ويلسون، فإن بعض أكثر المذنبين شيوعاً في هذا الصدد "مداخن الحرق"، وهي عبارة عن أنابيب طويلة تعلوها مواقد مصممة لحرق الغاز غير المرغوب فيه. وتقول ويلسون إنها كثيراً ما تتعطل فينطفئ اللهب، ما يسمح بتدفق الغاز غير المرئي في الهواء. وإذا نُظِر بالعين المجردة فمن المستحيل معرفة أن هناك أي شيء خطأ.

كان ديفيد ليون قد شاهد مقاطع الفيديو التي تبثها ويلسون عن سوء مداخن الحرق، لكنه لم يكن يعرف كيف يمكنه الاستفادة منها. ويعتبر ليون، وهو أحد السكان الأصليين في أركنساس، العالِم الرئيسي لمشروع بحثيّ ضخم تابع لصندوق الدفاع عن البيئة في حوض البرمي، يبيّن شكل التلوث بتفاصيل غير مسبوقة. وتساءل: هل تُخمَد النيران فعلاً بهذا المعدل الكبير؟ وقام ليون بإرسال متعهد للطيران فوق مئات من مداخن الحرق المختارة عشوائياً في طائرة هليكوبتر لمعرفة مدى صحة ذلك.

كان موقع "ستيت باسيفيك" أحد المواقع الأولى على القائمة، وفي أحد الأيام المشمسة في شهر فبراير 2020، بدت مدخنة الحرق التي يبلغ ارتفاعها 20 قدماً في الطرف الجنوبي من المنشأة غير مضيئة، ولم يكن هناك أي لهب مرئي. لكن عندما سلط المتعهد كاميرا تعمل بالأشعة تحت الحمراء عليها، مثل تلك التي تستخدمها ويلسون، رأى عموداً ضخماً من الغاز الأسود يتدفق من الفوهة وينجرف لمسافة بعيدة.

اقرأ أيضاً: "شيفرون" و"شل" و"توتال" تنضمّ إلى مشروع يتعقب غاز الميثان عبر الأقمار الصناعية

حالات متكررة

لم يكن موقع "ستيت باسيفيك" هو الحالة الوحيدة، إذ وجد ليون أن 5% من المداخن التي يتدفق فيها الغاز كانت غير مشتعلة، و6% إضافية كانت تحترق جزئياً فقط. وإذا كانت هذه المعدلات معتادة بالنسبة إلى منطقة حوض البرمي بأكملها، حسب تقديرات ليون، فإن ذلك المعدل وحده يمكن أن يفسر مصدر انبعاث 300 ألف طن متري من الميثان سنوياً. ويقول ليون: "أعترف أنني كنت متشككاً بالأمر، لكن بعدما خرجنا إلى هناك ورأينا ماذا يحدث، نعم، إنه في الواقع بهذا السوء".

يعتبر العمل الذي قام به ليون أحدث فصل في جهد صندوق الدفاع البيئي المستمر منذ عشر سنوات للكشف عن أسرار غاز الميثان. وفي عام 2011، لاحظ ستيفن هامبورغ، كبير العلماء في المجموعة، كيف أن الغاز الصخري الرخيص والوفير يعيد تشكيل مزيج الطاقة في البلاد، متجاوزاً الفحم باعتباره العمود الفقري لصناعة الطاقة الكهربائية. ونظراً إلى أن احتراق الغاز ينتج نحو نصف ثاني أكسيد الكربون الناتج عن حرق الفحم، فإن انبعاثات الكربون في الولايات المتحدة كانت تنخفض للمرة الأولى منذ جيل كامل. وبدا ذلك للوهلة الأولى وكأنه فترة استراحة جيدة للبيئة.

لكن هامبورغ تساءل: إلى أي مدى كان هذا التقدم مجرد وهم؟ فإذا أُطلق طن واحد من الميثان في اليوم، وعلى مدى العقدين المقبلين، فسوف يعاني الكوكب من احترار يعادل 80 طناً من الكربون. وإذا انسكب جزء صغير فقط من الغاز الطبيعي من فوهات الآبار والمصانع وخطوط الأنابيب، فسيصبح تأثيره أسوأ في الكوكب من الفحم، خصوصاً على المدى القصير. وواجه هامبورغ خبراء الصناعة والحكومة متسائلاً: ما مقدار التسريب؟ وخلص إلى أنه لا يوجد أي شخص يعرف الإجابة عن هذا حقاً، وأن تقديرات وكالة حماية البيئة الأمريكية الرسمية كانت مجرد تخمينات. لذا في عام 2012، قام صندوق الدفاع البيئي بأكبر مشروع بحثي في تاريخه. وقال هامبورغ إنه إذا لم تكن الحكومة الأمريكية تعرف مقدار تسرب الميثان، فيمكننا أن نفعل ذلك من أجلهم.

الإجابة تظهر أخيراً

بعد مرور ست سنوات، وإنفاق 18 مليون دولار، وعشرات الأوراق البحثية التي راجعها النظراء لاحقاً، حصل هامبورغ على إجابته، وهي أن صناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة تخسر نحو 13 مليون طن متري سنوياً، أو ما يعادل 2.3% من إنتاج الغاز، ويعدّ هذا الرقم أكثر من تقديرات وكالة حماية البيئة الأمريكية بـ60% (أقرت وكالة حماية البيئة بأن الدراسات المماثلة لدراسة صندوق الدفاع البيئي يمكن أن تكشف عن أخطاء في تقديراتها، لكنها لم تعتمد أرقام المجموعة حتى الآن). وهذا المعدل يمحو معظم الميزة المناخية التي تجعل الغاز الطبيعي أفضل من الفحم، خصوصاً على المدى القصير، كما يسلط الضوء على الحاجة الملحّة إلى السيطرة على الميثان. فكلما زاد التسرب زادت أهمية الاحتجاز.

في ظل مشروع ليون لتحليل الميثان في حوض البرمي، انتقل صندوق الدفاع البيئي إلى ما هو أبعد من مجرد عد الجزيئات. وكان الهدف هو الكشف عن ماهية المعدات التي تقوم بالتسريب، وكم عددها، ونشر النتائج لإجبار الشركات والهيئات التنظيمية على اتخاذ الإجراءات اللازمة. ويقوم باحثو الجامعة والمتعهدون بالعمل الميداني باستخدام عربات محملة بأجهزة الاستشعار، وطائرات تحمل كاشفات الميثان، وشاشات مثبتة على أبراج الهاتف المحمول. ويمكن تشبيه هذا المشروع بأنه يعادل 1000 مرة جهود شارون ويلسون، وهو مسلح بالطريقة العلمية وبمزيد من المال.

نادراً ما أرى تسريباً هنا، فما أراه أشبه بخرطوم الحديقة، أو خرطوم الحريق، أو البركان.

ظهر أكبر تسرب يعثر عليه ليون في سبتمبر الماضي، إذ التقطت طائرة تعمل لصالح صندوق الدفاع البيئي تركيزاً كبيراً من الميثان بالقرب من محطة ضغط الغاز جنوب ميدلاند، وعادت لإلقاء نظرة عليه. ووجدت الطائرة سحابة ضخمة من الغاز المتدفق من صهريج. وحسب صندوق الدفاع البيئي لاحقاً حجم الإطلاق عند 12 طناً من الميثان في الساعة. وهذا هو التأثير المناخي ذاته الذي يمكن أن يحدث إذا بدأت بتشغيل كل سيارة في ولاية مين الأمريكية، وتركتها كلها على هذه الحال.

حوادث غير متوقعة

رفضت شركة "تارغا ريسورسز" (Targa Resources) مالكة المحطة إصدار تعليق لـ"بلومبرغ بيزنس ويك"، لكنها أبلغت مسؤولي الولاية في رسالة بريد إلكتروني بأن مشكلة في الأسلاك تسببت في إغلاق أحد ضواغط المحطة. وتراكم الضغط حتى وصل إلى مستويات خطيرة، ما أدى إلى تشغيل صمام أمان لتحرير الغاز. ووصفت الشركة الأمر بأنه "ليس حدثاً متوقعاً أو يمكن تجنبه"، وقالت إن "هذه الحوادث المؤسفة ليست نادرة عبر حوض البرمي، لأن خطوط الأنابيب تعمل في كثير من الأحيان بسعة محدودة".

ونظراً إلى الحجم الذي يتمتع به حوض البرمي، سنجد أن الآلاف من الآبار، والخزانات، ومداخن الحرق، والفوهات، والفواصل، والضواغط، والمصانع العاملة، تتسبب في أمور لا يمكن توقعها، ولا يمكن تجنبها طوال الوقت. ويقول ليون: "لن تعمل الأشياء كما يفترض أن تعمل على الورق". ويضيف: "يستغرق الأمر أحياناً بعض الوقت حتى يدرك الناس ذلك. وقد تكون هناك حتى مثبطات لهم للعمل. فإذا حصلوا على مكافآت بناءً على كمية النفط التي يضخونها فنعَم، يُحفَّزون للذهاب إلى العمل بأسرع ما يمكن، وبلا قلق بشأن الانبعاثات".

أما المتعهد الذي وجد مداخن احتراق ليون غير المضاءة، فهو رجل نفط سابق، يبلغ من العمر 66 عاماً، ويدعى ديفيد فوري. وقبل عدة سنوات كان فوري رائداً في استخدام الكاميرات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء للعثور على تسربات الغاز، ويدير شركة تفتيش صغيرة تقدم خدماتها في الغالب إلى شركات النفط والغاز. ولا يعتبر فوري نفسه من دعاة حماية البيئة، لكنه واقعي بشأن حجم التلوث الذي وثقه بنفسه. ويقدر أن نحو 1 من كل 5 مواقع يفحصها فيها نوع من أنواع الانبعاثات.

غاز منخفض الانبعاثات

في ظهيرة أحد أيام شهر مايو الماضي، وفي مكتبه القاطن خلف متجر أسلحة مغلق في مدينة إرلي بتكساس، وضع فاري قطعة صغيرة من تبغ "كوبنهاغن لونغ كات" وراء شفته، ملقياً الضوء على مستقبل حوض البرمي. وتلقى فوري مؤخراً مكالمة من أحد مصدري الغاز يتساءل فيها عن تكلفة فحص آبار الموردين بحثاً عن التسريبات، وبهذه الطريقة يمكن للمصدر تسويق منتجه على اعتبار أنه غاز "منخفض الانبعاثات"، على غرار علامة التجارة العادلة الموجودة على منتجات القهوة.

قال فوري: "لقد نشأت هناك، وكما تعلم، في الأيام الخوالي عندما كان هناك تسرب نفطي، كنت ترمي القليل من التراب عليه وتغطي الأمر، فيما في الوقت الحاضر الأمور مختلفة، لكن الشيء المتشابه في الانبعاثات هو أن الناس لا يمكنهم رؤيتها، كما أنهم لا يفكرون فيها".

بعدها، نقر فوري بإصبعه على صدغه وقال: "يجب إعادة تدريب الصناعة ككل على التفكير في الانبعاثات. والبعض بدأ في ذلك بالفعل، لكن ليس الجميع".

قدمت "بي بي" (BP) -التي كانت تعرف باسم "بريتش بتروليوم" سابقاً- نفسها منذ فترة طويلة على أنها أكثر وعياً بالمناخ من منافسيها، وهي تبذل قصارى جهدها لتحسين صورتها في الولايات المتحدة، بعد أن تسببت في تسرب نفطي هائل في خليج المكسيك في عام 2010. واستحوذت "بي بي" على أصول شركة "بي إتش بي" في نهر برميان خلال عام 2018. وعندما تولت زمام الأمور في العام التالي كانت الآبار تحرق نحو 16% من الغاز الذي تنتجه، وهي واحدة من أعلى المعدلات في الحوض. وقال ديفيد لولر، رئيس عمليات شركة "بي بي" في الولايات المتحدة، في منشور على مدونة نشر في شهر أبريل الماضي: "لقد طرحنا على أنفسنا سؤالاً واحداً، وهو: كيف يمكننا القيام بذلك بشكل مختلف؟".

جهود "بي بي"

ظهر بعض التغييرات على الفور، وبدأت شركة "بي بي" في الكشف عن نشاط حرق الغاز في "ستيت باسيفيك" للولاية، كما سعت إلى الحصول على تصاريح للاحتراق هناك وفي عشرات الآبار الأخرى، وهي خطوات لم تهتم بها شركة "بي إتش بي"، مثل عديد من المشغلين في تكساس. وقالت "بي إتش بي" في بيان إنها سعت إلى الحد من الحرق والانبعاثات في حوض البرمي، وإنها "سعت إلى الحصول على تصاريح مناسبة".

في الوقت ذاته بدأت "بي بي" في إعادة نظام الأنابيب للتخلص من الحاجة إلى الحرق، وبدلاً من الاعتماد على تلك الآلات الحساسة في كل موقع بئر، بدأت في بناء محطات ضغط مركزية بمحركات كهربائية أكثر موثوقية. وتقدر شركة "بي بي" أن المشروع سيكلف أكثر من مليار دولار، وسيعوض في نهاية المطاف تكاليفه بنفسه، من خلال بيع الغاز الذي كان من الممكن إهداره بدلاً من ذلك. وأدى هذا الجهد بالفعل إلى تقليل معدل الحرق في البئر الموجودة بحوض البرمي إلى أقل من 2% من الإنتاج. وفي مدونته، قال لولر إن شركة "بي بي" ستنهي الحرق الروتيني في العمليات البرية بالولايات المتحدة تماماً بحلول عام 2025.

في أكتوبر الماضي، بدأت الشركة في تثبيت الأجهزة عبر منشآتها في حوض البرمي، التي تقوم بتنبيه الموظفين خارج الموقع إذا كان الحرق لا يعمل بشكل صحيح، وذلك وفقاً لما أكدته ميغان بالدينو، المتحدثة باسم "بي بي". ودخل مثل هذا الجهاز في بئر "ستيت باسيفيك" أواخر العام الماضي.

خطط الشركات للتصدي للانبعاثات

رغم أن جهود "بي بي" في حوض البرمي قد تكون الأكثر لفتاً للأنظار، فإن كل شركة تقريباً من أي حجم باتت تعلن عن خطة لخفض الانبعاثات وخفض الحرق. ونبذ البعض ممارسة تشغيل الآبار قبل إنشاء خط أنابيب لتجميع الغاز، كما يطبقون برامج مراقبة مكلفة. وبعد اختبار 8 تقنيات، قالت شركة "إكسون موبيل" هذا العام إنها تستعين بشركة تطلق أشعة الليزر من طائرة لاكتشاف تسرب غاز الميثان.

في حقبة أخرى، كان بإمكان منتجي النفط تجاهل انتقادات دعاة حماية البيئة مثل ويلسون وليون دون عواقب، لكن بعد بضعة أشهر فقط من إلغاء صفقة الغاز الفرنسية، حدث شيء تسبب في صدمة أكبر داخل مجالس المديرين التنفيذيين، إذ صوّت مساهمو شركة "إكسون" للاستبدال بـ3 أعضاء في مجلس الإدارة، الأمر الذي منح انتصاراً للنقاد الذين قالوا إن الشركة لم تفعل ما يكفي لتحضير نفسها للمستقبل منخفض الكربون. ويتحدث ليون بشكل متكرر مع مستثمري "وول ستريت"، وهم يسألون دائماً نفس السؤال هذه الأيام، حسب قوله، وهذا السؤال هو: من يتحكم في انبعاثاته، ومن لا يتحكم؟

اقرأ أيضاً: شركات النفط الأمريكية تدرس تأييد تسعير انبعاثات الكربون

عادة ما تكون إجابة ليون على غرار قوله إن "الأمر يعتمد على متغيرات كثيرة". ويضيف أن الفوضى في حوض البرمي لا يمكن إلقاء اللوم فيها على عدد قليل من الممثلين السيئين، وعلى الرغم من كل الأموال التي أنفقها صندوق الدفاع البيئي هناك، فلا يزال يفتقر إلى الحصول على صورة شاملة. لكنّ أمرًا بدأ في الوضوح بشكل أكبر، فقبل بضعة أسابيع أرسل ليون طائرة على متنها معدات فاخرة أكثر، وهي أداة صممتها "ناسا" يمكنها التقاط صور لأعمدة الميثان على مساحة واسعة من المنطقة وبدقة كافية لتحديد المصدر. وفي عام 2022 سيطلق صندوق الدفاع البيئي قمراً صناعياً خاصاً بتكلفة 88 مليون دولار، سيكون قادراً على التوغل داخل حقول النفط في جميع أنحاء العالم بدقة أكثر بمئات المرات من "سنتينل–5 بي".

قيود تدريجية

أيضاً، بدأت اللوائح في اللحاق بالركب، وإن كان ذلك بشكل غير متساوٍ. وعلى الرغم من أن ولاية تكساس لم تتخذ إجراءات مهمة بشأن احتراق الغاز أو الميثان، فإن إدارة البيئة في نيو مكسيكو -بعد التشاور مع صندوق الدفاع البيئي- بدأت في وضع قيود تدريجية على كليهما. واستُعيدت قاعدة الميثان الفيدرالية، التي تنطبق على عدد محدود من المنشآت النفطية، هذا العام بعد أن خربتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. والآن تصوغ وكالة حماية البيئة قاعدة تنطبق على مزيد من الآبار.

سمعت ويلسون وعود الشركات لكنها لا تصدقها، كما قابلت ليون ذات مرة، في جلسة استماع بالكونغرس في نيو مكسيكو في عام 2019، بعد أن أدلى بشهادته حول الكيفية التي يمكن لمنتجي النفط التعامل بها مع الميثان، من خلال القيام بعمليات التفتيش المتكررة، واستخدام معدات أفضل. تقول ويلسون: "تغييرات تدريجية، وكل ذلك.. كنت كمن يستمع إلى الكلام نفسه مراراً وتكراراً. هذا الهراء لا يجدي.. إنه لا يجدي".

ما دام النفط والغاز مستمرَّين في التوسع، فسيواصل الميثان وثاني أكسيد الكربون الارتفاع.

أضافت ويلسون أن شركات النفط وعدت بتنظيف عملها لعقود، لكنها في ذلك الوقت كانت تقوم فقط بالحفر أكثر والتلويث أكثر. والطريقة الوحيدة لتنظيف حوض البرمي -كما تقول- هي التوقف عن التنقيب. واستطردت: "ما دام النفط والغاز مستمرَّين في التوسع، فسيواصل الميثان وثاني أكسيد الكربون الارتفاع".

تحركات بطيئة

حتى لو أخذنا تعهدات الشركات دون تشكيك، فمن الصعب معرفة المدة التي ستستمر في العمل بها. وفي الوقت الحالي، يقوم المنتجون بتخفيضات بعد سنوات من الحفر المحموم، التي انتهت بالركود الذي وقف وراءه كوفيد-19. وفي هذه البيئة التي تتحرك ببطء، لا تعتبر محاولة إنهاء الحرق أو خفض الانبعاثات بمثابة تضحية كبيرة.

السؤال الآن هو: ما الذي ستفعله الصناعة عندما تبدأ موجة الازدهار التالية، سواء كان ذلك في حوض البرمي أو في أي مكان آخر؟ كما أن هناك أموالاً يمكن جنيها من خلال التحرك السريع. وبينما تجبر "وول ستريت" الشركات الكبيرة المتداولة علناً على اتخاذ إجراء بشأن الانبعاثات، لا يزال عديد من المشغلين الخاصين يفعلون ما يحلو لهم. ووجدت بعض الشركات الكبرى نفسها وسط دعوات لتطبيق مزيد من التنظيمات الصارمة، لذا فإن تعهداتها الطوعية لا تضعها في وضع غير مُواتٍ.

نشر فريق ليون في مايو الماضي أحدث النتائج التي توصلت إليها شبكة أجهزة الاستشعار المثبتة على أبراج الهواتف المحمولة في جميع أنحاء الحوض. وانخفضت انبعاثات الميثان في أبريل 2020، إذ وضع الوباء الاقتصاد العالمي في حالة جمود. لكن بحلول نهاية الصيف الماضي عادت المستويات بالفعل إلى القيم المرتفعة التي بدأت بها العام، وأعيد تشغيل المواقد مجدداً في الصحراء.

تصنيفات

قصص قد تهمك