بلومبرغ
في مقطع فيديو شهير من برنامج "توداي شو" يعود إلى عام 1994، يسأل براينت غامبل زملاءه المذيعين "ما هو الإنترنت؟" فيتلعثمون في إجاباتهم المختلفة، إلى أن يتولّى أحد التقنيين من خلف الكاميرا شرح الأمر. لكن علامات الحيرة ظلّت بادية على وجوه المقدمين.
يعيدنا النقاش الحالي حول العملات المشفرة إلى ذلك الفيديو، إذ يسارع الجميع إلى شرح مفهوم العملات المشفرة، رغم أنهم على الأرجح لا يفهمونه هم أنفسهم بشكل جيد. فمعظم العيون تلمع عند أقل ذكر لمصطلح الـ"بلوكتشين" (blockchain)، في وقت غزت فيه العملات المشفرة قطاعات برمتها، ومهّدت الطريق أمام وسائل جديدة لتحقيق الثروة. مع ذلك، لا يزال الكثيرون عاجزين عن التمييز ما بين العملة الرمزية (token) وبطاقة "البوكيمون". فهناك "بتكوين" و"إيثيريوم" و"دوج" و"سايف مون" و"تشاين لينك" و"سولانا" و"بولكادوت" و"بوليغون" و"كاردانو" وغيرها الكثير.
إقرأ أيضاً: مؤسس "إثيريوم" يشكك في خطط "دورسي" و"زوكربيرغ" للعملات المشفرة
عميد العملات المشفرة: الرموز الرقمية ستنتشر في كل مكان خلال 10 سنوات
العملات تعبر عن الشخصية
في أوساط مؤيدي العملات المشفرة، بالأخص المتطرفين منهم، والذين يعرفون بتسمية الـ"ماكسي" (maxis)، أي الذين يستثمرون بكلّ طاقتهم في عملة واحدة يعتبرونها هي الأفضل، تعتبر الفوارق ما بين العملات أمراً بالغ الأهمية. فالعملة التي تملكها تعبّر عن شخصيتك، بما يشمل فلسفتك في الحياة ودائرة أصدقائك، وحتى حسك بالموضة. فكلّ عملة مشفرة تمثل ثقافة متكاملة، لديها "الميمز" الخاصة بها، وفنونها ولغتها والأصوات الموثوقة التي تبشر بها، وهيكلية القوة التي تستند إليها.
وبالتالي، فإن شراء عملة مشفرة ليس استثماراً فحسب، بل إعلاناً عن هويتك. وكما قال أليكساندر سفيتسكي المجاهر بـ"تفوق البتكوين" في مؤتمر "بتكوين 2021" الذي عقد في ميامي في يونيو الماضي: "لا يهمني ما تقوله، أرني حسابك المصرفي، وسأخبرك ما تؤمن به". لكن ربما يكون العكس صحيحاً أيضاً، فمن أجل فهم هذه الأصول الجديدة، يكفي أن نلقي نظرة على المؤمنين بها.
مرحلة حرجة
تمرّ العملات المشفرة اليوم بمرحلة حرجة. فعدد الأشخاص الذين اشتروا عملات مشفرة هذه السنة أكبر من أي وقت مضى. في غضون ذلك، يخضع القطاع إلى رقابة متزايدة من طرف الهيئات التنظيمية. ففي يونيو، حظرت الصين التنقيب عن البتكوين، فيما دعا رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصة الأمريكي غاري غينسلر إلى تشديد القواعد التي تحكم القطاع. وكلّ أسبوع تقريباً، يتم اتهام شركة عملات مشفرة بالتزوير، أو يطالب مقرصن يستخدم برامج الفدية بتسديد دفعات له بواسطة البتكوين. وعلى الرغم من أن قيمة معظم العملات المشفرة ارتفعت إلى معدلات قياسية في مايو، إلا أن السوق فقدت خُمس قيمتها منذ ذلك الحين.
إقرأ أيضاً: الصين تشن حملة ضد تعدين العملات المشفرة بعد تزايد حوادث مناجم الفحم
في مثل هذه البيئة المشحونة، بدأت تتشكل جيوش من المعجبين، مثل "متشددي البتكوين" (Bitcoin maxis) و"الإثيريين" (Ethereans) و"جيش دوج" (Doge Army) و"مارينز اللينك" (Link Marines) ومروجي "تشاين لينك"، وغيرهم من مناصري العملات المشفرة الأخرى. أمّا دافعهم فهو الترويج لعملاتهم.
ومع ازدياد عدد الأشخاص الذين يتعرفون إلى هذه العملات، يأمل المتداولون أن يرتفع عدد الأشخاص الذين سيشترونها، فيحققون بالتالي هدفهم بـ"رفع السعر". إلا أن هذه القبائل أو المجموعات، تساعد أيضاً على تحديد نطاق المشروعات التي يدعمونها والمبادئ التي تقوم عليها وأولوياتها.
تنشأ عملات جديدة كلّ يوم، لكن القليل منها يستمر. في بعض الأحيان، العملات الرابحة هي تلك التي تقدم التكنولوجيا الأفضل أو التي تحلّ مشكلة شائكة. لكن غالباً ما تكون الرموز المشفرة أو "التوكن" الأكثر شعبية، ببساطة تلك التي تجذب مؤيدين صوتهم مسموع أكثر (إيلون ماسكك على سبيل المثال).
بالنسبة إلى المتابعين من الخارج، تبدو حرب العملات أشبه بالحرب الداخلية في الفيلم الساخر "حياة بريان" (Life of Brian)، بين "الجبهة الشعبية اليهودية" و"الجبهة الشعبية في يهودا". ولكن بالنسبة إلى الأشخاص المستثمرين مالياً وعاطفياً في العملات المشفرة، هذه الفوارق بالغة الأهمية، ولها أثر هائل على المستقبل الرقمي.
متداولو بتكوين
حين سمعت سال ستورم بمصطلح "بتكوين" للمرّة الأولى، شعرت وكأن جسمها يقوم بردّة فعل. ففي عام 2017، كانت هذه الفنانة تتناول الطعام في أوريغون برفقة صديقة لها أخبرتها أن ابنها يستثمر في "نوع من مال الإنترنت".
ستورم التي نادراً ما تستخدم الأموال النقدية، وجدت أن ما تتحدث عنه صديقتها يشكّل الخطوة الطبيعية التالية في عالم المال. فشعرت بقشعريرة، وكأن جسمها ينبئها بأن "هذا الأمر حقيقي".
القيمة السوقية للعملات المشفرة تتخطى حاجز التريليوني دولار
المال غير المركزي
حين عادت إلى المنزل، أجرت بحثاً عن العملات المشفرة عبر الإنترنت. تقول ستورم إن فكرة المال غير المركزي الذي يتواجد على الإنترنت "بدا منطقياً بالنسبة لي". لقد كانت غارقة في الديون منذ عقود، وتنتقل من بطاقة ائتمان إلى أخرى. لذا رأت أن البتكوين التي تنبأت أن ترتفع قيمتها كلّما أقبل المزيد من الأشخاص عليها، سوف تشكل طوق نجاة لها. ولذلك نقلت استثماراتها من الأسهم إلى بتكوين.
بدأت ستورم تقدم أعمالاً فنية مستوحاة من البتكوين. فصنعت "كولاج" يظهر خريطة العالم، وقد ألصقت عليه عملات أجنبية مختلفة مع شعارات "بتكوين" متداخلة فيما بينها، كما صمّمت عملاً فنياً على شكل مقبرة تعرض فيه سلسلة "نعوات" بتكوين في إشارة إلى عدد المرات التي تم الإعلان فيها أن هذه العملة الرقمية قد ماتت، استناداً إلى الميم التي كانت تشاهدها على "تويتر".
تقول ستورم إنها تنتهج في مجال المال الأسلوب نفسه الذي تنتهجه في المجال الفني: "حين يقولون إن أمراً ما لن ينجح، أحب أن أقوم به".
ستورم، البالغة من العمر 64 عاماً، لا تنسجم مع الصورة النمطية عن متداولي البتكوين المتمثلة بشباب ليبراليين ينظّرون بالأخلاق. إلا أنها من خلال طريقة كلامها عن بتكوين تعبّر عن اللغة والمواقف ذاتها الصادرة عن كتائب مناصري هذه العملة. فهي لم تتعلم عن البتكوين فحسب، بل "تناولت الحبة البرتقالية"، و"انزلقت بعيداً في جحر الأرنب" "ودرست" هذه العملة كالتلمود. إذ تصف ستورم العملات المشفرة الأخرى غير بتكوين بالـ"هراء"، وتعتبر أن جمع كميات قليلة من عملة بتكوين هو "مراكمة للسات" في إشارة إلى الـ"ساتوشي"، المسماة تيمناً بالاسم المستعار لمؤسس "بتكوين" ساتوشي ناكاماتو. (100 مليون ساتوشي = 1 بتكوين).
بالنسبة إلى الكثير من متداولي العملات المشفرة، تبدو بتكوين أشبه بالمخدر الابتدائي. فهي تقوم على فكرة بسيطة وأنيقة عبارة عن عملة رقمية يمكن لأي شخص أن يرسلها أو يتلقاها من دون وسيط (أو ما يعرف في لغة بتكوين بالـ"رقيب") مثل البنوك أو الحكومات. إذ يتم تنفيذ التداولات وتسجيلها على البلوكتشين أو ما يعرف بسلسلة الكتل (أعتذر لن يستغرق هذا الشرح طويلاً). هذه البلوكتشين، هي عبارة عن قاعدة بيانات موزعة مخزنة على أجهزة كمبيوتر حول العالم. ومقابل المحافظة على أمن قاعدة البيانات، تتم مكافأة "المنقبين" بعملات جديدة ورسوم على التعاملات. يصف متداولو البتكوين هذه العملة بأنها خزّان للقيمة (ذهب رقمي) ووسيلة تبادل (بدرجة أقل الآن بسبب تقلبات السعر) ووسيلة تحوط ضد التضخم.
وهنا لا داعي لفهم تعقيدات تكنولوجيا البلوكتشين حتى يستوعب المرء أنه لن يكون هناك قط أكثر من 21 مليون بتكوين في العالم. وفيما يرتفع الطلب، ويبقى العرض ثابتاً، من المنطقي أن السعر سوف يرتفع.
مفهوم رومانسي
إلا أن جاذبية بتكوين ربما تكمن في مفهومها الرومانسي المتمثل بعدم مركزية المال، حسب ما يقول متداولوها. فمن خلال استخدامك للبتكوين، أنت تنتزع السلطة من البنوك ومن الدولة. وبالنسبة إلى الثوار الطامحين، تبدو بتكوين أشبه باقتحام سجن الباستيل، من دون أن يضطروا إلى ارتداء سراويلهم حتى.
يترافق الحديث إلى متداولي بتكوين، مع مجموعة من الميمز والعبارات الخاصة. قال المتداولون الذين تحدثت إليهم في مؤتمر ميامي إنه يعتزمون التمسك بعملاتهم بدلاً عن بيعها، رافضين الانتقادات الموجهة لعملتهم، ومعتبرين أن مثل هذه التعليقات تهدف إلى الترويج للخوف وعدم اليقين والشك. وهم بادروا إلى إضافة عيون ليزر إلى الأفاتار الخاص بهم على "تويتر" للتأكيد على ولائهم. أمّا رسالتهم للآخرين الذي لا يتداولون ببتكوين فهي "استمتعوا بفقركم".
في كثير من الأحيان، يسهم المشككون في تعزيز إيمان متداولي البتكيون. قالت ستورم "كلّ من أعرفهم هم ضد هذا الأمر". حتى ابنها الذي يعمل مستشاراً مالياً نصحها بعدم الاستثمار في بتكوين، فيما قال لها شريكها الذي يعمل في مجال التكنولوجيا، إنها عملية نصب. (هو يفضل الإيثريوم).
إقرأ أيضاً: علامة جديدة على انتماء أسهم الـ"ميم" والعملات المشفرة لنفس الفصيلة
بعد قراءة كتاب بعنوان "بتكوين والسود في أميركا" (Bitcoin & Black America)، حاول توفر بايتس أن يقنع أصدقاءه وأفراد عائله بالاستثمار في العملة المشفرة، إلا أنه قال: "للصراحة، كثير من الناس لا يريدون السماع عن الأمر".
أما جون ليستر الذي حضر مؤتمر بتكوين وهو يرتدي قميصاً يحمل صورة لراي ليوتا بعينيّ ليزر، فقال: "لم أخسر أصدقاء لي، ولكن بالطبع بات لدي أصدقاء ممن أصبحت أقل تعلقاً بهم".
في الوقت عينه، قرّبت بتكوين ما بين متداولي هذه العملة الرقمية. فستورم والفنانة آن دانر اللتان عرضتا أعمالاً في مؤتمر بتكوين، باتت تجمعهما علاقة صداقة انطلاقاً من شغفهما المشترك. وقالت ستورم عن دانر "إنها مهووسة أكثر منّي حتى". أمّا بول ونارا كيم، الثنائي من مدينة نيويورك، فقد تحدثا عن بتكوين في أول موعد عاطفي بينهما في عام 2018، وهما اليوم متزوجان.
مع ذلك، وعلى الرغم من تبجح مجتمع البتكوين بطابعه الثوري، إلا أنه يواجه مشكلات على صعيد التنوع، على الأقل في الولايات المتحدة.
"لا يوجد الكثير من النساء السود هنا... هذا ليس جيداً"، تقول أنديل ندلوفو وهي تنظر حولها إلى الحضور في مؤتمر بتكوين في ميامي. فندلوفو المولودة في زيمبابوي والتي تعمل في قطاع الموسيقى في لوس أنجلوس، تعزو ذلك إلى الاعتقاد السائد في أوساط السود بأن العملات المشفرة "نخبوية"، أو أنه يجب أن تكون ثرياً حتى تنخرط في هذا المجال. وقالت: "أنا هنا لأتعلم أكثر حتى أشرح للأشخاص المحيطين بي ما يجري".
إن الدخول في جدل مع أشخاص متحمّسين لبتكوين أشبه بمتاهة ذهنية، إذ لديهم جواب لكلّ اعتراض. مثلاً، إذا قلت لهم إن الطاقة اللازمة من أجل تأمين الشبكة تلحق الضرر بالبيئة، تأتي الإجابة "ولكنها تحفز الطاقة الخضراء!". وإذا قلت إن العملية بطيئة وثقيلة، تكون الإجابة "لكن شبكة البرق الجديدة تجعلها أسرع!". وإذا قلت إن هذه العملة لن تنجو من الهيئات التنظيمية، ستأتي الإجابة "لكن لا يمكن التحكم بها!". أما إذا قلت إنها عملية احتيال، فتكون الإجابة "كذلك أي أصول جديدة تمرّ عبر عملية اكتشاف السعر".
بالنسبة إلى الكثير من المتحمسين لبتكوين، تقوم العملية برمتها على الإيمان. فهم يؤمنون بأن العملة سوف تنجح لأنهم يؤمنون بأن الآخرين سيؤمنون أيضاً بأنها ستنجح. وإن بدا لكم هذا الاستدلال دائرياً، فأهلا بكم في عالم المال. والآن، يجب ببساطة إقناع الآخرين.
هنا يأتي دور المتشددين. ففيما لا تقوم ستورم بالتبشير بالبتكوين، فإن سفيتسكي، رائد الأعمال الأسترالي حليق الرأس والمؤمن بـ"تفوق البتكوين"، يعتبر ذلك واجبه. وقال في خلال مشاركته في إحدى اللجان خلال مؤتمر ميامي: "نحن الخلايا البيضاء لهذه الشبكة". وأضاف: "في حال لم يتماسك المركز، سوف نتحول إلى مشروع عملة هراء أخرى".
بالتالي، يرى متشددو بتكوين أن من واجبهم الترويج لها ودحض كل السرديات المضادة. قد يبدو الأمر أشبه بحملة ترويجية، إلا أن سفيتسكي أكد لي إنه يريد أن يحافظ على انسجام بتكوين مع المُثل الأصلية التي قامت عليها في الأساس، أي الحرية ومقاومة الرقابة. وقال: "هذا هو المال المثالي، فهو متجذر في الرياضيات" وفي قوانين الديناميات الحرارية. وأضاف: "في المستقبل، سوف نتذكر الاختراعات الأعظم في تاريخ البشرية: النار وبتكوين والانتقال الآني".
متشددو بتكوين شرسون تجاه بعضهم البعض كما هم شرسون تجاه منتقديهم، بحسب سفيتسكي. فحين نشر متداول بتكوين المؤثر روبرت بريدلوف تغريدة عن منتج مشفر جديد يحمل اسم "بيت كلاود"، سارع متشددو بتكوين لمهاجمته. وقال سفيتسكي "الحديد بالحديد يُحدّد، ربما يبدو الأمر أنه تنمّر، إلا أننا في الواقع ننبه بعضنا البعض".
متداولو الإيثر
كان مايكل بابياك يبحث عن أمر جديد. فبعد سنوات من العمل في مجال السياسة في واشنطن، أولاً في الكابيتول هيل، ثمّ كمدير تكنولوجيا التسويق ضمن اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، ترك عمله في عام 2017، حين وجد أنه "لم يعد منسجماً مع أحد الزعماء في الحزب" حسب تعبيره الدبلوماسي. فهو يقول إنه انخرط في مجال السياسية "لأكون جزءاً من أمر أكبر من نفسي"، ولكن الآن هذه الركيزة الوجودية قد زالت.
اشترى عملة بتكوين للمرّة الأولى في عام 2015 كي يدفع رسوم مشاهدة مباريات رياضية عبر الإنترنت. وبعد انهيار السوق في عام 2017، قرر شراء المزيد منها، ثمّ اشترى بعض الإيثر، العملة المشفرة التي تغذي بلوكتشين أخرى تعرف بالـ"إيثريوم"، وراح يتابع قيمتها وهي ترتفع. وقال: "كان لسان حالي تقول إن عليّ أن أبدأ في تعلم ما هي هذه الأشياء".
نفر بابياك من سلوك متداولي بتكوين الذين يتصرفون وكأنهم يستعدون لمواجهة نهاية العالم، ثمّ بدأ يستكشف منتديات الإثيريوم، حيث تعرّف إلى ما وصفه بـ"أكثر مجتمع عالمي يرحب بالآخرين". فحين كان يطرح الأسئلة، كان المطورون يجيبونه على الفور.
اكتشف بابياك أن الإثريوم تستخدم تقنية البلوكتشين التي تستند إليها بتكوين، إلا أنها تبني بيئة متكاملة فوقها، تقوم على برامج الكمبيوتر أو "العقود الذكية".
وبدل أن يكون الأمر محصوراً بإرسال الأموال وتلقيها، يمكنك استخدام قاعدة البيانات هذه كمنصة للقيام بشتّى أنواع التعاملات، سواء لعقد صفقات عقارية أو لشراء أعمال فنية أو صكوك مالية معقدة. وتُستخدم الإيثر، أي العملة الخاصة بالإيثريوم، من أجل التفاعل مع هذه البرامج.
وبحسب متداولي الإيثر، العامل الأساسي الداعم لهذا القطاع هو "انعدام الثقة"، فعند توقيع عقد، بدل الاستعانة بمدقق من أجل التحقق من الطرف الثاني، وبمصرف من أجل تحويل الأموال، وبمحام من أجل مقاضاة الخصم في حال تخلفه عن تنفيذ شروط العقد، يمكنك ببساطة أن تثق بأن الشيفرة سوف تنفذ العقد وفق ما ينصّ عليه حرفياً.
وكل ذلك مفتوح المصدر. فيمكن لأي أحد أن يأخذ شيفرة أحد المشروعات الموجودة على إيثريوم ويستخدمها من أجل إنشاء مشروع آخر، أو من أجل إعادة تركيب مشروعات موجودة أصلاً، وهو ما يعرف بـ"القدرة على التأليف" التي ألهمت التعبير المجازي الذي يصف الإيثريوم بأنها "لعبة ليغو مالية".
مثلاً، قبل بضع سنوات، أراد متداولو العملات المشفرة أن يبيعوا عملاتهم ليحققوا الأرباح، ولكنهم لم يشاؤوا بيعها مقابل الدولار، لما لذلك من تعقيدات. لذا أنشأ المطورون "عملة مستقرة" مرتبطة بالدولار الأميركي. وباتت العملات المستقرة اليوم حجر الزاوية في النظام المالي القائم على البلوكتشين، بما أنها تسهّل حركة انتقال الأموال، وتمكّن المطورين من بناء عدد لا متناهي من الـ"ليغو" فوقها. (إلا أنها مثيرة للجدل بما أنها تثير تساؤلات الناس حول ما إذا كانت بعض العملات الرقمية مدعومة بالكامل بالدولار).
مثل الكثير من زملائه في برينستون، لم يكن بابياك قطّ من محبي وول ستريت، إلا أنه بات اليوم متحمساً حيال حصول "نقلة نوعية في عالم المال".
شاهد بابياك كيف أحدثت الإيثريوم تحولاً في طريقة عمل الشركات. فبعد سنوات من العمل الحكومي، تحمس للإمكانات التي تتمتع بها المنظمات المستقلة اللامركزية (DAO) التي تقوم على البوك تشين. فبدل أن يصدر صاحب العمل وحده الأوامر كي ينفذها الموظفون، يحق لأعضاء هذه المنظمات أن يصوتوا على قرارات الشركة استناداً إلى عدد الرموز المشفرة (التوكن) التي يملكونها. وقال بابياك "إنها الديمقراطية في أبهى تجلياتها".
بالطبع، يمكن لمجموعة صغيرة أن تستولي على السلطة من خلال شراء كلّ التوكن، إلا أن هذه العملية تكون شفافة على الأقل. كذلك، يمكن للمبتكرين والعلامات التجارية أن تصدر "رموزاً مشفرة اجتماعية" من أجل إعطاء معجبيها حصة من ناتجها وبناء مجتمع خاص بها وتقديم حوافز مالية.
أعجب بابياك ببراغماتية جماعة الإيثريوم. فإذا صحّ وصف متداولي بتكوين بالمحاربين في عالم العملات المشفرة، فإن متداولي الإيثر هم البناؤون. ففيما ينادي متداولو بتكوين بالحرية الفردية بعيداً عن الاستبداد المالي، فإن متداولي الإيثر يتبنون قيم العمل التشاركي والتعاون. وقال بابياك "أنت هنا تراهن على التعاون".
قيم أخلاقية مختلفة
منظومة القيم التي يستند إليها مجتمع الإيثريوم تتعارض مع الطاقة المعتدة بالنفس التي تصدر عن متداولي البتكوين. فبدل عيون الليزر والإيحاءات الاسبرطية المستلهمة من فيلم 300، يفضل متداولو الإثير أشكال أحادي القرن وألوان الباستيل.
وكان الموقع الإلكتروني الخاص بفعالية "هاكاثون" أجريت مؤخراً برعاية (ETHGlobal) قد صُمم بأسلوب مستوحى من التسعينيات، على شاكلة واجهة مستخدم خاصة ببرنامج "ويندوز" من "مايكروسوفت" بألوان مريحة من الزهري والأزرق، مع زرّ موسيقى "لو-في" ذات الأسلوب المبتدئ في الزاوية.
وفي خلال شرح قواعد المسابقة، قالت الجهة المنظمة: "هذه ليست منافسة.. نحن نريدكم أن تتعلموا، وهذه هي غايتنا الأساسية".
ربما تم التعبير عن أسلوب إيثريوم بالشكل الأفضل في مقطع فيديو من عام 2019 يظهر المؤسس الشريك فيتاليك بوتيرين، وهو يغني بشكل مزعج أغنية راب عن البلوكتشين أمام مجموعة متلاحقة من الرسوم المتحركة، بينها كنغر منسّق موسيقي ودب كوالا يركب صاروخاً ينفث قلوباً بألوان قوس قزح.
هذا ويعبّر متداولو الإيثر عن انتمائهم على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر استبدال حرف (E) برمز (Ξ) في أسمائهم. مثلاً تصبح "بلومبرغ بزنيس ويك" (BloombΞrg BusinΞsswΞΞk)، مع الإشارة إلى أن (Ξ) هي أيضاً شعار عملة الإيثر. وفي خطوة شائعة أخرى، قام بابياك مؤخراً بتغيير اسمه المستخدم على تويتر إلى (babyak.eth).
يرفض مؤيدو بتكوين العديد من مزاعم متداولي الإيثر. فبابياك يؤمن بـ"الانقلاب"، أي اللحظة التاريخية في المستقبل التي سوف تتمكن فيها الإيثر من تجاوز البتكوين في إجمالي القيمة السوقية. إلا أن سفيتسكي يرفض إمكانية أن تزيح الإيثر بتكوين عن عرش العملات الرقمية. وقال: "اكتشفنا الذهب فيما لا يزال الآخرون يلهون بالصدف". كما أن سفيتسكي لا يبدو متأثراً بالمشروعات المدعومة من الإيثريوم مثل الرموز غير القابلة للاستبدال، ومن بينها الأعمال الفنية الإلكترونية التي حققت عوائد ضخمة مؤخراً. وقال: "نحن لسنا بحاجة إلى وسيلة جديدة لبيع صور جيه بي إي جي (JPEG)... بل نحتاج إلى إصلاح المال".
بالمقارنة مع نظرة متداولي الإيثر إلى العالم، تبدو رؤية متشددي بتكوين مقتضبة نوعاً ما. فبالنسبة إليهم، يمكن لاختراع واحد أن يصلح كافة المشكلات. في المقابل، يتخيل متداولو الإيثر مستقبلاً من التغيير التدريجي تتخلله تحسينات تستمر إلى الأبد. تقوم هذه الرؤية على مظلة واسعة من التطورات التكنولوجية التي تتسع للجميع، حتى بتكوين. وقال بابياك: "يمكن للأمرين أن يتواجدا معاً".
تحسينات مستقبلية
مع ذلك، ثمة أمور تثير غضب متداولي الإيثر. فهم يمتعضون من أي بلوكتشين تقدم نفسها على أنها "قاتلة للإيثريوم"، سواء كاردانو (التي يقول بابياك إنها لإثارة الضجيج فحسب) أو سولانا التي يصفها بـ"المقززة نوعاً ما" أو سلسلة بينانس الذكية التي يقول إنها "مليئة بالاحتيال والنصب". وعلى الرغم من أن هذه الشبكات تحاول أن تعالج مشكلات فعلية في بروتوكول الإيثريوم، بما فيه بطء السرعة والرسوم العالية على التعاملات، إلا أن متداولي الإيثر يقولون إن التحسينات المستقبلية سوف تحدث تحولاً في عملية التنقيب لجعلها أقل استهلاكاً للطاقة، بالإضافة إلى غيرها من التعديلات التي سوف تحلّ هذه المشكلات بشكل أفضل ممّا ستقوم به المشروعات المستجدة التي تنطلق من الصفر.
مثلما رحب مجتمع الإيثريوم ببابياك، قام هو الآخر بتوسيع هذا العالم أيضاً. وأصبح اليوم يُعامل كخبير في العملات الرقمية، حيث يطلب منه أصدقاؤه ومعارفه النصائح في هذا المجال. شجعته زوجته كاميرون هاردستي، الرئيسة التنفيذية لشركة توزيع زهور على كتابة أفكاره في نشرة إخبارية يعتزم إصدارها قريباً. وهي مسرورة لرؤيته متحمساً تجاه أمر جديد. وقالت: "كان يبدو تائهاً قليلاً على الصعيد المهني، ثمّ ظهرت العملات المشفرة ومهدت له الطريق نحو هوية جديدة".
إلا أن هاردستي انتقدت هي الأخرى اختلال التوازن الجندري في مجال العملات المشفرة. وكان مقال نشر مؤخراً على موقع "بيتش ميديا" قد وصف بتكوين بـ"مرادف علم الأبراج للرجال".
ترى هاردستي أن العملات المشفرة تلعب دوراً اجتماعياً، وقالت: "يتواصل الرجال فيما بينهم كأنه يوجد نوع من الغراء غير العاطفي الذي يجعل المحادثة متماسكة "، مضيفة: "في السابق كانت الرياضة، والآن بالنسبة إلى مايكل، باتت العملات المشفرة هي التي تلعب هذا الدور".
مع ذلك، تقول هاردستي إن شغف ببابياك بالبلوكتشين يسبب لها أحياناً بعض التوتر. فبين شركتها الناشئة وحملها، تشعر أحياناً بالانزعاج وهي تسمع عن العملات المشفرة طوال الوقت. وقالت: "أطلب منه في كثير من الأحيان الحديث عن أمر آخر". كما إنها تريد أن تضمن أنه لن يقوم بمخاطرات مالية كبرى. وقالت: "هو مؤمن جداً لدرجة أنه لا يتصور عالماً لا تستمر فيه هذه الأصول في النموّ". إلا أن ببابياك يؤكد أنه يتبع نهجاً حريصاً نسبياً في استثماراته بالعملات المشفرة. فبعد "القليل من المخاطرة" بالعملات الأخرى، الآن يحتفظ بمعظم مدخراته المشفرة على شكل إيثر.
مقامرون ومزارعون
بالنسبة إلى جاك برو، تكمن الفكرة في المخاطرة. فالشاب البالغ من العمر 23 عاماً، بدأ يتداول العملات المشفرة حين كان في الـ15 من العمر كي يلعب البوكر على الإنترنت. فكان يدخر المال الذي يجنيه من مجالسة الأطفال، ثمّ يدبر لقاء مع رجل في مقهى ستاربكس في مدينة فينوس في كاليفورنيا، ليشتري منه البتكوين. ويقول برو "فعلاً لم يكن الأمر مريباً".
في الجامعة، انخرط في تجارة الهامش وتحوّل إلى مؤيد متطرف للإيثر قبل أن يبدأ الرمز المشفر في الارتفاع. في سنته الأولى في الجامعة، جمع نحو 250 ألف دولار، ليعود ويخسرها كلها في رهانات خاطئة على أن سعر الإيثر سوف ينخفض. وقال برو: "كان أمراً بشعاً جداً وتسبب لي بمشاعر مظلمة". تخلّى بعدها عن التداول بالكامل وركز على الحصول على شهادته الجامعية.
ثمّ حلّ صيف التمويل اللامركزي (DeFi 2020)، وقال: "حينها بدأت أعود إلى كلّ هذه الأمور".
يشمل التمويل اللامركزي طيفاً واسعاً من الأدوات القائمة على البلوكتشين تهدف إلى بناء نظام مالي متكامل يستند إلى بروتوكولات الكمبيوتر بدل الاستناد إلى الشركات التقليدية.
مؤيدو التمويل اللامركزي
يرى مؤيدو التمويل اللامركزي أنه في يوم ما، سوف تقوم كافة الأمور من رهونات عقارية وأسهم وأسواق سندات على العقود الذكية. ولكن في الوقت الراهن، ينحصر التمويل اللامركزي في تبادل الرموز المشفرة على منصات تبادل لامركزية، مثل "يوني سواب" و"سوشي سواب" وغيرها من التطبيقات اللامركزية المعروفة باسم (dapps) التي تمكّن المستخدمين من كسب المزيد من الرموز المشفرة من خلال القيام باقتراض وإقراض العملات أو تأمين السيولة للتبادل.
ربما من الصعب استيعاب العالم المجرّد للتمويل اللامركزي. لذا تخيل معنا للحظة أمراً ملموساً أكثر. تصوّر سوق بازار ضخماً مكتظاً بالزبائن الذين يريدون شراء وبيع سلع مختلفة، من الدجاج إلى كباسات الأوراق ومماسح الأرضيات وحبوب الفاصولياء. لنفترض أن ثمة أشخاص يريدون أن يبادلوا بعض الدجاج بكباسات أوراق. يمكن لبعض الأفراد أن يعملوا كصنّاع سوق من خلال تأمين مخزون من الدجاج ومن كباسات الأوراق، أو من خلال تأمين سلعة مختلفة تماماً كحبوب الفاصولياء على سبيل المثال. يمكن مكافأة صانع السوق بمماسح أرضية يقدمها له البازار نفسه من أجل تحفيزه على الاستمرار بالعمل في هذا البازار حتى لا ينتقل إلى البازار في الجهة المقابلة من الشارع.
ولكن إذا كانت تجارة ما تتضمن الكثير من المخاطر، حيث يمكن لسعر السلعة أن ينهار فجأة، فإن الحصة التي يستحصل عليها صانع السوق تكون عالية جداً، فلا تقتصر على حبة فاصولياء واحدة، بل الآلاف وربما الملايين.
هذا هو التمويل اللامركزي باختصار. إلا أن ما يتم تداوله في عالم العملات هو في الواقع مجموعة من الرموز المشفرة الأقل عشوائية، الكثير منها ربما لم تسمع عنه من قبل.
فبدل الاحتفاظ بمخزون من الدجاج وكباسات الأوراق، يتم الدفع لصانع السوق حتى يمدّ مجمّعات التداول بالعملات. وبما أن الطلب على هذه الرموز المشفرة غير مستقرّ، فإن مزودي السيولة، المعروفين في مجال التمويل اللامركزي باسم "مزارعي الغلّة" يمكن أن يحققوا أرباحاً ضخمة بسرعة من أجل التعويض عن المخاطر الكبرى التي يقومون بها. إلا أن الفرص الأكثر إدراراً للربح لا تدوم طويلاً، ولذا هم يبحثون طوال الوقت عن تحقيق ربح جديد، ما دفع بأعضاء مجتمع التمويل اللامركزي بكلّ فخر إلى تبني لقب (degen)، اختصاراً لـ"المقامر المدمن" (degenerate gambler).
نصب واحتيال
لكن في هذا العالم تنتشر أيضاً أعمال النصب والاحتيال. فأحياناً، تكون السرقة مكتوبة في شيفرة الرمز، وفي أحيان أخرى، ينسحب مبتكرو الرموز المشفرة فجأة، ما يجعل العملات التي بحوزة المقرضين بلا أي قيمة، في خطوة تعرف بـ"سحب البساط".
يمكن لـ"مزارع الغلة" الحذق أن يقيّم درجة خطر استثمار معيّن، ولكن حتى المشروعات الضخمة يمكن أن تنهار، كما اكتشف مارك كوبان في يونيو الماضي حين تورط في ما يعرف اليوم بكارثة "تيتان" التي انهارت قيمتها إلى قرابة الصفر.
لم يستطع برو مقاومة إغراء الأرباح الطائلة، فاندفع للعودة مجدداً. وجد مجمعات سيولة تحمل اسم "سويرف" (Swerve) حيث يمكنه المراهنة على العملة المستقرة "تيثر" (Tether) ليحقق أرباحاً سنوياً بنسبة 300% (فوّت الأرباح التي بلغت في المرحلة المبكرة 1000%).
كان تأمين السيولة لعملة تسمّى "سوامبي" (Swampy)، يحقق أرباحاً بنسبة 5% في اليوم، حتى أن سعر "سوامبي" نفسه كان يتضاعف يومياً في إحدى المراحل. إلا أن العوائد الأكبر التي حققها فكانت من الرمز المشفر "كايك" (Cake) الخاص بمنصة تبادل لامركزي تحمل اسم "بانكيك سواب" (PancakeSwap) التي ارتفعت قيمتها بشكل هائل في أبريل. بدأ برو بمبلغ بسيط، وبعد بضعة أشهر، بات يملك عدّة ملايين.
كانت مراقبة "مزارعه" عملاً بدوام كامل. وقال: "لا يمكنك ألا تعير الأمر انتباهك". وأضاف منبهاً: "في حال صدرت مجامع جديدة أو فوّت بيعاً مسبقاً" يمكن أن تخسر كلّ شيء. إلا أن زارعة الغلة كانت تتعارض أحياناً مع حياته اليومية، مثلاً حين تصله معلومة ما في الوقت الذي يكون في نزهة مع صديقته. وأضاف: "كنت أقول لها: حبيبتي عليّ أن أتولى هذا الأمر بسرعة".
في أحد الأيام، كان برو يمارس رياضة الركمجة حين وصلته رسالة نصية من صديق له يخبره أن منصة التمويل اللامركزي "بانكيك باني" التي يراهن فيها برموز "كايك" المشفرة سُحب البساط منها. وقال "اعتقدت أنني فقدت كلّ ما لدي من كايك". لحسن الحظ، حين تحقق من حسابه، وجد أن كلّ رموزه المشفرة لا تزال موجودة وأن سحب البساط أصاب رمزاً مشفراً آخر مرتبطاً بالمنصة.
برو الذي تعلم من دروس الماضي، حجز 75% من محفظته المشفرة بطريقة تمنعه من المسّ بها لمدة سنة. وقال: "ربما أصل إلى مرحلة لا أتمكن فيها من السيطرة على نفسي حتى اتخذ قراراً منطقياً". إلا أنه يواصل المخاطرة بالرموز المشفرة الأخرى. وأضاف: "أعتقد أنها الطريقة الوحيدة التي أعرف كيف أكسب المال من خلالها".
رافضو العملات المشفرة
حين تحدثت إلى أيمي كاستور، كانت في مكان لم تفصح عنه. هي لم تتلق تهديدات علنية، إلا أن هذه الرافضة الصريحة للعملات المشفرة اكتسبت أعداء بسبب مقالاتها وتغريداتها التي شككت فيها بقيمة العملات المشفرة وبتكنولوجيا البلوكتشين. لذا فضلت إبقاء مكان تواجدها سرياً. وقالت: "كلّما أصبحتَ تشكل تهديداً أكبر في هذا القطاع، يزداد عدد الأشخاص الذين يترصدون بك".
كاستور أكثر من يدرك ذلك، بما أنها كانت تعمل في هذا القطاع. فبصفتها كاتبة في منشورات تتناول العملات المشفرة، سافرت حول العالم لحضور مؤتمرات حيث كانت شركة (IOHK) تسدد أحياناً تكاليف سفرها، وهي الشركة التي تقف خلف منصة البلوكتشين "كاردانو" التي أنشأها أحد مؤسسي إيثريوم.
قالت كاستور: "كنت أستمتع بوقتي، أسافر واحتفل وأشرب كثيراً". وأضافت: "كانوا يقولون لي، أنت من العائلة، أنت واحدة منّا". إلا أن علاقة كاستور بهذه العائلة تدهورت حين بدأت تجري بحوثاً لمقال أثار استياء مؤسس "كاردانو" تشارلز هوسكينسون. وقالت: "حين بدأت أتعمق كثيراً، تم التخلي عني". (قال متحدث باسم IOHK في تصريح إن الشركة "ملتزمة بشدّة بمبادئ الاستقلالية التحريرية المطلقة، ولن تعامل أي صحافي قطّ استناداً إلى ما كتبه عنّا في السابق").
في الوقت عينه، بدأت تبدي إعجابها بكتابات ديفيد جيرارد، الناقد المتشائم للعملات المشفرة المقيم في لندن. فجيرارد لا يخفي ازدراءه للبلوكتشين ومعجبيها. وقال: "هناك الكثير من الأمور التي يمكن الاعتراض عليها في مجال العملات المشفرة، فهي مليئة بعمليات النصب، وتسرق الناس، كما أن عمليات التنقيب القائمة على إثبات العمل هي أمر مدمّر. إلا أن اعتراضاتي دائماً تنبع من الناس". جيرارد الذي يعمل مسؤول نظام حاسوبي، وسبق له أن عمل كصحافي متخصص في مجال الموسيقى، ساعد كاستور على فهم "طائفة البتكوين" حسب وصفها. فبدأت ترسل إليه مسودات مقالاتها لتأخذ رأيه، وهو يقوم بالأمر ذاته. وقالت كاستور "بدأت أكتب المزيد من المقالات التي تنتقد عالم العملات المشفرة".
الأرباح للمستثمرين الأوائل
بحسب جيرارد، المشكلة الأساسية في بتكوين هي أنها "لعبة مجموع سلبي"، مصممة ليحقق المستثمرون الأوائل الأرباح على حساب المستثمرين الذين يأتون لاحقاً، وبالتالي هي أشبه بعملية احتيال لا بدّ أن تنهار في النهاية.
كما يرى أن استخدام البتكوين كوسيلة للتبادل ليست أمراً منطقياً، لأنها بطيئة وباهظة الثمن ومتقلبة السعر. وبصفته خبير تكنولوجيا معلومات مخضرماً، يشكك جيرارد أيضاً بعقود إيثريوم الذكية. وقال: "أوليس هذا المصطلح عبار عن هراء؟". وأضاف: "ليس عقداً وليس ذكياً، إنه فعلياً برنامج كمبيوتر صغير على البلوكتشين. في مجال الحوسبة الحقيقية، نطلق على هذه الأمور تسمية محركات قواعد البيانات أو إجراءات مخزنة ولا نستخدمها إذا أمكننا تفادي ذلك، بما أنها تعتبر كابوساً هندسياً".
كذلك، لا يستهويه "ثبات" البلوكتشين. وقال: "الأناس العاديون لا تهمهم التعاملات التي لا يمكن الرجوع عنها". في الواقع هم يفضلون أن تكون لديهم القدرة على الاعتراض على بعض الدفاعات أو تصحيح الأخطاء الطباعية، ولكن بما أن التعاملات لا رجوع عنها فإن "أي خطأ بسبب زلّة أصبع يصبح أمراً نهائياً".
ولكن هل هناك أي قيمة للعملات المشفرة؟ نعم، يجب جيرارد. فهو يرى أنها صالحة "لشراء الأشياء التي لا تريدك الحكومة أن تشتريها. هذه الطريقة المحايدة للقول إنها مناسبة لشراء المخدرات وليتعامل بها المجرمون".
في عالم العملات المشفرة الزاخر بالدعاية، يحثّ رافضو العملات على التحقق من الوقائع. إذ توجد دعابة شائعة بأن متداولي البتكوين يفسرون أي خبر على أنه "جيد للبتكوين"، سواء كان يتعلق بتضييق الصين الخناق على المنقبين أو إعلان إيلون ماسك أن شركة "تسلا" لن تقبل بعد الآن الدفع لها بواسطة بتكوين بسبب أثرها البيئي (عاد بعدها عن هذا القرار). إلا أن كاستور وجيرارد وغيرهما من المشككين يدحضون هذه السرديات المتفائلة. إذ تناولت كاستور مؤخراُ قرار السلفادور بتبني بتكوين كعملة تداول قانونية، وهو ما احتفى به مناصرو بتكوين على "تويتر"، وذلك على الرغم من مساعي الرئيس اليميني للسلفادور لتقويض المؤسسات الديمقراطية.
وقالت: "تبدأ بالتساؤل، كيف حصل هذا الأمر؟ من يقف خلف ذلك؟"
الأدرينالين والجاذبية
تتفهم كساتور جاذبية العملات المشفرة. وقالت: "أستوعب لماذا يقع الناس في شباكها، فهي جزء من معتقد متكامل". إلا أنها تعتبر أن السبب الرئيسي الذي يجذب الناس لشراء العملات المشفرة هو "الأدرينالين، أي شعور الحماس ذاته الذي يحسّ به المدمنون على القمار". أمّا بالنسبة إلى جيرارد، فالمبررات الفلسفية تقوم على تحريف الحقائق، وقال: "ستقول وتفعل أي شيء، وتعبّر عن أي أيدلوجية بلهاء، سوف تسبح مع التيار، وتردد العبارات الشائعة حتى تتمكن من تحقيق الثراء بسرعة".
اقتنت كاستور عملات مشفرة في السابق، إلا أنها سببت لها الكثير من القلق والتوتر. وقالت: "شعرت كأنه أمر يجب أن أتخلص منه بسرعة، كانت مخيفة وتعبث بذهنك". إذ يمكن أن تعطي هذه العملات المستثمر الشعور بالنشوة "ولكنها تملك أيضاً القدرة على تدميره"، وأضافت: "الأمر أشبه بسيد الخواتم".
من ناحيته، لم يشتر جيرارد أي عملات قط. وقال: "ليس عليّ السباحة عارياً في مياه الصرف الصحي حتى أقول للناس إن السباحة عارياً في الصرف الصحي ليست أمراً جيداً". وأضاف: لأكون صريحاً، قررت شراء عدّة عملات مختلفة في أبريل كاستثمار لأرى ماذا سيحصل، وقد هبطت جميعها.
يحذّر جيرارد من أن التمويل اللامركزي هو على الأرجح الخطر الأكثر مكراً. وقال: "هو لا ينتج أي شيء على الصعيد الاقتصادي"، ويمكن للمستثمرين الهواة أن يتعرضوا للأذى من قبل المتداولين المحترفين. وأضاف: "اهتمامي الأخلاقي يرتبط بعمليات النصب التي يتعرض لها الأفراد. إذا كنتَ غنياً، فلا بأس، ولكن أمي وأبي لا يفهمون بهذه الأمور".
المشكلة أن تحذيرات مناهضي العملات المشفرة تبدو كقصة الراعي والذئب. فجيرارد يتنبأ بأن العملات المشفرة سوف تنهار منذ حوالي عقد من الزمن. واعترف قائلاً، "ارتكبت الكثير من الأخطاء في ما يخصّ بتكوين"، إلا أن ذلك لا يتعارض مع مواقفه، بل "يظهر مدى غباء السوق".
على عكس مؤيدي العملات المشفرة، رافضو هذه العملات لا يحققون الثراء. فجيرارد تمكن من تحقيق دخل متواضع من مقالاته والكتب التي نشرها بنفسه مثل كتاب (Attack of the 50 Foot Blockchain) ولكن كاستور تواجه أحياناً صعوبة في جني ما يكفي لتدبر أمورها. وقالت: "أجد طريقة لأعيش بشكل اقتصادي". وحين سألتها عما إذا كان هناك ثمة احتمال لأن ينظموا مؤتمراً لمناهضي العملات، أجابت: "نعم، ولكن لن يمولّه أحد".
جنود دوج
لم يفهم تيم أورسيتش جونيور تغريدة "كلمة واحدة: دوج"، وقال: "ظننت أنها خطأ طباعي" أو أن إيلون ماسك يتصرف بغرابة، فلم يكترث للأمر.
ولكن ما لبث أن بدأ يقرأ عن عملة دوجكوين في كلّ مكان. انتابه الفضول، فتوجه بالسؤال إلى مجموعة من خبراء العملات المشفرة من لاعبي كرة المضرب الذين كان يعاينهم في عيادته الرياضية المتخصصة بتقويم العظام في مقاطعة لوس أنجلوس. وقد أجابوه "إنها أمر مسلّ يمكن أن يمتلكه الأشخاص الذين لا يفهمون السوق، ولكن يريدون أن يشعروا أنهم جزء من هذا المجتمع".
يقول أورسيتش الذي يعاني من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، إنه يبحث دائماً عن قنوات لتفريغ طاقته. ولذلك، انسجم فوراً مع مجتمع عملة دوج الذي يقضي أفراده أيامهم وهم ينشرون الميمز على "تويتر" وعلى موقع "ريديت". ووصف أورسيتش أعضاء هذا المجتمع "بأنهم ممتعون جداً ومسترخيون، هم أشبه بأطفال الزهور من حقبة الستينات، فلا شيء يزعجهم". كما لفته أن هذه العملة بدأت كداعبة من أجل السخرية من بتكوين، وقد تمت تسميتها تيمناً بالميم الذي يصوّر كلباً لطيفاً ومضحكاً من سلالة شيبا إينو، بالأخص لأنه يحب الكلاب، إذ نشأ في كاليفورنيا وكان لديه دائماً "أربعة كلاب دفعة واحدة، وهي كلّها كلاب يتم إنقاذها".
تشبه عملة دوج البتكوين أكثر من الإيثريوم. ليس لديها أي فائدة متأصلة بحدّ ذاتها كما أن لا قيمة لها غير المبالغ التي يبدي الآخرون استعدادهم ليدفعوها مقابلها. ولكن على عكس بتكوين، فإن عدد عملات دوج ليس محدوداً بسقف معيّن.
إن رؤية أورسيتش لمستقبل العملات المشفرة بسيطة: "إذا كانت بتكوين الذهب، فالإيثريوم هي الفضة"، فيما يتخيل أن تصبح عملة دوج أشبه بمصروف الجيب في عالم العملات المشفرة. (حالياً، تساوي عملة دوج حوالي 27 سنتاً مقابل بتكوين التي تساوي 45700 دولار والإيثر 3150 دولاراً).
حين أشار بعض محبي عملة دوج إلى أن تفسير أحرف الاسم بالإنكليزية يعني "افعل الخير فقط كلّ يوم"، قرر أورسيتش التحرك. فبعد أن رأى الجمعيات الخيرية تنازع في ظلّ الوباء، بدأ يصنع عملات دوج حقيقية وهي قطع مبتكرة تكلف صناعتها بضع دولارات فقط، وقام ببيعها ليتبرع بجزء من الأرباح إلى الجمعيات التي تعنى بإنقاذ الحيوانات. كما أرسل عملات عبر البريد لأشخاص تحدثوا عن معاناتهم عبر الإنترنت. وأضاف: "قلت لهم إنني أقف إلى جانبهم. فلمجرد أن الناس لا يتفاعلون معكم على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا لا يعني أنهم لا يصلّون من أجلكم".
مع اكتساب العملة المزيد من الزخم، ارتفع سعرها. وبدأ فريق كرة السلة "دالس مافريك" وفريق البيسبول "أوكلاند أثلتيك" بقبول عملة دوج من أجل تسديد ثمن التذكار. وأعلن إيلون ماسك أنه يعمل مع مطوري عملة دوج من أجل "تحسين كفاءة نظام التعاملات". وقال أورسيتش "لم تعد مجرد عملة ميم للدعابة فقط".
ظهور المنافسين
أدّى نجاح دوج إلى ظهور منافسين لها، وسرعان ما نشأت عملات ميم أخرى مثل "سايف مون" (SafeMoon) و"شيبا إينو" (Shiba Inu) و"دوج كيلر" (Doge Killer) التي وعدت جميعها بتحقيق عوائد طائلة. ولكن بالنسبة إلى أورسيتش، هذه العملات هي أشبه بـ"كشط أوراق اليانصيب" حيث يتم إنتاجها من أجل تحقيق الربح السريع فقط. وقد هاجمها العديد من مؤيدي عملة دوج.
إلا أن ردّة الفعل الغاضبة هذه في داخل مجتمعه، أزعجت أورسيتش، فاستضاف غرفة دردشة صوتية على "تويتر" انتقد فيها السلوكيات السلبية في صفوف جيش دوج. وقال: "لا تتحدثوا بالسوء عن المجتمعات الأخرى، رسالتنا هي فعل الخير فقط". وبفضل هذا الخطاب من القلب، اكتسب حساب أورسيتش على "تويتر" (TheDogeCoinMilitia) أكثر من 40 ألف متابع.
على الرغم من انتشار عملة دوج، إلا أن القليل من الناس يعتقدون بأنها سوف تشكل منافساً جدياً للعملات المشفرة المرموقة. ويرى بعض المنتقدين أن دوج تجسّد التحول ما بعد الحداثة في حقبة "غيم ستوب" (GameStop ) حيث يمكن لقيمة الأصول أن ترتفع وتنخفض بدون ارتباط واضح بأي قيمة كامنة. وقال الاستشاري كريس بليك الذي يدير موقع (DeFi Watch) الذي يدعو إلى شفافية أوسع في مجال العملات المشفرة إن "دوج هي العملة المطلقة التي تنسجم مع هذه السردية".
من جهته، رفض المحلل المالي ديمتري كوفيناس هذه الظاهرة، حيث وصفها بـ"العدمية المالية"، معتبراً أنها مرتبطة بمشكلة أكبر من التفكك الاجتماعي والوجودي. وأضاف في حديث مؤخراً عبر الإنترنت: "لهذا السبب اكتسبت فرضيات المحاكاة شعبيةً واسعةً"، في إشارة إلى الفكرة (التي تحدث عنها ماسك أيضاً) بأننا ربما نعيش ضمن مصفوفة داخل الكمبيوتر. وقال: "ثمة شعور بأن الواقع أقل أهمية".
على عكس عملات الميم الأخرى، يمكن القول إن قيمة عملة دوج تكمن في إيلون ماسك نفسه. فغالباً ما يتم تشبيه العملات الرقمية بطائفة دينية، وهذا التوصيف ينطبق على عملات دوج أكثر من أي رموز مشفرة أخرى، بحسب سام ليسين، المستثمر والشريك في شركة "سلو فنتشورز".
وقال ليسين إن "إيلون ماسك واحد من أعظم قادة الطوائف في العالم الحديث"، وفي البيئة المالية القائمة اليوم، فإن التبعية لقائد الطائفة ربما تكون أمراً منطقياً. وأضاف: "إذا كنت بين أول من يقوم بما يقوله إيلون ماسك، فسوف تحقق المال فعلاً".
يقول أورسيتش إن انجذابه لعملة دوج ليس بسبب سعرها فحسب، بل بسبب المجتمع الذي بنته حولها، بالأخص في ظلّ الوباء. فعلى الرغم من أنه لم ير أخته وعائلتها التي تعيش في مونتانا، إلا أنه تمكن من التحدث مع ابنة اخته البالغة من العمر 12 سنة عن ميمز الدوج. وقال: "لم أستطع سؤالها عن المدرسة أو كرة السلة، ولكن بإمكاننا دائماً الحديث عن الدوج". من هذا المنطلق، فإن عملة دوج، وكل رمز مشفر، هي في الواقع رموز اجتماعية.
في عيادته، يقبل أورسيتش أن يسدد له المرضى بدل اتعابه بالعملات المشفرة، بينها دوج. وهو يحلم أن يتمكن في يوم ما أن ينشئ ملجأ لحيوانات الكسلان. وقال: "لا أستطيع أن أحدد السبب، ولكن لسبب ما لطالما استهوتني حيوانات الكسلان".