بلومبرغ
في الحادية عشرة من صباح يوم السبت في مطلع يونيو كنتُ في الطابق العاشر لمبنى وزارة المالية في كراكاس حاضرة فنزويلا. يحمل جانب المبنى المشرف على وسط المدينة المتداعي صوراً ضخمةً لرمز تحرير أمريكا الجنوبية سيمون بوليفار، وأخرى لهيوغو تشافيز الاشتراكي الثوري الذي فاز بالرئاسة عام 1998، وخلفه نيكولاس مادورو الذي يحكم فنزويلا. عندما بدأ العرض الإيضاحي الذي استدعيت لأشاهده بعبارة "الهجوم على فنزويلا" مكتوبة بالإسبانية على لوح ”پاورپوينت“ كان لسان حالي يقول، لم أمضِ في البلاد 24 ساعة بعد؛ لكن لِم لا؟ فلتبدأ ما ظننتها حملة إعلانية سياسية.
كنت قبلها ببضعة أسابيع في أواسط إبريل قد تلقيت اتصالاً عبر"واتساپ" يطرح احتمالية إجراء مقابلة مع مادورو. المتصل كان هانس هيومز، وهو مدير صندوق تحوُّط في نيويورك يتخصص بالاستثمار في مناطق لا يجرؤ أن يطأها سواه. هيومز كان يملك بعضاً من ديون فنزويلا المتعثرة عبر صندوق للأسواق الناشئة، كما يعرف أشخاصاً في الحكومة، وكان قد عاد مؤخراً من كراكاس. بالرغم من أنَّ مادورو معجب بتلفزيون "بلومبرغ" كنت أظن أنَّ فرص المقابلة ضئيلة. أضف لذلك أنَّ آخر مقابلة له مع صحفي أجنبي، وكانت مع خورخي راموس من "يونيفيجن" في فبراير 2019، انتهت بعد 17 دقيقة من المواجهة.
بيد أنَّ حال مادورو بلغ حدَّ اليأس. فنزويلا التي كانت أثرى دول أميركا الجنوبية بفضل احتياطاتها النفطية الضخمة، تخنقها العقوبات الأميركية منذ زمن، كما أنَّ علاقاتها الدبلوماسية مجمَّدة. تقلَّص اقتصاد البلاد بنسبة مذهلة تناهز 80% في غضون ثمانية أعوام، كما غادرها نحو 5.4 ملايين من أبنائها، ويشكِّلون خمس السكان، هرباً من العجف والقمع السياسي. وتعاني البقية الباقية أزمة إنسانية شديدة.
في مطلع 2019 شُدِّدت العقوبات على مادورو ونظامه السلطوي بصرامة لإشعال انتفاضة شعبية، أو حتى لقدح زناد انقلاب عسكري. إلا أنَّ مادورو صمد متخطياً حقبة دونالد ترمب. وتبدي الحكومة الفنزويلية حالياً رغبة بإعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة، والتفاوض مع المعارضة المحلية على شروط إجراء انتخابات ديمقراطية. إلى ذلك قال هيومز: "أعتقد أنَّه مستعدٌّ ليتحدث".
بدأت الملحمة باتصالات مع محامين، ووكلاء سفر، وخبراء أمن، وذلك لأنَّ وزارة الخارجية الأميركية تعتبر زيارة فنزويلا خطرةً بقدر السفر إلى كوريا الشمالية وأفغانستان، مما يعني أنَّ الوصول إليها يتطلَّب أكثر من بضع نقرات على شاشة هاتف ذكي للحجز عبر تطبيقات، مثل "كاياك"، و“إكسبيديا“.
ثمَّة شركة طيران فنزويلية تسيِّر رحلات من جمهورية الدومينيكان، إلا أنَّ طائراتها قديمة بشكل مرعب. لذا اخترت شركة "كوپا"، وهي آخر شركة طيران كبرى في الأمريكتين تسيِّر رحلات إلى كراكاس عبر مدينة بنما. حين أودعت حقيبتي اضطر موظف التذاكر في نيويورك أن يكتب رمز الوجهة “CCS” على ملصقة الأمتعة بخط اليد، لأنَّ رمز المطار لم يعد متاحاً على كمبيوترات الولايات المتحدة.
تُخلّف الرحلة إلى كراكاس انطباعاً قوياً. المباني مهجورة والبنية التحتية يرثى لها، وتصطف السيارات الى ما لا نهاية عند محطات على جوانب الطرقات للتزود بالوقود. وثمَّة نقاط تفتيش عسكرية عديدة تبعد إحداها عن تاليتها بضعة أميال. وفقاً لشرح سائقنا، إذ يتكسب الجنود في بلد لا مال فيه عبر إزعاج السائقين حتى يقدِّموا الرشوة.
قدَّم عرض الپاورپوينت في مقرِّ وزارة المالية باتريسيو ريفيرا، مستشار نائبة الرئيس دلسي رودريغز، وهو وزير اقتصاد سابق في الإكوادور. قال ريفيرا، إنَّ العقوبات -يقصد الهجوم- أتت على معظم إيرادات الدولة، مما اضطر فنزويلا للقيام بتغييرات جذرية في السياسات النيوماركسية التي كان تشافيز قد أطلق عليها تسمية "اشتراكية القرن الواحد والعشرين". خفَّض مادورو خلال العامين المنصرمين بإرشاد من رودريغز وريفيرا الدعم عن كل شيء من البنزين إلى القروض، وألغى تقييد الأسعار والاستيراد، كما سمح بدولرة الاقتصاد عند الضرورة. إنَّ قام به يتخطى ما قد لا يستطيع مخضرمو الرأسمالية في صندوق النقد الدولي أن يأتوا بأفضل منه.
تبيَّن لي أنَّ زيارتي إلى وزارة المالية لم تكن بسياق الدعاية السياسية بقدر ما كانت أول اختبار من سلسلة. فحين يتوقَّف الحوار بين طرفين في حالة من الجمود الجيوسياسي، يمكن استخدامنا معشر الصحافيين كبيادق الشطرنج. يريدني ريفيرا أن أبدي اهتماماً صادقاً بمحنة فنزويلا، وأن أثبت أنَّني لست امبريالياً من ”اليانكي“. كما حرص على ذلك كلٌّ من رودريغز، ووزير النفط طارق العيصمي، وقد التقيتهما في الأسبوع اللاحق. فإنْ اجتزت الاختبار؛ قد يوافق مادورو على مقابلتي.
خطة "صمام الأمان"
تظهر آثار القوة المرعبة للسياسة الخارجية الأميركية بادية للعيان في شوارع كراكاس والمدن الأخرى. فقد انخفض الحد الأدنى للأجور إلى ثلاثة دولارات في الشهر، بعد حرمان فنزويلا من مليارات الدولارات من ريع مبيعات النفط، مما اضطر الحكومة لتقليص حجمها، ولإلغاء برامج الدعم.
أسهم تحرير الاقتصادي الذي يسمّيه مادورو "صمَّام الأمان" في تخفيف وطأة هذه الظروف، لكن جلَّ الفائدة عادت على من يستطيع الحصول على دولارات من مستهلكين ومؤسسات. في متجر "2 دوسي" في كال مدريد الراقية، تمتلئ الرفوف والثلاجات بالسلع المستوردة التي تباع بأسعار باهظة جداً. إذ يباع نحو نصف لتر من مثلجات "هاغن داز" بـ9 دولارات، أما سعر عبوة بزنة نصف كيلوغرام من بروتين "الكولاجين" لحمية "كيتو" فيبلغ 59.50 دولاراً.
الحلُّ السهل لإنهاء هذا الحرمان وعدم المساواة واضح، ويكمن في إجراء انتخابات عادلة نزيهة، أو ستبقى العقوبات، وتستمر الولايات المتحدة بالاعتراف بقائد المعارضة خوان غويدو قائداً شرعياً لفنزويلا.
هل سيذعن مادورو؟
هذا هو أكثر سؤال أرغب في طرحه، كما أنَّه موضوع يرغب الجميع في كراكاس بالحديث عنه، ولكنَّهم لا يستطيعون. قيل لي إنَّ المخبرين منتشرون في كل مكان، كما أنَّ فندقي ربما يكون تحت التنصت. يشير رجال الأعمال المحليون الذين التقيتهم لـ"مادورو" عبر استخدام رموز. ويعتبر تطبيق "سيغنال" المشفَّر منصة لإجراء لجميع المكالمات الصوتية، وتبادل الرسائل النصية. بل و يعتبرون تطبيق "واتساپ" المشفَّر عرضة للاختراق.
كان يفترض أن أجري المقابلة مع مادورو الأربعاء في قصر ”ميرافلوريس"، لكن يوم الجمعة حلَّ، ولم يتحقق ذلك. ثمَّة نظرية؛ وهي أنَّ متشددين في الحكومة يعارضون المصالحة مع الولايات المتحدة، ويحاولون إفشال الخطة.
لاحقاً، طُلب مني أن ألتقي بنائبة الرئيس رودريغز في تجمع حزبي قرب حيّ سيمنتيريو ديل سور، الذي يعدُّ واحداً من أفقر وأخطر أحياء كراكاس. لدى وصولي كانت نائبة الرئيس في إطلالة مباشرة عبر التلفزيون الرسمي، تتحدَّث عن قوة الشعب وتمجِّد أبطال الثورة الاشتراكية. جلسنا بعدها للحديث، وقطعت لي وعداً: مادورو سيلتقيني في الثانية من بعد ظهر الإثنين. هذا يؤكِّد أنَّني اجتزت الاختبار الأخير.
كانت الساعات الأخيرة مضنية كما قد يتوقَّع المرء. بداية، أُخرج زملائي من قصر "ميرافلوريس"، في حين يتحقق الفريق الأمني للرئيس من كاميراتنا، ومعدَّاتنا، وأجهزة الإضاءة. ثمَّ نشب خلاف عبر الرسائل النصية حول عدد الأشخاص الذين يحق لهم أن يوجدوا في المقابلة من جهتنا.
قرابة السادسة مساءً، اصطحبونا إلى حديقة محفوفة بالأعمدة، ومنها إلى "ديسباشو بريزيدينسيال“، وهو مرادف فنزويلي مزخرف للمكتب البيضاوي. طلب المساعدون من الجميع أن يصمتوا، ثمَّ دخل مادورو الغرفة. كان أطول مني بكثير، وأقدر طوله بنحو 192 سنتيمتراً، وله شاربان كثيفان تماماً كما يظهر في الصور. قال لي: "أنت مشهور"، ثمّ جلسنا على مقعدين مذهبين من طراز لويس السادس عشر تحت صورة لبوليفار دائم الحضور بالطول الكامل، وكأنَّه كان يشرف علينا.
سمعت على مدى الدقائق الـ85 التي تلت، كما كنت أتوقَّع، تقريعاً موجهاً لقسوة ووحشية وظلم الاستعمار الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة. ولكن ما وراء ذلك كانت ثمَّة براغماتية مدروسة تجري. اقترح مادورو فتح حوار مع إدارة بايدن موضِّحاً أنَّه يريد التوصُّل إلى صفقة من أجل تخفيف العقوبات. قال: "علينا أن نبلغ نقطة تمكِّننا من تطبيع هذه العلاقة". إنْ قام مادورو بكلِّ الأمور بالشكل المناسب، أي أن ينشِّط الاقتصاد، ويعيد بناء قاعدة مؤيديه، ويثبط عزيمة المعارضة المفككة، فربما يتمكَّن من كسب الانتخابات بنزاهة.
الشرعية هي مقصد ما زال بعيد المنال. هل هو مستعدٌّ فعلاً للتخفيف من قبضته؟ قلَّة من المستبدين يفعلون ذلك طوعاً. في الوقت الراهن، تنتظر الولايات المتحدة من مادورو أن يبادر بخطوة أولى.