بلومبرغ
يمكن لمدير الأموال فلاديمير فيشنفسكي أن يحقق معدل فائدة سلبية مقابل امتلاك سندات حكومية أوروبية. ويمكنه أيضاً الحصول على عائد سنوي يعادل 20% عبر وجه جديد لسوق العملات المشفَّرة، والمعروف باسم التمويل اللامركزي (Decentralized finance)، أو اختصاراً، "ديفي" (DeFi).
من بين هذين الخيارين؛ قرر بالفعل أن يختار الـ20%، وهو عائد لا يمكن الحصول عليه من الأسواق التقليدية، وفق ما يقول فيشنفسكي، وهو شريك مؤسس في شركة "سانت غاثرد فاند مانجمنت" (St. Gotthard Fund Management)، ومقرُّها سويسرا، التي تدير محفظة مصمَّمة لتحقيق الدخل من الأصول المشفَّرة. هذه الاستراتيجية جديدة للغاية، لدرجة أنَّه من الصعب معها على محترفي "وول ستريت" فهمها.
بيانات ورموز تشفير
من أجل أن تفهم المسألة جيداً، خذ أولاً ما تعرفه -وربما لا تعرفه- عن عملة "بتكوين". هي عملة مشفَّرة، موجودة فقط ضمن قواعد بيانات مغلقة عبر الإنترنت، تتحكم بها رموز تشفير خاصة على الكمبيوتر. ثم لزيادة فهم تلك الاستراتيجية، اجعل الأمر أكثر تعقيداً بعض الشيء. تخيَّل أنَّ تلك الرموز المشفَّرة لا يقتصر استخدامها على تسجيل المعاملات فقط، بل يتمُّ استخدامها كمنصات إقراض، وكشركات تأمين وأسواق مالية، وكل ذلك من خلال البرمجيات، وبتدخل بشري متواضع. هذا ما يسمى "ديفي" (DeFi).
يمكن للمتداولين مثل فيشنفسكي، تحقيق مكاسب من خلال تعهدات تمويلية على شكل رموز تشفير، تمثِّل رأس المال اللازم لتشغيل مؤسسات مالية افتراضية، وغير خاضعة للتنظيم إلى حدٍّ كبير. ووفقاً لبيانات "ديفي بلس" (DeFi Pulse)، فقد بلغت ذروة برامج "ديفي" الشهر الماضي عندما ضخَّ المستثمرون ما يصل إلى 86 مليار دولار في تلك البرامج المختلفة، مقارنة بأقل من مليار دولار قبل عام.
إنَّه نظام جديد، متقلِّب وعرضة للاختراق. فأحد أوَّل المشروعات التمويلية اللامركزية، وهو صندوق "داو" (DAO)، كان ضحية لعملية اختراق عندما تعرَّض لسرقة 55 مليون دولار من قبل شخص استغل ثغرة في رمز مشفَّر لسرقة الأموال. واليوم، بعد أن تمَّ بناء عالم من التشفير يمكن للجميع الاستفادة منه، كما يمكن لمقرضين لامركزيين استخدام ودائع من العملات المشفَّرة لتقديم قروض لأشخاص يبحثون عن الاستدانة لتمويل رهاناتهم على العملات المشفَّرة، بشكل يتمُّ فيه استخدام التداولات اللامركزية لتداول العملات المشفَّرة، مع تغطية شركات التأمين اللامركزية أيضاً لمخاطر الاختراقات.
صعوبة التنظيم
العوائد الكبيرة التي يمكن أن يكسبها المستثمرون، غير مقوَّمة بالدولار أو اليورو، بل وفي كثير من الأحيان، مقوَّمة بعملات مشفَّرة. ويقول منتقدو نظام "ديفي"، إنَّ بعض المشروعات يمكن أن تشبه مخطط "بونزي" (Ponzi)، إذ يعتمد المستثمرون الأوائل على تراكم العملات المشفَّرة لدى مستثمرين آخرين في تلك العملات التي ما تزال ذات استخدام محدود في العالم الحقيقي. وتتزامن تلك المكاسب الكبيرة لذلك النوع من العمليات المشفَّرة مع شهية المستثمرين الشرهة لامتلاك المزيد من الأصول المشفَّرة. ونتيجة عدم وجود مشروعات "ديفي" في أيِّ مكان مادي، فمن الصعب تنظيمها، مما يجعل المجال عرضة لعمليات الاحتيال ومخططات غسيل الأموال. ومع ذلك، يعتقد أنصار "ديفي" أنَّ التكنولوجيا لديها القدرة على فتح الأسواق، وإيجاد أنواع جديدة من المنتجات المالية.
لمعرفة كيفية عمل برنامج "ديفي"، انظر إلى "سوشي سواب" (SushiSwap) الذي يمثِّل سوقاً لتبادل العملات المشفَّرة بشكل لامركزي، الذي بدأ العمل به العام الماضي، إذ يعتمد "ديفي" على رمز مقاصة آخر يسمى "يوني سواب" (Uniswap). ومثل أي بورصة -من تطبيقات تداول العملات المشفَّرة المعروفة، مثل "كوين بيس"، إلى أسواق الأسهم مثل "ناسداك"- تعتمد "سوشي سواب" على وجود السيولة لدى طرف المشتري، والتأكُّد من أنَّ هذا المشتري يستطيع الوصول إلى العملات التي يرغب في شرائها. وعلى الجانب الآخر، يمكن للبائعين الحصول على السعر الذي يعتقدون أنَّه عادل. ومن أجل القيام بذلك بطريقة لامركزية، تنشئ "سوشي سواب" مركزاً للسيولة يجمع أي عملتين قد يرغب المتداولون في مبادلتهما -على سبيل المثال "إيثريوم"، ثاني أكثر العملات المشفَّرة شيوعاً والعمود الفقري لـ"ديفي"، إذ تتمُّ مبادلتها بالرمز المميَّز الخاص "سوشي".
عوائد بـ20%
يشتري المستثمرون-مثل فيشنفسكي- العُملتين، ثم يتمُّ إدراجهما مؤقتاً في مركز السيولة، إذ تكونان متاحتين للمتداولين. تقوم الخوارزمية بضبط أسعار كلا العملتين، لتعكس التغيُّرات النسبية في الطلب. تتقاضى منصة التداول أيضاً رسوماً للتداول. عندما يستعيد فيشنفسكي عملاته، يحصل هو الآخر على جزء من الرسوم الناتجة عن التداولات في مركز السيولة، بالإضافة إلى رموز الـ"سوشي" الإضافية التي تمثِّل قيمة مكاسبه. (يمكن ربح الرموز المميزة لـ""سوشي على زوج آخر من التداولات، وليس فقط تلك التي تتضمَّن "سوشي"). وتقدَّر عوائد برنامج التداول سنوياً بنحو 20%.
تمكِّن بروتوكولات "ديفي" الأخرى، الأشخاص الذين يتيحوا عملاتهم المشفَّرة لشخص آخر لاقتراضها، من تحقيق مكاسب. فعلى سبيل المثال، قد يرغب المتداولون في اقتراض عملات مستقرة كالتي ترتبط قيمتها بعملة تقليدية مثل الدولار، بهدف شراء المزيد من عملات "بتكوين" على المنصات التي لا تسمح بتداول عملات تقليدية.
مزارعو العائد
يبدو الأمر معقداً، وهو بالفعل كذلك. يتمُّ توقُّع المكاسب في "ديفي" في الغالب من اتجاهات السوق الحالية، ويمكن أن تنخفض بسرعة. كما يقوم بعض المستثمرين الذين يطلقون على أنفسهم اسم "مزارعي العائد" بتحريك أموالهم باستمرار في محاولة لتوليد الدخل، ولكنَّ تكاليف تداول العملات المشفَّرة التي تسمى رسوم "جي إيه إس" (GAS) يمكن أن تلتهم تلك المكاسب. علاوةً على ذلك؛ يمكن أن تتقلَّب قيمة العملات المشفَّرة التي يتمُّ الحصول عليها من هذه العوائد بشكل كبير. فمثلاً، عندما تراجعت عملة "بتكوين" بنسبة تصل إلى 10% خلال يوم واحدة في الفترة الأخيرة، انخفضت رموز "ديفي" الشهيرة مثل "يوني سواب" بنسبة 20% تقريباً.
ما تزال هناك مخاطر قائمة للعملات المشفَّرة؛ فمن المحتمل أن يزداد تدقيق الجهات التنظيمية، مما قد يؤدي إلى إغلاق أو إعاقة بعض المشروعات، وتلاشي قيمة العملات الرقمية المرتبطة بها.
يمكن لمؤسسي مشروعات "ديفي" الذين قاموا بتخزين العملات المشفَّرة التي تمَّ إنشاؤها، أن يحوِّلوها بشكل مفاجئ إلى سيولة نقدية، مما قد يتسبَّب في انخفاض الأسعار.
لقد باع شيف نومي مبتكر "سوشي سواب" عملات مشفَّرة بقيمة 13 مليون دولار تقريباً في سبتمبر، قبل أن يتراجع عن المسار بسبب غضب مجتمع متداولي العملات المشفَّرة.
تحذيرات وانهيارات
يزخر تاريخ العملات المشفَّرة بالقصص التحذيرية حول الاستثمارات التي تصحبها موجة من الصخب، ثم تنهار بعد ذلك. في عام 2018 تقريباً، أدى ما يسمى بالاكتتابات الأولية للعملات إلى جمع مليارات الدولارات لتمويل تلك المشروعات، ليتبين لاحقاً أنَّ معظمها عديم الفائدة. ويقول الناشطون في "ديفي"، إنَّ الاختلاف الآن هو أنَّ التطبيقات أصبحت مثل أسواق التداولات، إذ يمكن للمقرضين تحقيق مكاسب حتى لو كانت فقط من المضاربة بالعملات المشفَّرة. وقد بلغ حجم التداول 813 مليون دولار خلال يوم واحد مؤخراً، مما أدى إلى تسجيل رسوم بقيمة 1.8 مليون دولار حصل عليها أولئك الذين يضعون العملات المشفَّرة الخاصة بهم في مركز السيولة، وذلك حسب "يوني سواب" التي تعلن عن إحصاءات المستخدمين الخاصة بها في الوقت الفعلي.
ماذا عن قيمة العملات المشفَّرة التي يعتمد عليها العديد من مشروعات "ديفي"؟
لا توفِّر تلك العملات حقوق ملكية، ولا تمنح دائماً أي مطالبة مباشرة في أرباح المشروعات. ولكن، غالباً ما تمنح حق التصويت على مستقبل المشروع. وقد يأمل المستثمرون أن تزداد شعبية البروتوكولات المرتبطة بها، وكذلك تزداد شعبية العملات المشفَّرة المرتبطة بها أيضاً.
بعض منصات "ديفي" قد لا تكون ناجحة كما تبدو. يقول ألكسندر كلودا، الذي شارك في إدارة برامج "ديفي" في صندوق "نيكل ديجيتال أست مانجمنت" (Nickel Digital Asset Management)، إنَّ الاقبال على المشاركة في مراكز السيولة قد يكون مدفوعاً بقيمة "الرسوم" بقدر أقل من الحصول على العملات المشفَّرة المجانية. ويضيف كلودا: "على المدى القصير، تكون قراءة الصورة أكثر صعوبة، والمنطق ليس صحيحاً تماماً إذا كانت المشاركة فقط بسبب الحافز الإضافي الذي يمنحك إياه البروتوكول للمشاركة".
وأشار كلودا إلى أنَّه وبصفته أحد المستثمرين، يسعى إلى المشاركة في المشروعات التي تضمن حجماً مستداماً من التداولات، حتى لو لم تكن هناك عوائد مغرية.
الفكرة في بدايتها
يقول المدافعون عن نظام "ديفي"، إنَّ الفكرة ما تزال في مهدها، ويمكن في النهاية توسيع نطاق استخدامها، والوصول بها إلى مجالات التمويل التقليدية. هم يحلمون بنظام مالي يتمُّ تشغيله عبر الإنترنت، ولا يتضمَّن مسؤول ائتمان في فرع بنكي، مثل: "جيه بي مورغان"، أو "كريدي سويس". فهو استثمار في بنية تحتية تعتمد على التكنولوجيا بشكل كبير، بما يضمن تدفُّق السيولة لتداولات الأسهم.
لكن "إليان أو" مهندسة تقنية البلوك تشين في "غلوبال فاينانشيال أكسيس" (Global Financial Acces)، تقول، إنَّه لا حرج في استخدام "ديفي" فقط لتداول العملات المشفَّرة. "انظر إلى فيغاس وماكاو؛ فجزء من سبب قيمتهما، لأنَّهما يسمحان لك بالقيام بما حظرته السلطات القضائية الأخرى". وكما تقول "أو" التي تكتب في رأي بلومبرغ: "من الممكن بناء صناعة كاملة ترتبط بالمضاربة".