بلومبرغ
على مر السنين، بهرت شركة"ديسكفري"، مالكة قناة "أنيمال بلانت" ومضيفة "أسبوع أسماك القرش"، مشاهدي التليفزيون بجميع أنواع الأعاجيب الداروينية، مثل سلاحف القاطور النهاشة، وجراد البحر التسماني العملاق، والكنغر الشجري...
حاليّاً تحاول "ديسكفري" تحقيق نقلة نوعية خاصة بها، إذ تزحف من البحار المتقطعة لتليفزيون الكابل الكلاسيكي، لتغزو الأرض الخصبة لتلفزة الإنترنت.
في 17 مايو جلس الرئيس التنفيذي ديفيد زاسلاف، إلى جنب جون ستانكي، الرئيس التنفيذي لشركة "إيه تي آند تي"، في مؤتمر عبر الهاتف للمستثمرين، عُقد على عجل، وقدّم نظرة ضبابية عن الكوكبة الترفيهية متعددة الرؤوس التي افتُتحت حديثاً.
اندماج عملاقَي الإعلام
كشف المديرون التنفيذيون أن "إيه تي آند تي"، بعد ثلاث سنوات فقط من إتمام استحواذها المكلّف على"تايم وارنر"، وإعادة تسميتها "وارنر ميديا"، ستفصل أصولها الإعلامية، التي تشمل"سي إن إن" و"شبكة تورنر التليفزيونية" و"تي بي إس" واستوديو "وارنر براذرز" وتدمجها مع "ديسكفري".
سيقود زاسلاف الكيان الجديد، الذي لم يعلن عن اسمه بعد. ستشمل محفظة هذا الكيان مزيجاً من العلامات التجارية عالية المستوى مثل"إتش بي أو" -المعروفة بإنتاج مسلسلات تليفزيونية باهظة الثمن مثل مسلسل "ساكسيشن"- جنباً إلى جنب مع قائمة من شبكات الكابلات الأساسية، بما في ذلك "إتش جي تي في" و"فود نتورك"، وقناة "تي إل سي" البارعة في إنتاج برامج منخفضة التكلفة، مثل برنامج الواقع "خطيب 90 يوماً".
في هذا السياق قال زاسلاف: "لا سبب يمنع هذا من أن يكون أوسع وأنجح منصة موجهة إلى المستهلكين في العالم".
اختراق سوق البثّ الرقمي
كافحت "إيه تي آند تي" و"ديسكفري" لإتقان نظام تليفزيون الإنترنت، فقبل عام أُطلِقَت "إتش بي أو ماكس" من "إيه تي آند تي"، وبدأت بداية بطيئة، لكنها اكتسبت منذ ذلك الحين قوة جذب بعد إبرام صفقات توزيع رئيسية مع "روكو" و"أمازون" وعرض فيلم "المرأة المعجزة 1984"، و"غودزيلا ضد كونغ"، وأفلام أخرى من إنتاج "وارنر براذرز" في نفس اليوم الذي عُرضت فيه الأفلام لأول مرة في السينما.
تضمّ "إتش بي أو ماكس" وقناة "إتش بي أو" التقليدية معاً نحو 44 مليون مشترك في الولايات المتحدة، و64 مليوناً في جميع أنحاء العالم.
وفي يناير بدأت في الولايات المتحدة خدمة البث الجديدة من "ديسكفري"، وهي "ديسكفري+".
وبحلول أواخر أبريل قالت الشركة إن لديها 15 مليون مشترك في بثّها، كثير منهم حصل على "ديسكفري+".
منافسة شرسة
ربما كانت صفقة "إيه تي آند تي" حتمية، نظراً إلى الوضع الراهن الذي يشهده بثّ تليفزيون الإنترنت، إذ أصبحت هذه السوق عالمية بشكلٍ متزايد في توقعاتها، وغير متقبلة للشركات الصغيرة.
فلا تزال شركة "نتفلكس"هي الشركة الضخمة، مع 208 ملايين مشترك في جميع أنحاء العالم، وخطّ إنتاج للأعمال الرائجة مثل مسلسل "لوبين"، التي تحظى بشعبية عبر القارات.
لكن شركة "والت ديزني"، التي اشترت قبل عامين إمبراطورية روبرت مردوخ الترفيهية مقابل 71 مليار دولار، لزيادة حجمها، بدأت اللحاق بالركب بسرعة، مع أكثر من 100 مليون مشترك في خدمتها "ديزني+".
محاولات التوسع خارجياً
بدأت"وارنر ميديا" و"ديسكفري" توسيع خدمات البث في الخارج. كلتاهما واجهت عقبات في اللحاق بالعملاقين.
فلا تستطيع "وارنر ميديا" في الوقت الحالي إطلاق"إتش بي أو ماكس" في المملكة المتحدة والأسواق الأوروبية الرئيسية الأخرى، بسبب الصفقات الحالية التي أبرمتها "إتش بي أو" مع مزود خدمة البث التليفزيوني المدفوع "سكاي"، وتفتقر "ديسكفري" إلى امتيازات الأفلام الصاخبة لاستديوهات "وارنر براذرز".
وفي هذا السياق، يقول تود يوينغر، محلّل وسائل الإعلام في "سانفورد سي بيرنشتاين"، إن ارتباطهما هو "اعتراف صريح بأن أيّاً من الشركتين لا تعتقد أنه يمكن أن تنجح في مستقبل البثّ المباشر وحدها".
كيانات عملاقة
من بين السلالة الجديدة، تليفزيونات إنترنت ضخمة، إذ يُنظر إلى الضخامة كمفتاح للبقاء.
فبعد الإعلان، تفاخر زاسلاف للصحفيين بأن الكيان الجديد سيكون لديه "أكبر مكتبة للبرامج والأفلام على سطح كوكب الأرض"، مع أكثر من 200 ألف ساعة من الموادّ التليفزيونية أو البرامج التليفزيونية، بما في ذلك "الأفلام والمسلسلات والرسوم المتحركة والرياضة والأخبار والبرامج غير الخيالية وبرامج الأطفال، "أي جميع المجالات التي نمتلك فيها الموهبة والقوة للتنافس والفوز".
تابع زاسلاف حديثه عن حجم "مسار التسويق" للكيان المندمج، ومدى وصول "خطوط بثّ المحتوى" الدولية الخاصة به، وثبات "ميزة الأفلام الناجحة"، إذ قال إن "الأفلام الصاخبة الكبيرة" ستعمل كمنارات "تحافظ على تفاعل العملاء وتغذيتهم على المنصة"، فيما تخلق "آلة ثابتة للتدفق النقدي الحر" من أجل استمرار إعادة الاستثمار في صنع جدول البرامج.
الضخامة لا تنجح أحياناً
لكن الشركات الأخرى التي ادّعت أن لديها أوجه تآزر فريد من نوعه، تحطمت آمالها في التفوق الإعلامي. رغم امتلاكها في الوقت نفسه لوازم وسائل الإعلام ووسائل توزيعها.
ففي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت شركة "فيرايزون للاتصالات" أنها ستبيع قسمها الإعلامي لشركة "أبولو غلوبال مانيجمنت" مقابل 5 مليارات دولار، متخلية عن سيطرتها على عديد من العلامات التجارية التي كانت مهيمنة على الإنترنت، بما في ذلك "إيه أو إل" و"ياهو".
وعلى الرغم من أن شركة الاتصالات العملاقة "إيه تي آند تي" ستحتفظ بحصة في الشركة الجديدة غير المسماة بعد، فإنها تنهي بشكل أساسي طموحها الأوسع لاستخدام ملكيتها الإعلامية وسيلةً لتقليل تضاؤل عملائها في خدماتها اللا سلكية، مما يؤدي إلى إنهاء مغامرة هوليوودية باهظة الثمن.
وفي هذا السياق قال ستانكي من "إيه تي آند تي" في 17 مايو: "حقيقة الأمر أن التواصل المباشر مع المستهلك يشكّل فرصة عالمية تتطور بسرعة، ووتيرة هذا التطور تتسارع".
إيقاع سريع
سريعاً ما أثبت الطلب المتسارع على أعمال بثّ تليفزيون الإنترنت، أنه غير متزامن مع الإيقاعات اليومية للمديرين التنفيذيين لشركات الاتصالات.
فقد اعتادوا تقليدياً جذب المشتركين بهواتف ذكية جذابة من أمثال "آبل" و"سامسونغ"، تأتي مرتبطة بعقود طويلة الأجل قد لا يدقّقها العملاء لسنوات، مما يتيح للمديرين التنفيذيين التركيز على الترقيات التقنية للبنية التحتية اللا سلكية، والتحديات الهندسية التي تطورت ببطء على مدى عقود.
على النقيض من ذلك تتطلب أعمال الترفيه المنزلي التنقل في سوق عرضة لتقلبات أكثر على المدى القصير، وتتطلب تغييراً مستمرّاً في البرمجة، واستدراج العملاء، وتوسيع المواهب.
كان ريتشارد بلبلر، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "إتش بي أو" منذ فترة طويلة، الذي أمضى سنواته المهنية الأولى في واشنطن، المتقن لقواعد اللعبة في "كابيتول هيل"، يخبر زملاءه دائماً أنهم في حملة دائمة لكسب العملاء. وللبقاء على قيد الحياة، كان على "إتش بي أو" الفوز بهذه "الانتخابات" كل شهر.
أما عالَم البث فهو أكثر تطلُّباً؛ يتعين على "ديزني+" و"نتفلكس" و"إتش بي أو ماكس" جذب انتباه المشتركين كل ساعة وكل يوم وكل أسبوع، أو المخاطرة بفقدان المستهلكين المتقلبين لصالح أي خدمة بثّ تحتوي على أهم الدراما الجديدة أو أفلام الأكشن الناجحة أو المسلسلات الوثائقية عن الجرائم الحقيقية.
عروض في جميع أنحاء العالم
أمضى زاسلاف (61 عاماً) الذي يُعرَف بولعه بالسترات الواقية من الرصاص المعروفة في الصناعة باسم "زاس"، معظم حياته المهنية في مجال أعمال "تليفزيون الكابل" الذي بدأ حالياً يتلاشى.
ومعلمه هو جون مالون (80 عاماً)، من أوائل رواد هذه الصناعة في أمريكا. وبصفته الرئيس التنفيذي لشركة"ديسكفري" منذ عام 2007، كان زاسلاف من آخر زعماء وسائل الإعلام الكبار الذين جعلوا قنواته متاحة للجماهير العريضة التاركة لتليفزيون الكابل التقليدي.
ولكن على الرغم من كونه جديداً نسبياً في مجال البثّ، فإن زاسلاف على دراية جيدة بتعقيدات إدارة الأعمال الإعلامية الدولية.
تحصل شركة "ديسكفري" على نحو ثلث إيراداتها من خارج الولايات المتحدة، إذ تُشاهَد عروضها في أكثر من 220 دولة، كما تمتلك محطة بث تليفزيوني في بولندا.
وتتخصص "ديسكفري" في نوع البرامج غير المكتوبة التي يمكن تصديرها إلى الخارج بسهولة. لا يضيع كثير من برنامج "أسبوع أسماك القرش" في الترجمة.
أصبحت"ديسكفري" أيضاً لاعباً مهماً في الرياضات الأوروبية، وحصلت على حقوق طويلة الأجل لبثّ الألعاب الأوليمبية وكذلك التنس والغولف وركوب الدراجات في جميع أنحاء القارة.
إنفاق هائل
سؤال واحد هو ما إذا كانت الشركة الجديدة قادرة على دفع ثمن كل البرامج التي ستحتاج إليها للتنافس في عالم البثّ.
فوفقاً لزاسلاف، أنفقت الشركتان قبل الصفقة نحو 20 مليار دولار سنوياً على المحتوى، وهذا أكثر من نفقات "نتفلكس" التي تخطّط لإنفاق 17 مليار دولار هذا العام.
لكن الشركة ستُثقِل كاهلها بدين قدره 55 مليار دولار، ستحاول سداده باستخدام النقود من شركة تليفزيون الكابل المتراجعة، كل ذلك في أثناء الاستثمار في البرمجة لخدمات البثّ التي من المحتمل أن تخسر المال لسنوات قادمة.
رعاية المواهب
قد يمتلك زاسلاف أيضاً شيئاً لم يكن يمتلكه رؤساء "وارنر ميديا" القدامى في "إيه تي آند تي"، وهو الفهم العميق لكيفية تجنيد المواهب ورعايتها وتدليلها.
يشتهر الرجل بكونه على اتصال جيد، إذ يقيم حفلة عيد العمال السنوية بمنزله في هامبتونز، حيث يحضر الجميع من جون بون جوفي إلى كاتي كوريك.
إنه يفخر بالإشارة إلى أن"ديسكفري" لم تفقد أي نجوم مشهورين لصالح "ديزني" أو"نتفلكس" أو "أمازون برايم فيديو".
عندما غادر نجما برنامج "فيكسر أبر" الممثل شيب جينيس والممثلة جوهانا جينيس، قناة "إتش جي تي في"، سافر زاسلاف عدة مرات إلى منزلهما في واكو الواقعة في تكساس، واستدرجهما مرة أخرى. يقول زاسلاف: "العمل في قطاع الترفيه يتعلق بالموهبة، وأنا أحب الناس".
"سي إن إن"
ستتمتع الشركة الجديدة بميزة فورية، فمحفظتها ستشمل من العلامات التجارية "سي إن إن"، إحدى الشركات الرائدة في مجال الأخبار بتليفزيون الكابل.
لا يمكن لأي من "ديزني+" أو"نتفلكس" أن توفر للمشتركين الوصول إلى منفذ إخباري رئيسي كجزء من باقتهم الشهرية.
شدّد زاسلاف على الأهمية الاستراتيجية لـ"سي إن إن"، واستشهد بخبرته قبل سنوات في "إن بي سي العالمية"، التي ساعد خلالها على إطلاق القنوات الإخبارية على الكابل مثل "إن بي سي" و"إم إس إن بي سي".
حول ذلك يقول زاسلاف: "لقد رأيت قيمة تلك الأصول، إنها قوية للغاية، وفي عالم به كثير من المحتوى، تصبح الأخبار الحية والرياضات الحية عملة حقيقية ملموسة".
اندماجات أخرى في الطريق
من المرجَّح أن تعمل الصفقة بين "ديسكفري" و"وارنر ميديا" على تسريع عملية الإدماج في الصناعة الأوسع، إذ يبحث مالكو خدمات البثّ من الدرجة الثانية عن طرق للحصول على مركز من كتلة البرمجة.
قبل الإعلان عن الصفقة كان كثيرون ينظرون إلى "إن بي سي العالمية" التابعة لشركة "كومكاست"، على أنها أكثر وجهة مرجَّحة لأن تذهب إليها الأصول الإعلامية لشركة "إيه تي آند تي".
فبعد أن فاتهم الجزء الكبير من الكعكة، من المحتمَل أن تلقي "كومكاست" نظرة جائعة في مكان آخر، وقد تدور حول "إن بي سي العالمية" وتجمعها مع شركة "فاياكوم سي بي إس".
من جهة أخرى، استحوذت شركة "أمازون" مقابل 8.45 مليار دولار، على شركة الإنتاج السينمائي "مترو-غولدوين-ماير" (MGM)، صاحبة مكتبة الأفلام سهلة البثّ، من فيلم "ساحر أوز" إلى أفلام "جيمس بوند" و"روكي".
هل ترتفع أسعار الاشتراكات؟
إذا تعثرت شركة "ديسكفري" أو ما شابه، فستكون مجموعة من شركات التكنولوجيا ذات الجيوب الممتلئة والنهمة، على استعداد لاختيار العظام التي ستنقضّ عليها، لكنهم قد يجدون أيضاً عملاً معقَّداً لا يمكن تعطيله بسهولة في عصر "نتفلكس".
كتب المحلل مايكل ناثانسون ملاحظة للعملاء في اليوم التالي لإعلان "إيه تي آند تي": "خلال العام الماضي لم يكن بإمكاننا أن نكون أكثر وضوحاً في قلقنا من أن المحور من الشبكات الخطية إلى النماذج (المباشرة إلى المستهلك) كان مليئاً بالمخاطر الكبيرة والمنزلقات التي لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي، فحتى أفضل الشركات في فئتها مثل (نتفلكس) و"ديزني" تتطلب تحديثاً مستمراً للمحتوى الجديد المثير، ومكتبات ضخمة من البرامج اللامعة، والتزام الإنفاق بشكل كبير حتى ينخفض معدل الاشتراك الشهري إلى مستوى كافٍ، هذه الأشياء تشير إلى أن الوقت قد حان لبدء رفع الأسعار، فكما رأينا بالأمس، كان لدى قليل منهم القدرة على التحديق إلى هذه الهاوية والاستمرار".