
بلومبرغ
يرى إيفان سبيغل شيئاً لا يراه الآخرون وهو علم بإضاءة نيون حمراء ينعكس رقمياً عبر عدسات نظارات الواقع المعزز التي تغطي عينيه. وقف المؤسس الشريك لشركة "سناب" ورئيسها التنفيذي قرب مقرها في حديقة كلوفر بارك في سانتا مونيكا في كاليفورنيا، مرتدياً نظارات "سناب سبيكتاكلز" (Snap Spectacles) الجديدة، وفيما كان من المقرر أن يريني تطبيقاً بسيطاً يحاكي لعبة شطرنج، فضّل أن يتحداني في نسخة متطورة من لعبة "أمسك العلم".
شغف بالأجهزة القابلة للارتداء
بدأ سبيغل بإعطائي الإرشادات، فطلب مني النقر على زر افتراضي يظهر على يدي عند استخدام نظارات "سبيكتاكلز"، وهو زر لا يراه سواي. ثم طلب مني اختيار التطبيق من قائمة تلوح أمامي وذلك بتحريك أصابعي وكأنما ألمس الهواء. بعدها غرسنا أعلامنا الافتراضية ثلاثية الأبعاد قرب شجرة وطاولة نزهة، وأنشأنا قواعد متنافسة، ثم استعددنا للركض ولنطلق ومضات ضوئية من راحات أيدينا واحدنا تجاه الآخر، مثل البطل الخارق "آيرون مان".
تلك كانت الخطة على الأقل. فهذه اللعبة بالتحديد، التي صممها مطور من طرف ثالث، تقدم تجربة أعقد من محاكاة لعبة شطرنج تقليدية. في ذلك الصباح الحار من فبراير، واجهت النظارات مشكلات في الاتصال بشبكة الإنترنت أثناء التواجد في الخارج، عندها قرر سبيغل الانتقال إلى تطبيقات أخرى ما تزال قيد التطوير، تُعرف باسم "لنسيز" (Lenses) أو العدسات. من بين هذه التطبيقات، واحد يأخذ المستخدم في رحلة إلى قرية تعود إلى العصور الوسطى.
اقرأ أيضاً: إيرادات "سناب" ترتفع بدعم من عملية تجديد أعمالها الإعلانية
هناك أيضاً تطبيق "لينس" آخر من إنتاج استوديو "نيانتيك" (Niantic) الذي اشتهر بإنتاجه لعبة "بوكيمون غو" (Pokémon Go)، أوهو يتيح للمستخدمين إطعام حيوانات أليفة كرتونية وجبات خفيفة. كانت المؤثرات البصرية للتطبيق مذهلة جداً، رغم بعض المشكلات التقنية التي واجهناها.
سأل سبيغل ضاحكاً: "هل ترون حيواني الأخضر؟" وقد وجه كلامه إلى مارة كانوا ينظرون باستغراب حين رأوا رجلين تغطي أعينهما نظارات سوداء كبيرة ويحركان أصابعهما في الهواء وكأنهما يضغطان على أزرار غير مرئية. أضاف مبتسماً: "هذا ما يحدث عندما أخرج عن النص".
أصبح الخروج عن النص عادة لدى سبيغل في الآونة الأخيرة. فمنصته "سناب تشات" التي ظهرت لأول مرة في 2011، معروفة بابتكاراتها في عالم التواصل الاجتماعي. واليوم، يضم التطبيق حوالي 850 مليون مستخدم نشط شهرياً، ما يعني أن "سناب تشات" قادرة على إرضاء مساهميها ببساطة من خلال التركيز على استقطاب مزيد من المستخدمين من أبناء الجيل "زد" من "تيك توك"، وتحسين أعمالها على صعيد الإعلانات عبر الأجهزة الذكية، وقد بلغ حجمها نحو 5 مليارات دولار .
لكن شغف سبيغل الحقيقي يكمن منذ عشر سنوات في الأجهزة القابلة للارتداء وتقنيات الواقع المعزز، ويؤمن بأنها تمثل مستقبل الحوسبة النقالة. فهو على ثقة أنه وجد حلاً وسطاً مثالياً في السوق بين نظارات "راي بان ميتا" الأضعف أداء ونظارات "فيجن برو" (Vision Pro) من "أبل" التي تُباع مقابل 3500 دولار.
اقرأ أيضاً: "ميتا" تسعى لشراء حصة في "راي بان" لتطوير نظارات الواقع الافتراضي
إعادة التواصل بين الناس
يرى سبيغل أن ارتداء شاشة على الوجه سيساعد على إعادة الناس إلى الحياة الحقيقية. فهو يعتقد أن الواقع المعزز يحررنا من الحاجة إلى التحديق في هواتفنا طوال الوقت. أثناء تجوالنا في الحديقة، أدركت حقاً ما يعنيه. لاحظت رجلاً يسير مع كلبه، بينما كان يتحدث بصوت عالٍ عبر هاتف ملتصق بأذنه، وشخصاً آخر يستلقي تحت أشعة الشمس فيما يتصفح جهازاً لوحياً.
قال سبيغل: "هكذا تتحول الحوسبة من ممارسة فردية إلى تجربة مشتركة... بدل أن ينحني الناس ليركزوا على شاشات صغيرة في الحديقة، يمكنهم رفع رؤوسهم والنظر إلى السماء والوقوف والاستمتاع بالعالم من حولهم".
تأخذ هذه المهمة طابعاً شخصياً بالنسبة لسبيغل، خاصة كونه أباً لأربعة أطفال. في هذه الأيام، هو وزوجته، عارضة الأزياء ميراندا كير، غالباً ما يلاحظان ابنهما البالغ من العمر 14 عاماً جالساً مع أصدقائه، وجميعهم يحدقون بشاشات هواتفهم، أو يرونهم في المدرسة يجلسون قبالة كمبيوتراتهم المحمولة.
ربما فات الأوان لإعادتهم إلى حياة تخلو من الأجهزة الإلكترونية، خاصة وأن سبيغل نفسه أحد المساهمين في حدوث هذا كله. لكنه يأمل بأن يشجع الواقع المعزز الأولاد على التفاعل فيما بينهم. قال: "أتمنى أن يرغب أولادنا في استخدام هذه النظارات أكثر". وأشار إلى ملعب بيسبول قريب، مضيفاً: "يمكننا أن نقول لهم: لماذا لا تخرجون وتلعبون وأنتم تستخدمون نظاراتكم؟".
إصرار رغم العثرات
طُرحت النسخة الأولى من نظارات "سيبكتاكلز" عام 2016، عندما كان سبيغل، الذي يبلغ اليوم 34 عاماً، ما يزال صغير السن. كانت النظارات مطلية بألوان زاهية وتضم عدسة كاميرا كبيرة في زاويتها لالتقاط مقاطع فيديو قصيرة يمكن مشاركتها مباشرة على "سناب تشات". صُممت النظارات لتكون غريبة ومرحة، من أجل تمييزها عن الأجهزة التي تجعلنا نبدو وكأنما نحن بشراً أنصاف آليين، مثل نظارات "جوجل غلاس" (Google Glass).
استلهم سبيغل، الشغوف بتاريخ تقنيات التصوير، أفكاره من إدوين لاند، المؤسس الشريك لشركة "بولارويد" (Polaroid) الذي سعى لجعل التصوير تجربة فورية واجتماعية يمكن مشاركتها بسهولة. قال سبيغل: "أردنا أن نحتفي بالكاميرات لا أن نخفيها، وأن نقدم طريقة جديدة لصنع الذكريات".
حققت نظارات "سيبكتاكلز" التي بيعت بسعر 130 دولاراً شهرة واسعة، وكانت في البداية تُباع حصرياً عبر ماكينات بيع صفراء زاهية ظهرت فجأةً في أنحاء لوس أنجلوس، لكنها لم تحقق نجاحاً تجارياً كبيراً، واضطرت شركة "سناب" لخصم 40 مليون دولار من دخلها بسبب المخزون غير المبيع. برغم تحسّن قدرات التصوير والفيديو في الأجيال اللاحقة، أدرك سبيغل أن الكاميرات وحدها لا تكفي، فالنظارات بحاجة إلى شاشة.
في الإصدار الرابع من نظارات "سيبكتاكلز " الذي كُشف عنه خلال جائحة كورونا، قدّم سبيغل جهازاً مستقلاً يعرض طبقة من الصور الرقمية فوق المشهد الذي يراه المستخدم من خلال العدسات. (في الإصدارات السابقة، كانت عدسات النظارات مجرد زجاج عادي!).
كُشف عن النظارات الأحدث من "سيبكتاكلز"، التي كان يرتديها سبيغل ذلك اليوم، في سبتمبر وقد تضمنت تحسينات كبيرة في الأداء، أبرز ها نظام التشغيل الجديد "Snap OS"، الذي يتيح للمطورين تصميم تطبيقات واقع معزز باستخدام أدوات "لينس" الخاصة بشركة "سناب".
يتوفر الجهاز حالياً حصرياً لأعضاء برنامج المطورين لدى "سناب" مقابل 99 دولاراً شهرياً، مع التزام سنوي كحد أدنى. في الوقت نفسه، يعمل سبيغل وفريقه على تحسين عمر البطارية الذي لا يتجاوز حالياً 45 دقيقة، وتقليص الحجم الكبير للنظارات. فالتصميم الحالي النظارات العريضة، التي تزن نحو ربع كيلوغرام، قد يجعل مرتديها يبدو وكأنه عامل لحام قادم من المستقبل، أو معجب متحمس بالمغنية "شارلي إكس سي إكس".
منافسة مع "ميتا"
عندما سؤاله عن سبب عدم توجهه نحو نموذج مشابه لجهاز "أبل فيجن برو"، الذي يتميز بقدرته على إعادة إنشاء الأماكن الحقيقية افتراضياً باستخدام الكاميرات وتقديم عرض بانورامي، أجاب سبيغل بأن هذه التجربة انعزالية وتستهلك موارد تقنية كبيرة. (رفضت "أبل" التعليق).
أوضح أن "سيبكتاكلز" تعتمد على العالم الحقيقي الذي يراه المستخدم مباشرة، ما يقلل من الحاجة إلى موارد حوسبة ضخمة أو حزم بطاريات متصلة. إلى ذلك، فإن إطار النظارات الأخف وزناً تتيح فرصاً أكبر لتجارب جديدة. قال سبيغل: "التفاعلات الطبيعية تصبح ممكنة عندما لا تضطر للقلق من أن ترتطم بعمود مصباح أو أن تدوس على كلبك مثلاً".
اقرأ أيضاً: نظارة "أبل فيجن برو" يعاد بيعها بـ5000 دولار خارج الولايات المتحدة
لكن سبيغل يوجه سهامه أكثر نحو منتجات تطورها شركة "ميتا بلاتفورمز"، إذ استثمر رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ أكثر من 100 مليار دولار في عالم "ميتافرس"، وهو استثمار لم يؤت ثماره بعد. برغم بيع ملايين من نظارات "راي بان ميتا" وسماعات الرأس "كويست" الشبيهة بـ"فيجن برو"، إلا أن عالم "ميتافيرس" الذي أعاد زوكربيرغ بناء "فيسبوك" حوله لم يرق إلى مستوى الضجيج الذي أُثير حوله.
المنافسة بين سبيغل وزوكربيرغ تُعد الأطول في عالم وسائل التواصل الاجتماعي. فعلى مر السنين، سرقت "ميتا" دون استحياء عديداً من خصائص"سناب تشات" الشهيرة، مثل الرسائل التي تختفي وخاصية القصص. وقبل فترة قصيرة، حُدثت صفحة سبيغل الشخصية على "لينكد إن" ليشمل أحد مناصبه وظيفة "نائب الرئيس لشؤون المنتجات في (ميتا)"، ويقول سبيغل إن أحد موظفيه فعل ذلك كدعابة.
بعد ثمانية أيام فقط من إعلان سبيغل عن النسخة الجديدة من نظارات "سيبكتاكلز"، قدم مارك زوكربيرغ منتجاً منافساً في مجال الواقع المعزز تحت اسم "مشروع أوريون" (Project Orion). تجمع النظارتان بين العالمين الرقمي والحقيقي، ولن تكونا في متناول المستهلكين في المستقبل القريب. لكن سبيغل يستخف بتصميم "أوريون"، خاصة وأن النظارات تعتمد على جهاز لاسلكي منفصل يجب حمله في الجيب، بالإضافة إلى حزام معصم لتفسير حركات اليد. (رفضت "ميتا" التعليق).
في المقابل، تضمنت "سيبكتاكلز" كافة الدوائر الكهربائية اللازمة من أجل قراءة حركات الأصابع اعتماداً فقط على المستشعرات المدمجة. إلا أن التفاعلات لم تبلغ مرحلة السلاسة بعد، إذ يصعب التوصل إلى نتيجة متقنة، نظراً لمحدودية موارد "سنابس" نسبياً. (الشركة التي تكبدت خسارة قدرها 698 مليون دولار العام الماضي، تبلغ قيمتها السوقية 16 مليار دولار، بينما قيمة "ميتا" السوقية تبلغ 1.6 تريليون دولار).
مع ذلك، عندما تمكنت "سيبكتاكلز " من ضبط لمساتي ونقراتي في الهواء بالشكل صحيح، حظيت بتجربة سحرية. وقال سبيغل إن الأهم من ذلك أن "تقليد الدمج بين البرمجيات والجهاز أصعب من تقليد إحدى خاصيات تطبيق ما".
الاستفادة من الذكاء الاصطناعي
مع اشتداد حرارة الشمس في منتصف النهار، اتصل سبيغل بأحد مسؤولي التصميم لديه وطلب منه تخصيص ساعة لعرض مزيد من عدسات الواقع المعزز التي تدعم تفاعل عدة مستخدمين في نفس الوقت. قال سبيغل مازحاً: "لقد أخرجت العرض عن سياقه بأن لعبت لعبة أمسك العلم! أنقذ هذا العرض المروع من فضلك!".
عدنا بسرعة إلى مكاتب "سناب" النابضة بالحياة، حيث استعرض فريق "سيبكتاكلز" مجموعة تطبيقات مبتكرة. منها عدسة للرسم تتيح للمستخدمين ابتكار رسومات ملونة تطفو في الهواء أثناء تحركنا، ما يظهر دقة تقنيات الخرائط المكانية. كما أن هناك عدسة من "ليغو غروب" (Lego Group) تسمح للمستخدمين بتركيب مكعبات رقمية افتراضية مع أصدقائهم، بالإضافة إلى لعبة تعليمية تأخذ المستخدمين في رحلة كمستكشفين قطبيين لتعريفهم بتأثيرات تغير المناخ.
يسعى سبيغل من خلال نظام تشغيل "سناب" إلى تبسيط إعداد عدسات بحيث يتمكن أي فنان من تطويرها، لا سيما بمساعدة الذكاء الاصطناعي. وبدل أن يضطر المطورون إلى كتابة الأكواد، تستثمر "سناب" في تقنيات تتيح لهم الاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي لدى "جوجل" أو "أوبن إيه آي"، ما يجعل توليد الرسومات ثلاثية الأبعاد لعدسة مخصصة بسيطاً كإدخال أمر نصي في خانة دردشة.
كما تختبر الشركة نماذج منخفضة التكلفة من "ديب سيك"، الشركة الصينية الناشئة التي أثارت دهشة وقلق عمالقة الذكاء الاصطناعي في الغرب، لا سيما "ميتا"، من حيث انخفاض التكلفة. وجد سبيغل مصدر إلهام في ذلك، وقال: "حتى الشركات الصغيرة ذات الموارد المحدودة يمكنها تحقيق قفزات حقيقية. الشركات التي تعاني قيوداً يمكنها أن تبتكر".
سبيغل يبحث دائماً عن الجانب الإيجابي. في يناير، بعدما اجتاحت حرائق الغابات لوس أنجلوس، صُدم عندما علم أن منزل والده في باليساديس الذي كان أول مقر لشركة "سناب تشات" احترق بالكامل. زار هو وشريكه المؤسس بوبي مورفي موقع الحرائق وسارا وسط الرماد بعد أن أصبح المكان آمناً، ويستذكر ذلك قائلاً: "حجم الدمار لا يتصوره عقل".
تبرع سبيغل ومورفي ومعهما شركتهما بمبلغ 15 مليون دولار لدعم جهود الإغاثة العاجلة والمساعدة التي ما تزال مستمرة. كما يمول سبيغل دراسة أكاديمية مدتها 10 سنوات لفهم التأثيرات السامة والصحية طويلة الأمد لحرائق الغابات.
عندما سألته إن كان حزيناً لفقدان ما يمكن اعتباره مكان انطلاق شركتهما الناشئة، قال إنه لم يتبادر له الأمر هكذا من قبل.