بلومبرغ
في الأيام الأولى لتفشي وباء كورونا، بدت الأمور وكأنها تتجه من سيئ إلى أسوأ بالنسبة إلى هوليوود. فالاستوديوهات التي كانت تعاني أصلاً من تراجع مبيعات التذاكر، باتت تواجه أيضاً إغلاق دور السينما والمتنزهات الترفيهية، فضلاً عن التأخر في إصدار الأفلام الجديدة، بل وتوقف عمليات الإنتاج السينمائي.
أمّا شبكات التلفزيون التي ترزح تحت وطأة إلغاء الاشتراكات بالكابل، فتلقت هي الأخرى ضربة إضافية تمثلت في تأجيل أو إلغاء الفعاليات الرياضية، ما حرمها بالتالي من برامجها الأكثر أهمية.
ما يريده المستهلك
لكن مع ذلك، أسهمت هذه الفوضى في المقابل في دفع هوليوود باتجاه التركيز أكثر على ما يريده المستهلك. فخدمات البثّ التي كانت تحظى أصلاً بأولية قصوى، أصبحت الآن الطريقة الوحيدة التي يشاهد من خلالها الجمهور الأفلام والمسلسلات. وفي هذا الإطار، كسبت شركة "نتفلكس" 26 مليون عميل إضافي في النصف الأول من عام 2020، وهو عدد قياسي من المشتركين الجدد. وبالتالي، وضعت شركات إعلامية عديدة نموذج عملها التقليدي جانباً، وتعلمت كيف تقدّم خدمات البثّ.
شركة "وارنر براذرز" على سبيل المثال، جرَّبت عرض كامل الحلقات التلفزيونية دفعة واحدة عبر خدمة البث التابعة لها "إتش بي أو ماكس"، فيما أعلنت شركة "ديزني" عن خطط لإنتاج المزيد من البرامج التلفزيونية التي تستند إلى سلسلتَي "مارفل" و"ستار وورز" اللتين تمتلك حقوقهما، ما يعزز نهجها بترك فاصل زمني كبير بين إصداراتها الكبرى من أجل جذب عدد اشتراكات أكبر إلى خدمة "ديزني بلاس". وأعلنت كل من "يونيفرسال"، و"وارنر براذرز"، و"ديزني" عن إلغاء طرح العديد من الأفلام الضخمة في دور السينما، والاستعاضة عن ذلك بعرضها عبر الإنترنت. كذلك، صمّمت أقسام الأخبار والرياضة في كلّ مكان، برامج موجهة لجمهور خدمات البثّ.
تحولات قاسية
مع ذلك، لم يكن هذا التحول سلساً. فهناك شركات بدأت بتقديم خدمات البثّ أثناء الجائحة، وحثّت العملاء على الاشتراك استناداً إلى أفلام وبرامج لم تحظ بفرصة الترويج لها بالشكل المناسب عبر اللوحات الإعلانية أو عبر العروض الترويجية لـ"الأفلام القادمة" على شاشات السينما. شركة "ان بي سي يونيفرسال" التي كانت تنتظر الألعاب الأولمبية الصيفية كفرصة للترويج لخدمة البثّ التابعة لها "بيكوك"، اضطرت إلى الاستعاضة عنها بالاعتماد على كرة القدم الإنجليزية وإعادة بث حلقات من مسلسل "ذا أوفيس". كذلك، واجه إطلاق "وارنر ميديا" لـ"إتش بي أو ماكس" عراقيل تمثلت في غيابها في البداية عن جهازيْ خدمات البثّ واسعيْ الشعبية "روكو تي في" و"فاير تي في"، بالإضافة إلى الارتباك الذي أثارته لدى الجمهور الذي لم يفهم كيف تختلف عن "إتش بي ناو" و"إتش بي غو". وبالطبع، هذا فضلاً عن أن منصة "كويبي" قد أغلقت نهائياً.
اليوم، وبعد أكثر من عام على تفشي الوباء، يبدو مستقبل قطاع الترفيه أكثر وضوحاً. فثقافة "البوب" انتقلت إلى الإنترنت، ووصلت إلى الجميع. يقول توم بيرنارد، الرئيس الشريك لشركة "سوني بيكتشرز كلاسيك": "أمي البالغة من العمر 91 عاماً ترسل إليّ رسائل نصية الآن. الكثير من كبار السنّ، أي الأشخاص غير المراهقين والذين هم في بداية العشرينات من العمر، أصبحت الإنترنت الآن وسيلتهم للتواصل".
تطورات قطاع الترفيه
على الرغم من أن أحداً لا يمكن أن يتنبأ كيف ستتطور الأمور حين تعود دور السينما والمنتزهات والفعاليات الحيّة إلى عملها بشكل طبيعي، إلا أن قطاع الترفيه طوّر بعض الطرق الأساسية التي من شأنها أن تغير حياتك كمشاهد.
ستشاهد الآن أفلاماً جديدة بجودة أفلام السينما من دون أن تدخل إلى صالات العرض
شكّل إصدار فيلم " غودزيلا ضد كونغ" في مارس الماضي، مؤشراً على عودة الأفلام الهوليوودية الضخمة. جمع فيلم تلاقي الوحوش هذا أكثر من 425 مليون دولار على شبابيك التذاكر العالمية، ليصبح أكبر فيلم ناطق بالإنكليزية منذ بداية الوباء. لكن، وفيما كانت دور السينما تكتظ بالروّاد إلى أقصى حدّ مسموح به لمشاهدة العرض، أصبح "غودزيلا ضد كونغ" كذلك الفيلم الأوسع شعبية على “إتش بي أو ماكس”، بعد أن أصدرت "وارنر ميديا" الفيلم في دور السينما وعبر الإنترنت في الوقت ذاته، مواصلة تخلّيها المستحدث عن التقاليد السابقة التي تعتمدها منذ عقود.
منذ أيام الأفلام مثل "جاوز" و"ستار وورز"، تتبنى الاستوديوهات الأسلوب عينه في إصدار الأفلام، فتعرضها لأشهر عدة في دور السينما، قبل أن تنتقل بعدها لتوفيرها عبر خدمات الترفيه المنزلي، سواء من خلال أشرطة "بيتاماكس" أو "في إتش إس" أو الأقراص المدمجة. إلا أن "يونيفرسال بيكتشرز" كانت السبّاقة في تبنّي التغيير خلال الجائحة، حيث عرضت فيلم "ترولز وورلد تور" (Trolls World Tour) عن طريق التأجير عبر الإنترنت مقابل 19.99 دولار في أبريل من العام الماضي، وتبعتها في ذلك شركة " وارنر براذرز" حيث أطلقت فيلم "سكووب!" عبر قناة “إتش بي أو ماكس” في مايو. أما شركة "ديزني" التي جمعت 11.1 مليار دولار من شبابيك التذاكر في عام 2019، فقد أصدرت نسخة الفيلم من "هاميلتون" مباشرة على "ديزني بلاس".
لم يعلن أي من الاستوديوهات عن تفاصيل محددة بشأن العوائد المالية من وراء هذه التجربة، لكن من الواضح أنها كان جيدة بما يكفي لكي يستمر العمل بها. "يونيفارسل" أصدرت فيلم "ملك جزيرة ستاتن" عبر خدمة البثّ في الصيف الماضي من دون المرور عبر دور السينما، بينما "وارنر براذرز" وديزني" أصدرتا فيلميّ "ووندر وومن 1984" و"سول" على التوالي، عبر الإنترنت وصالات السينما في الوقت ذاته في فترة عيد الميلاد. انتقلت بعدها "وارنر براذرز" إلى إصدار كامل إنتاجاتها لعام 2021، بما في ذلك "ديون" و"سبايس جام: إرث جديد" و"غودزيلا ضد كونغ" عبر “إتش بي أو ماكس” تزامنا مع عرضه في دور السينما.
هذه ليست المرّة الأولى التي يتم فيها إصدار الأفلام الأصلية عبر الإنترنت. "نتفلكس" مثلاً والكثير غيرها تقوم بذلك منذ سنوات، إلا إنها المرة الأولى التي تُقدم فيها استوديوهات الأفلام الكبرى على مثل هذه الخطوة. ففي الماضي، كانت سلاسل دور السينما لتتصدى لمثل هذا الإجراء. لكن مع بدء جائحة كورونا، فقدت هذه القدرة. وحول هذا يقول "أليكس كورتزمان"، الكاتب والمنتج المخضرم الذي تشمل أعماله أفلاماً مثل "ترانسفورمرز" و"ستار تريك إلى الظلام"، إن "قطاع الأفلام الذي ترعرعت فيه قد انتهى فعلياً، ولست متأكداً ما إذا كان ذلك أمراً سيئاً".
مستقبل دور السينما
لكن هذا لا يعني زوال السينما. فعلى الرغم من تراجع إيرادات شبابيك التذاكر الأميركية بسبب الوباء، إلا أن فيلم "تينيت" (Tenet) تمكن من تحقيق 360 مليون دولار على شبابيك التذاكر العالمية من خلال عرضه في صالات السينما حصراً. ومع ذلك، لا مجال للعودة إلى الخلف. فتدفق المشتركين ساعد على منح زخم إضافي لشركات البثّ، إلى حدّ أن كلّ الاستوديوهات الكبرى باتت تنتج أفلاماً أصلية لصالح خدمات البثّ، وتقصّر مدة العرض الحصري في دور السينما. وكانت "وارنر براذرز" قد أعلنت في مارس الماضي أنه ابتداءً من عام 2022، ستعرض الأفلام على “إتش بي أو ماكس” بعد 45 يوماً من انتهاء عرضها في دور السينما، فيما كان يتعين انتظار 90 يوماً في السابق. ومن جانبها، عقدت "يونيفرسال" اتفاقات مع دور السينما لتقليص هذا الوقت الفاصل إلى 17 يوماً، فيما أعلنت "باراماونت بيكتشرز" أنها ستقلص الوقت الفاصل إلى 30 يوماً. وقال أندي فورسيل، المدير العام لـ”إتش بي أو ماكس” إن "تجربتنا في ظلّ الوباء في ما خصّ هذه الأفلام كانت جيدة جداً. وبغض النظر عمّا سيحصل، سنستمر بفعل المزيد".
عالم الإعلام لا تختصره أمريكا
أصبحت الصين أكبر سوق للأفلام في العالم للمرة الأولى العام الماضي، حيث سجلت إنفاق 3 مليارات دولار على تذاكر السينما، أي بواقع مليار دولار أكثر من الولايات المتحدة وكندا. ورغم أنه من السهل التغاضي عن هذا التغيير واعتباره أحد نتائج تفشي الوباء، على اعتبار أن دور السينما في الصين فتحت أبوابها قبل تلك التي في دول الغرب، كما تم تأجيل إصدار معظم الأفلام الضخمة من إنتاج الاستوديوهات الأميركية، إلا أن الخبراء كانوا يتوقعون أن يحصل ذلك عاجلاً أو آجلاً، وقد أسهمت الجائحة في تسريعه بنحو خمس إلى عشر سنوات.
هناك أسباب عدة للاعتقاد بأنّ الولايات المتحدة لن تعود إلى المركز الأول، من بينها أن الصين أنشأت أكثر من 20 ألف شاشة في السنوات الثلاث الماضية وحدها، ما يرفع إجمالي عدد شاشات السينما إلى 75 ألفاً، أي حوالي ضعفيّ عدد الشاشات في الولايات المتحدة وكندا. مع العلم أن عدد الشاشات في الولايات المتحدة وكندا في تراجع.
تعطينا عولمة صناعة السينما فكرة بشأن التوقعات المستقبلية لصناعة التلفزيون أيضاً. حصة الأسواق العالمية من إجمالي الاشتراكات الجديدة في "نتفلكس" عام 2020، بلغت ما يوازي 83%، وهي تشكل اليوم أكثر من 60% من قاعدة مستخدميها. وفي غضون سنة أو سنتين، سيتجاوز عدد العملاء من أفريقيا، وأوروبا، والشرق الأوسط عدد العملاء في الولايات المتحدة وكندا. كذلك، ستوسع كلّ من "ديزني بلاس" و"إتش بي أو ماكس" و"أمازون" عمليات البثّ على الصعيد العالمي. فالهند تشكل حالياً ثلث المشتركين في خدمة "ديزني بلاس"، ويعود ذلك في جزء منه إلى تغطية رياضة الكريكيت بشكل فريد هناك، والتي ترقى إلى مستوى الهوس الوطني. وتأمل "ديزني" في أن تعّمم الصيغة التي تعتمدها في الهند، والتي تقوم على مزيج من الرياضة والمسلسلات الأصلية بأسعار منخفضة، من أجل التوسع أكثر في جنوب آسيا.
وفيما تبحث الشركات الأميركية عن فرص للنموّ في الخارج، فهي تجلب أيضاً الأعمال التي تنتجها في الخارج إلى الولايات المتحدة. "نتفلكس" مثلاً تستثمر المليارات من الدولارات في عمليات البرمجة بأكثر من عشر لغات، ويسجل استهلاك المسلسلات والأفلام أرقاماً عالية حول العالم. على سبيل المثال، المسلسل الفرنسي "لوبين" والإسباني " لا كاسا دي بابيل" هما من بين المسلسلات العشرة الأكثر شعبية على "نتفلكس" عالمياً. وأصبح "لوبين" أول مسلسل فرنسي يدخل ضمن الترتيب اليومي للمسلسلات العشرة الأولى في الولايات المتحدة.
يقول فرانكلين ليونارد، منتج ومؤسس "القائمة السوداء"، وهي استطلاع سنوي يصنّف النصوص السينمائية غير المنتجة في هوليوود: "إذا حصلت على أمر ما، وتبين أنه ممتاز، فلا يهم من أين يأتي". يضيف: "ثمة استعداد للقيام بمخاطرات أكثر على أمور تبدو محددة ثقافياً بما أنه يمكنك جمع كلّ الجمهور الذي يعتنقها من خلال خدمات البث".
هل تحب المسلسلات الكوميدية؟ الاستوديوهات ستنتج لك المزيد منها
تعتبر مسلسلات الـ"سيتكوم"، أو "كوميديا الموقف" التقليدية، السلعة الأكثر قيمة في قطاع الترفيه في الولايات المتحدة اليوم. ففي زمن الحجر المنزلي، استهلك الناس المأكولات الباعثة على الراحة، وأدمن المشاهدون على مسلسل "تيد لاسو" (Ted Lasso) الذي يعرض عبر خدمة "أبل بلاس" من بطولة جيسون سوديكيس بدور مدرب كرة قدم أميركية تم تعيينه لقيادة فريق كرة قدم إنجليزي يواجه المصاعب، وتابعوا الموسم الأخير من المسلسل الكوميدي الكندي "شيتس كريك" (Schitt’s Creek) عن عائلة غنية تفقد ثروتها. وبحسب تقرير أصدرته "نيلسن" في مارس تناول تزايد الاهتمام بالكوميديا، فإنه "في خلال الأشهر الـ12 الماضية، بحث الأميركيون عن عزاء لهم بعيداً عن الواقع السائد في العالم".
مع ذلك، فإن الكثير من المشاهدين لم تعد تجذبهم مسلسلات جديدة جيدة. كانت المسرحيات الهزلية في الماضي أكثر أنواع البرامج شعبية تقودها شبكة "إن بي سي" عبر مجموعة برامجها التي "لا تفوّت" لسهرة يوم الخميس. وعلى الرغم من أن الشبكات التلفزيونية مازالت نتنج عدداً لا بأس به من المسرحيات الهزلية سنوياً، إلا أن خدمات البث وشبكات الكابل تركز أكثر على الدراما ذات الوقع القوي، مثل القصص السوداوية والمحبطة عن القتل والعنف التي تقدم شخصيات رئيسية مثيرة للجدل لا تتمتع بصفات الأبطال التقليديين. حتى أن بعض البرامج التي يفترض أنها كوميدية مثل "باري" و"أتلنتا" و"فليباغ" لا تجعل المشاهدين بالضرورة ينفجرون من الضحك، فهي قد تتسم بالغرابة، وتسبب التوتر، كما إنها تسعى إلى إيصال رسالة معينة.
بسبب النقص في عدد المسلسلات الكوميدية الجديدة، بحث المشاهدون عميقاً في مكتبات خدمات البثّ. كثير من مستخدمي "إتش بي أو ماكس" كانوا يبدؤون بمشاهدة مسلسل "فريندز" الساعة الثامنة مساءً ويستمرون في مشاهدته حتى يخلدوا إلى النوم، تاركين الحلقات تعرض حتى الصباح. كذلك، ارتفعت أعداد مشاهدات مسلسلات كوميدية قديمة مثل "بيرني ماك شو"، و"روزان"، و"جورج لوبيز". وفي عام 2020، أمضى الأميركيون أكثر من 11 مليار دقيقة في مشاهدة المسلسل الكوميدي من التسعينيات "فاميلي ماترز" (Family Matters) الذي يحكي قصة عائلة من السود من الطبقة الوسطى في شيكاغو والجار غريب الأطوار ستيف أوركيل.
مسلسلات قديمة
الشركات الإعلامية هي أكثر من تعرف كيف تسير بالأمور التي تراها ناجحة. فشركة "أبل" طلبت موسمين جديدين من "تيد لاسو". في غضون ذلك، يجري الإعداد لنسخ جديدة من مسلسلات قديمة مثل "سيفد باي ذا بيل" (Saved by the Bell)، و"بنكي بروستر" (Punky Brewster) و"غوسيب غيرل" (Gossip Girl) وغيرها، والبعض منها بدأ إصداره بالفعل. وحتى في ظلّ التوقعات بانحسار الوباء قريباً، فإن "نتفلكس"، و"أمازون"، و"هولو" تبحث جميعها عن المزيد من البرامج الكوميدية الضخمة والواسعة وغيرها من البرامج التي تساعد على الهروب من الواقع. فحين يعود الناس إلى العالم الخارجي، سيبحثون عن أي شيء غير العودة إلى السوداوية. تقول ماري فييولا، منتجة الفيلم الرومنسي الكوميدي عن المراهقين "فتاة طويلة" (Tall Girl) إن "الناس يتجهون نحو المحتوى الأخف. وسبب نجاحنا في نتفلكس يكمن في قدرتنا على تقديم عروض أخف وأكثر جاذبية يبدو أن الجمهور يستجيب لها".
حتى المشجعين الرياضيين ليسوا بحاجة إلى الكابل بعد اليوم
واجه كل من حاول التخلص من الكابل خلال العقد الماضي مشكلة الفعاليات الرياضية المباشرة. فمنصة "نتفلكس" تقدم برامج المسرحيات الهزلية، والدراما، وتلفزيون الواقع نفسها التي تجدها على الكابل، ولكنها لا تملك حقوق معظم المباريات الرياضية في الولايات المتحدة. وكانت دوريات المحترفين وشركاؤهم الإعلاميين قد بذلوا الجهد للحفاظ على هذا الواقع. تدفع التكتلات الإعلامية مبالغ طائلة من أجل الحصول على حقوق عرض المباريات، ما يولد لها مليارات الدولارات من الرسوم التي يدفعها المستهلكون لشبكات التلفزيون التابعة لها، وعلى الدوريات الرياضية أن تحترم هذه الحقوق. وعلى الرغم من أن معظم الدوريات الرياضية الكبرى لديها خدمات بثّ خاصة بها موجهة إلى المشجعين شديدي الولاء، إلا أن هذه الخدمة عادة ما تكون عالية التكلفة وعرضة لمنع البثّ على الصعيد المحلي. كذلك، تتردد الدوريات في التركيز على خدمات البثّ حين يتعلق الأمر بالمباريات الكبرى التي يتوقع أن تجذب عدداً ضخماً من المشاهدين، خشية أن ينهار البثّ. وقال فورسيل، المدير العام لـ"إتش بي أو ماكس" إن "قطاع الكابل كان أشبه بآلة جنونية تم بناؤها وتحصّل مبلغاً محدداً من الدولارات من كلّ منزل، وكان الجميع موافقاً عليها لمدة عشرين سنة".
حتى الماضي القريب، لم يكن هناك من أسباب تذكر تستدعي تغيير هذا النموذج. وعلى الرغم من تراجع نسبة مشاهدة معظم برامج الكابل سنوياً، إلا أن المباريات الرياضية المباشرة ظلّت تجذب الكثيرين. ولكن حتى نسبة مشاهدة المباريات الرياضية تدهورت في ظلّ الوباء، حيث سجلت نهائيات كأس العالم لدوري البيسبول أقل نسبة مشاهدة في تاريخها، فيما تراجعت نسبة مشاهدة مباريات الرابطة الوطنية لكرة السلة بنسبة 51% مقارنه بالعام الذي سبق. أما مباراة الـ"سوبر بول" فكانت الأقل مشاهدة منذ عام 2007. في البداية، عزت الشبكات التلفزيونية ذلك إلى عاملين مزدوجين، هما وباء كورونا الذي تسبب بتغيير جداول البرمجة وأجبرها على التخلي عن الصيغ التقليدية التي تعتمدها، والثاني، الانتخابات الأمريكية.
حقوق البث الرياضية
تلقفت الشبكات التلفزيونية ذلك، وأقدمت على أمر لم يسبق لها أن فعلته من قبل. فقد اشترت الكثير من حقوق بثّ المباريات الرياضية عبر الإنترنت وعرضتها عبر منصاتها الخاصة. في يناير الماضي، أعلنت "كومكاست" أنها سوف تغلق قناة "أن بي سي سبورت" وتنقل معظم بطولات الغولف وسباقات ناسكار التي كانت تعرضها القناة إلى خدمة "بيكوك". ثمّ اشترت الحقوق الحصرية لشبكة مؤسسة المصارعة العالمية الترفيهية "دابليو دابليو إي"، وعرضت مباريات المصارعة عبر "بيكوك" أيضاً. كما اشترت "ديزني" حقوقاً جديدة في دوري الهوكي الوطني، يشمل 75 مباراة هوكي لتعرضها عبر "إي أس بي أن +" و"هولو". وفي صفقة هي الأضخم من نوعها، أبرمت "كومكاست" و"ديزني" و"فوكس سبور" و"فياكوم سي بي اس" اتفاقات من أجل بثّ مباريات الدوري الوطني لكرة القدم عبر خدماتها ابتداءً من العام المقبل، إلى جانب عرضها عبر الكابل. فبعد سنوات من استخدام المباريات الرياضية من أجل جذب المشاهدين للدفع مقابل حزم الكابل، أدركت الشركات الإعلامية أن بإمكانها فعل الأمر نفسه في خدمات البثّ.
إذاً، بحلول الخريف المقبل، ستتمكنون من مشاهدة مباريات كرة القدم الأمريكية، والبيسبول، وكرة المضرب، وكرة القدم، والهوكي عبر الإنترنت من دون اشتراك كابل، فيما يتم حالياً العمل للتوصل إلى اتفاقية في ما يخصّ كرة السلة من المتوقع أن تُنجز في غضون عام أو عامين. ومن خلال وضع يدها على عالم الرياضة، ستصبح خدمات البثّ المركز الجديد لعالم الترفيه بكا معنى الكلمة. يقول ريتش غرينفيلد، المحلل في "لايت شيد بارتنرز" (LightShed Partners) الذي كان قد أطلق وسم #GoodLuckBundle أو ما يعني حزمة الحظ السعيد، من أجل الإضاءة على زوال الكابل: "الآن مع انتقال الرياضة من حزمة (الكابل) إلى خدمات البثّ، فإن ذلك سيحمل كارثة لإرث الحزمات متعددة القنوات".
الأمر سيكون مكلفاً
ننتقل الآن إلى الجانب السلبي لكلّ ما يجري. ففيما تستثمر الشركات الإعلامية في خدمات البثّ الخاصة بها، فإنها تحتفظ بأفضل برامجها من أجل جذبك لتشترك معها. هل تريد أن توفر لأولادك مشاهدة غير محدودة لـ"توي ستوري"؟ عليك أن تدفع 8 دولارات شهرياً لخدمة "ديزني بلاس". ماذا عن "دابليو دابليو إي"؟ ادفع خمسة دولات إضافية لـ"بيكوك". هل تحب مشاهدة إعادة حلقات "فريندز"؟ ادفع 15 دولاراً لـ"إتش بي أو ماكس". فإذا توقفت عن دفع اشتراك الكابل واشتركت بكلّ خدمات البثّ الكبرى، فعلى الأرجح ستدفع المبلغ ذاته.
على صعيد آخر، أدت جائحة كورونا إلى زيادة تكلفة صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية، بما أنه بات على الجهة المنتجة أن توظف طاقماً متخصصاً بالصحة والسلامة واعتماد ساعات تصوير أقل في اليوم، ما يعني تمديد فترة التصوير. وبحسب معظم المنتجين، فقد ارتفع معدل تكلفة الإنتاج بنسبة 20% على الأقل، وقد لا يعود أبداً إلى سابق عهده. وكانت الشركات الإعلامية قد حاولت التعويض عن بعض التكلفة من خلال تسريح الآلاف من الموظفين العام الماضي. ومن المتوقع أن تلي ذلك زادة في الأسعار. فـ"نتفلكس" و"ديزني" بدأتا بالفعل في زيادة أسعارهما، وما هي إلا مسألة وقت حتى يحذو المنافسون حذوهما. قد يلتف بعض المشاهدين على ذلك من خلال الاشتراك في خدمة ما حين تعرض برنامجاً يريدون مشاهدته، ثمّ يلغون الاشتراك حين ينتهي البرنامج. لكن ذلك سوف يكون مربكاً.
ينسجم هذا الإرباك مع القناعة المتنامية لدى بعض المحللين والمديرين التنفيذيين بأنه مع ازدياد عدد خدمات البثّ، أصبح الجوّ العام معقداً جداً وقد ينفّر المشاهدين. إذ يتعين عليهم التعامل مع الكثير من الفواتير المختلفة وعناوين البريد الإلكترونية المختلفة لطلب الدعم التقني. فلا يوجد دليل شامل يجمع البرامج التي تعرضها كلّ خدمة، والتنقل من تطبيق إلى آخر قد يكون مربكاً ومزعجاً. ما يحتاج إليه بالفعل هذا القطاع هو أن يجمع طرف ما، كلّ هذه الخدمات المختلفة ويقدمها ضمن حزمة واحدة، من أجل إنشاء شيء مشباه لـ"حزمة الكابل".