بلومبرغ
بعد أربعة أشهر من إقدام "بابلو رودريجيز" على إنفاق نحو 67 ألف دولار على عمل فني رقمي يصور جو بايدن ودونالد ترمب عاريين، قام بإجراء بعض التعديلات على العمل الفني ثم باعه بسعر مختلف تمامًا.
كان أحد الفنانين قد صمم هذا العمل تعليقًا على الانتخابات الرئاسية، لكنه تحول، دون أن يلاحظ أحد، إلى عمل فني آخر مغطى بما يشبه لوحة جدارية يظهر فيها دونالد ترمب يرقد عاريًا في حديقة تغطي القمامة أرضها. ونتيجة لهذا التعديل تغير السعر أيضًا، وباعها رودريجز مقابل 6,6 مليون دولار.
ويعلق رودريجز (الذي يبلغ من العمر 32 سنة وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال ويعتبر نفسه مستثمرًا في الأصول الرقمية) قائلًا إنه كان يتوقع أن يحتاج الأمر وقتًا أكثر مما احتاجه بالفعل ليقفز السعر على هذا النحو. ورغم هذه القفزة، فهو يعتبر أن هذا السعر صفقة رابحة للمشتري.
ما نتحدث عنه هنا عبارة عن مقطع فيديو قصير أنتجه الفنان الأمريكي "مايك وينكلمان"، الشهير باسم بيبل، وهو متخصص في التصميمات الرقمية التي يستخدمها في التعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية. وما باعه رودريجز في حقيقة الأمر ليس مجرد ملف عن مقطع فيديو على غرار تلك التي يجري تداولها كل يوم. بل يرتبط بما بات يعرف الآن بـ "القطع الافتراضية المشفرة بأسلوب الرموز غير القابلة للاستبدال" أو "إن إف تي".
الشبه والاختلاف مع العملات المشفرة
وعلى غرار العملات المشفرة مثل بتكوين، تُدار هذه القطع الافتراضية المشفرة باستخدام تقنية "سلسلة الكتل" أو "بلوكتشين". ولكنها على عكس بتكوين يمكن أن تكون كل وحدة منها بمثابة ملكية رقمية متفردة. إذ يمكن على سبيل المثال أن تمثل كل قطعة افتراضية عملًا فنيًا محددًا. كما أنه يمكن إعادة تصميمها لتناسب احتياجات شخص آخر قد يكون هو المالك الجديد للعمل الفني. وبالنسبة للأعمال التي صممها "وينكلمان" فمن حقه الحصول على 10% من قيمة بيعها في حالة تنقلها بين أيدي هواة اقتناء أعماله الفنية.
والأهم من ذلك أن الوحدات المرتبطة بأعماله الفنية تحمل توقيعه ودليل البيع في الأكواد أو الرموز الخاصة بها، وهذا يجعل من المستحيل تزييف أعماله الفنية أو إعادة استنساخها، على الأقل طالما ظلت القطع الافتراضية المشفرة جزءًا متكاملًا من العمل الفني.
إن قدرة تلك القطع الافتراضية المشفرة على إضفاء عنصر التفرد أدت كذلك إلى ازدهار مجال اقتناء الأعمال الفنية الرقمية. فقبل ذلك كان بمقدور أي شخص استنساخ الصورة الرقمية لعدد غير محدود من المرات مما يجعل من المستحيل خلق أعمال تتميز بالندرة والقيمة المرتفعة. وبعبارة أخرى لم تكن هناك وسيلة لتكوين سوق للأعمال الفنية الرقمية. وجاءت القطع الافتراضية المشفرة غير القابلة للاستبدال لتقدم الحل. من الممكن إنتاج نسخ لا نهائية من العمل الفني الرقمي لكن بات هناك أصل حقيقي واحد بفضل هذه التقنية. كما أنها تساعد مبتكر العمل الفني الرقمي على تحديد عدد النسخ التي يرغب في طرحها للتداول من العمل. وهكذا أصبح من الممكن تسويق هذه الأعمال الرقمية بعوائد مجزية لمبدعيها.
مقارنة مرفوضة
هناك اتجاه لمقارنة ازدهار القطع الافتراضية المشفرة بارتفاع أسعار أسهم "غيم ستوب"، وهو متجر أمريكي لألعاب الفيديو والإلكترونيات الاستهلاكية وبائع تجزئة للألعاب، وهو مثال آخر حديث من الأمثلة الناجحة لخلق القيمة لا يعرف أحد من أين جاءت على وجه اليقين. وهي قصة مثيرة لأنه يبدو أن نفس الأفراد، وهم الشباب المولع بالتقنيات الحديثة، كانوا وراء تلك الظاهرة. لكن هناك فرقًا كبيرًا.
ذلك أن من تعرضوا بالنقد لمشتري أسهم "غيم ستوب" يُشيرون إلى أن الأسهم أصبحت منفصلة عن أساسيات الشركة المصدرة لها. فالمفروض أن سعر السهم يعكس عدة عوامل مثل أرباح الشركة وقيمة أصولها. وهذا هو الأساس الذي تعمل عليه سوق الأعمال الفنية في الوقت الحالي وليس الأساس الذي كانت تعمل عليه من قبل. فالأعمال الفنية لا يتم تقييمها على أساس مجرد سعر المواد المستخدمة فيها. ولو انطبقت قاعدة سعر المواد لما وجدنا تمثال الأرنب "لجيف كون" يباع بمبلغ 91 مليون دولار في دار "كريستيز" للمزادات، حيث كان سيتم تقييمه بناءً على قيمة الصلب المستخدم في إنجاز هذا التمثال الذي يبلغ ارتفاعه 41 بوصة. كما أن أسعار الأعمال الفنية قد ترتفع وتنخفض ليس بسبب الأساسيات المذكورة آنفًا، بل يتحدد سعرها من خلال الإجماع على قيمتها ولا شيء غير ذلك.
استنساخ الصور
أحد الأمثلة الجيدة على ذلك – والذي يعد سابقة بالنسبة للقطع الافتراضية المشفرة- هو تطور سوق الصور. فعلى غرار الفنون الرقمية تمكن إعادة استنساخ الصور لعدد غير محدود من المرات بالاعتماد على الأصل أو (النيجاتيف). ورغم سهولة الاستنساخ فإنه لا يتم تسعير كل المستنسخات وفقا لذلك. يقول "جيفري باتشن"، أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد في كتابه "تاريخ التصوير": "لكن السوق لا يقدم عددًا من الحيل للحفاظ على القيمة". يستدعي باتشن في كتابه صورة ميلاد القمر التي التقطها المصور الأمريكي "انسل آدامز" في العام 1941 في ولاية نيومكسيكو الأمريكية واستنسخ أكثر من 1300 نسخة من "النيجاتيف". وحافظ على قيمتها في صالات المزادات بالتركيز على الصور التي تحمل توقيعه. هذا رغم أنه كان يهتم بضبط الحجم ودرجة الوضوح والحدة على نحو واحد في جميع النسخ.
رغم أن غير المهتمين باقتناء الأعمال الفنية قد لا يلاحظون هذا الفرق، نجد كثيرًا من هواة اقتناء الأعمال الفنية المرتبطة بالقطع الافتراضية المشفرة غير القابلة للاستبدال لا يجدون بأسًا في إنفاق أموال طائلة عليها، على الأقل لفرض وصياغة إطار مشابه لسوق الفنون الرقمية.
وعن ذلك يقول "تيم كانج"، (27 سنة) أحد هواة اقتناء الأعمال الفنية الرقمية، إنه قبل استحداث هذه القطع المشفرة لم يكن الفنانون الرقميون ينالون ما يستحقون. وأضاف أنه هو نفسه أنفق حوالي مليون دولار على نحو 200 عمل فني رقمي، مشيرًا إلى أن الفن الرقمي واحد من الفنون الجيدة التي تحتاج قدرًا كبيرًا من المهارة، لكن أصحابه لم يحصلوا على الاعتراف اللائق بهم.
استمرارية الفنون الرقمية
كان كانج قد برز في دائرة الضوء في يناير الماضي، عندما أنفق مبلغًا قياسيًا بلغ 777 ألف دولارًا في شراء مجموعة أعمال فنية رقمية لوينكلمان. وأضاف أنه كان من الصعب عليه التعامل مع هذه الصفقة في وقتها مما جعله يندفع في إنفاق هذا المبلغ الكبير عليها. وأراد بعد ذلك أن يثبت سلامة هذه الصفقة وكونه استثمر في المستقبل.
قد يدعي بعض المتشائمين بشأن نجاح الرموز المشفرة أنه وليد نجاح العملات الرقمية أو الافتراضية مما يعني أن هناك أشخاصًا كثيرين تكدست لديهم ثروات من الرموز الرقمية يبحثون عما يشترونه بها. وهذا الرأي خاطئ، حيث يُفترض مثلًا أن ارتفاع أسعار الأسهم في أسواق المال يمكن أن يرفع أسعار لوحات بيكاسو.
ويقول "باتشين" إن ظهور الرموز المشفرة يمثل مستقبل سوق الفن وماضيها أيضًا. وهذا ما يؤكد وجود عنصر الاستمرارية عبر تاريخ الفن. ويضيف: "عندما نأتي إلى وسيط فني قادر على إنتاج نسخ متطابقة مثل المطبوعات والصور الضوئية والصور الرقمية، لا تكمن المسألة الحقيقية في جودة الأشياء الرقمية أو قيمتها، بل تكمن فيما إذا كانت قادرة على تجاوز التقادم الذي يطرأ على الوسيط الذي ينقلها.
ولا يشعر "رودريغز" الذي أنفق ملايين الدولارات على الأعمال الفنية الرقمية بالقلق في هذا الشأن، منوّهًا إلى أنه لا يعلم إذا ما كانت هذه الوسائط وتلك الأعمال سوف تظل موجودة بعد 500 عام، لكنه متأكد من أن شيئًا ما سوف يحدث وأن بعض الأعمال الفنية الرقمية سوف تتعرض للفقدان، لكن نسبة الفاقد سوف تكون أقل كثيرًا مما يمكن أن يحدث مع الأعمال الفنية التقليدية.