يعتزم الرئيس المنتخب دونالد ترمب تقليل اعتماد بلاده على الصين وجعل الولايات المتحدة قوة تصنيع عالمية عظمى. لكن رايان نيل، الذي يملك شركة في أوهايو، ممن يستصعبون تحويل هذا الهدف إلى واقع.
يدير نيل شركته ”نيلز سادليري أند هارنيس“ (Neel’s Saddlery & Harness)، التي تستورد ماكينات خياطة صناعية الحجم من الصين تبيعها لزبائن ينتجون أدوات متينة مثل أحزمة المظلات وحافظات البنادق. إن تحويل إنتاج آلة تباع حالياً بسعر 3000 دولار إلى الولايات المتحدة يستوجب زيادة سعرها بأكثر من ثلاثة أضعاف إلى 10000 دولار. قال نيل: "لقد قمنا بدراسة الأرقام حتى بلغنا حد الغثيان. لن يشتريها أحد بهذا السعر".
تغييرات استراتيجية
تشابه ورطة نيل هذه ما تعانيه شركات تصنيع أميركية أخرى تقول إن إعادة توطين المصانع التي نُقلت إلى الصين ومناطق أخرى في آسيا منذ بضعة عقود ستواجه عقبات كثيرة. كما تقول هذه الشركات إن نقصاً في أصحاب المهارات وارتفاع تكاليف العمالة وفواتير الضرائب واللوائح البيئية الصارمة ستتطلب استراتيجيات جذرية للتغيير إن كانت الولايات المتحدة ترغب بالتنافس.
تقول شركة تصنع معدات سلامة لسائقي سباق السيارات إن مقتضى قواعد التلوث سيمنعها من طلاء الخوذات في الولايات المتحدة. فيما ترى شركة تصنع الدراجات أن إعادة تصنيع الإطارات والمحاور والكوابح إلى الولايات المتحدة سيكون مهمةً ضخمةً جداً. وتنقل شركة منتجات استهلاكية بعض إنتاجها إلى مناطق أقرب إلى الوطن، لكن لا جدوى من نقلها جميعاً.
هدد ترمب بفرض رسوم قدرها 60% على الواردات الصينية و 10% على المنتجات الآتية من الدول الأخرى. إلى جانب ذلك، يَعد بإلغاء القيود التنظيمية وخفض الضرائب على الشركات، كجزء من خطة لطالما روج لها لإحداث نهضة في التصنيع. في 24 سبتمبر، قال ترمب في سافانا بولاية جورجيا: "تحت قيادتي، سنسلب الوظائف من دول أخرى. سنأخذ مصانعهم".
يقول مديرون تنفيذيون إنه لا يوجد حل يلائم الجميع، إذ أن بعض سلاسل التوريد أسهل من حيث إعادة توطينها من بعضها الآخر. حتى في الحالات التي يمكن فيها إعادة الإنتاج إلي البلاد، فإن اعتماد شركات التصنيع المتزايد على الأتمتة والروبوتات يعترض تحقيق ترمب لهدف إنعاش التوظيف في المصانع.
عقبات المعايير البيئية
ديفيد زامبيرين واحد ممن يفكرون في طرق لإعادة الإنتاج إلى البلاد، وهو يدير شركة زامب ريسينغ في ميريديان بولاية أيداهو، حيث تدير تصنيع خوذات وبدلات ومساند للرأس والرقبة وأحزمة أمان لاستخدامات سائقي سباقات السيارات وتسوق إنتاجها في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا.
تُصمم الشركة منتجاتها في الولايات المتحدة وتصنع شيئاً منها محلياً إلى جانب ما تنتجه في الصين وإيطاليا وتايوان وباكستان. تقضي القواعد البيئية المتعلقة بمعالجة الطلاء والأبخرة الناجمة عن ذلك من حيث النتيجة بأنها لا تستطيع طلاء خوذات السباق في الولايات المتحدة. قال زامبيرين: “تصبح المنافسة صعبةً بحق حين لا تُعتمد المعايير ذاتها حول العالم“.
كما تشابه حكاية إنتاج دراجات الأطفال ما سلف. جاكوب روبان يرأس شركة ”بريفيلو“ (Prevelo) لصناعة الدراجات التي تعمل من مقر في كاليفورنيا. لقد نقل الإنتاج من الصين إلى تايوان وكمبوديا وتايلندا خلال الجولة الأولية من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب الأولى. وهو، كما الآخرين، ينتظر تفاصيل تطورات سياسة التجارة فيما يراجع خياراته.
قال: "ليس لدي القدرة على إعادة توطين صناعة كل هذه المكونات، وأقصى ما يمكنني إعادة توطينه هو التجميع. إن هذه مهمة ضخمة جداً".
الجديد هو قديم إدارتين
إن وعود إحياء التصنيع ليست جديدة، فقد وضعت إدارتا جو بايدن الحالية وترمب السابقة تعزيز وظائف المصانع على رأس أولويات سياستيهما.
لقد خسر قطاع التصنيع 61000 وظيفة العام الماضي في ظل اقتصاد قوي. كان إعلان شركة ”سوميتومو رابر يو إس إيه“ (Sumitomo Rubber USA) في 7 نوفمبر أنها ستغلق مصنعها لتصنيع الإطارات في تونواندا بولاية نيويورك من الأمثلة على ذلك، فقد شطب ذلك 1550 وظيفةً.
بينما انكمش نشاط التصنيع في نوفمبر بأدنى من التوقعات مع ارتفاع الطلبيات، انكمش مؤشر معهد إدارة التوريد للمصانع لمدة ثمانية أشهر متتالية. وقد بلغت العمالة في قطاع التصنيع الأميركي ذروتها عند 19.6 مليون في يونيو 1979 لكنها في انحدار منذئذ مع تحول الاقتصاد نحو الخدمات والاستهلاك وفتح الصين لاقتصادها. وقد بلغ عدد عمالة التصنيع 12.9 مليون في نوفمبر.
يرى بيتروس مافروديس من كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، الذي أمضى عقوداً كمستشار لمنظمة التجارة العالمية وهو خبير في قانون التجارة، أن الحل يتطلب تجاوز الرسوم الجمركية والتركيز على إحداث سياسة صناعية أوسع.
قال: "تكاليف العمالة أعلى والقواعد التنظيمية وضوابط حماية البيئة أشد"، وأضاف أن جذب مزيد من الشركات المُصنعة إلى الولايات المتحدة "لا يكون عبر الرسوم الجمركية، بل عبر الدعم".
ينبغي هنا تبيان أن بعض أنشطة التصنيع تعود إلى البلاد كنتيجة لضخ البيت الأبيض مليارات الدولارات لدعم قطاعي التقنية والطاقة النظيفة. كما تجبر الاضطرابات المرتبطة بجائحة كوفيد-19 وخطوط الصدع الجيوسياسية الجديدة الشركات على البحث عن بدائل عن الصين لتصنيع منتجاتها.
قادت شركات التصنيع الاستثمار في التأسيس في 2023 وعززته زيادة الدعم الحكومي للمرافق الجديدة التي تصنع أشباه الموصلات والبطاريات والمركبات الكهربائية. على سبيل المثال، تخطط شركة ”إس كيه هانيكس“ (SK Hynix). لإنفاق 3.87 مليار دولار لبناء مصنع تغليف متقدم ومركز أبحاث لمنتجات الذكاء الاصطناعي في ولاية إنديانا.
إن استثمارات من هذا القبيل ومن شركات تقنية عملاقة أخرى مثل ”سامسونغ إليكترونيكس“ تجذب شركات أخرى في خط التوريد، مثل شركة ”نيوإيجا“ الكورية الجنوبية لتصنيع الأنابيب، التي ترغب بإنشاء مصانع في الولايات المتحدة لخدمة زبائنها. قال رئيسها التنفيذي سانغ هيون لي، تعليقاً على أن بعض أكبر زبائنه كثفوا استثماراتهم في الولايات المتحدة: "إن أميركا فرصة ضخمة، لذلك يتعين علينا أن نتبعهم لتزويد مصانعهم".
لكن حتى من وجدوا طريقةً لنقل بعض منشآت التصنيع يحذّرون من أن هناك حدوداً تقيد ما يمكن فعله.
يعمل رافي سواهني، الرئيس التنفيذي لشركة ”أر كيه إس ديزاين“ (RKS Design) في كاليفورنيا، على نقل بعض الأعمال من الصين إلى الولايات المتحدة ودول أخرى تحسباً لاضطرابات التجارة على شركته التي تصنع منتجات مثل سماعات الرأس اللاسلكية وأجهزة التنفس الصناعي المحمولة ومعدات الرياضة لعلامات تجارية شهيرة.
لقد نقل تصنيع شيشة إلكترونية تعمل بكبسولة تشبه ما يُستخدم في مكائن قهوة إسبريسو إلى فيتنام من الصين، ويخطط لتأسيس منشآت إنتاج في الولايات المتحدة لجهازين طبيين جديدين أحدهما لاختبارات البروستات في المنزل وآخر لحقن جرعات الأدوية السائلة.
قال سواهني: "نفعل كل ما يمكننا في سبيل إعادة التوطين إلى الولايات المتحدة… إنه تغيير كامل في الاستراتيجية". لكن العملية أبعد ما تكون عن البساطة.
يقدر سواهني أن تكاليف الإنتاج ستكون أعلى بثلاث مرات من البديل الآسيوي وأن أوقات التسليم أطول بمرتين. أضاف: "إن حرفة صناعة الأدوات فن مفقود. سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً لنتمكن من إعادة بناء هذا المستوى من المهارة“، وهو يلوم عدم جاذبية برامج التدريب المهني في الولايات المتحدة.
قال نيل: "ليس مجدياً مادياً أن نحمل كل شيء وننقله ببساطة"، ويشمل ذلك الشيشة، التي يصفها ساوهني بأنها "منتج معقد جداً".
تواجه ماكينات الخياطة التي يستوردها نيل نفس المشكلة، وقد قال: "ببساطة، لا توجد دولة أخرى يمكنك شراء هذه الماكينات منها، فليس أمامك إلا أن تشتريها من شركات تستوردها من الصين في نهاية المطاف… إننا عالقون نوعاً ما".