فوضوية سياسات ترمب الاقتصادية تؤرق رؤساء الشركات

عودة الحروب التجارية وأسلوب الحكم عبر التغريدات

time reading iconدقائق القراءة - 16
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يلوح بيده أثناء اجتماعه مع الجمهوريين في مجلس النواب. 13 نوفمبر 2024. - رويترز
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يلوح بيده أثناء اجتماعه مع الجمهوريين في مجلس النواب. 13 نوفمبر 2024. - رويترز
المصدر:

بلومبرغ

تحب الشركات الكبرى أن تستشرف ما يلوح في أفقها، لكن سماءها ملبدة إذ أن السياسة الاقتصادية الأولى التي يعتمدها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب هي الفوضى.

سواء كان عبر التهديد برسوم جمركية شديدةً أو أن يعمد إلى إجراءات انتقامية، يجد الرؤساء التنفيذيون أنفسهم، ومعهم خططهم المدروسة جيداً، تحت رحمة قائد زاد عزماً على إعادة تشكيل الاقتصاد.

وعد ترمب بتخفيف القيود الناظمة، وعادةً ما ترحب الشركات بذلك، إلا أن ولايته الرئاسية الأولى بيّنت ميله لهدم القواعد اعتباطياً. قبل تولي ترمب، لم يحصل أن وجّه أي رئيس أميركي معاصر تهديداً علنياً لشركات رفضت الامتثال لطلباته، لكن لم يكن يمر أسبوع تقريباً دون أن يكرر ترمب ذلك. وبرغم أنه نادراً ما نفّذ تهديداته، فإن التلويح بها كان مزعزعاً. 

تقرّب من الرئيس

لم يكن معظم عالم الشركات يرغب بأن يعيش أربع سنوات أخرى من هذه الفوضى. حتى أن الرؤساء التنفيذيين السابقين لشركات "دوبون" (DuPont) و"فورد" و"بيبسي" كانوا ممن وقع رسالة قبل الانتخابات أعربوا فيها عن رغبتهم بأن يخسر ترمب. وفيما أن كثيراً من قادة الشركات الحاليين شاركوهم هذا الشعور، إلا أنهم حرصوا على عدم الإفصاح عن ذلك علناً. 

وما أن فاز ترمب حتى انهالت عليه التهاني عبر منصة "إكس" التي يملكها إيلون ماسك، وقد أتى معظمها من مديري شركات التقنية، الذين غالباً ما وجّه لهم سهام انتقاداته. 

يسود بين قادة الشركات الذين تحدثوا إلى "بلومبرغ بزنيس ويك" شعور بأن ولاية ترمب الثانية ستقوم على تبادل المصالح، كما كانت ولايته الأولى. بالتالي، سيحاول المديرون التنفيذيون التقرّب من الرئيس سواء في البيت الأبيض أو ماريلاغو، وسيعملون على إصدار بيانات صحفية تحت شعار أن تكون "أميركا أولاً"، من قبيل إعلان إنشاء مصنع في بقعة من بقاع الولايات المتحدة (بغض النظر عما إذا كان المشروع جديداً أم أنه قائم أصلاً). 

من الأمثلة على ذلك، نجاح رئيس "أبل" التنفيذي تيم كوك بإقناع ترمب، خلال عشاء جمعهما في ملعب الغولف الخاص بالرئيس المنتخب في بدمينستر بولاية نيوجرسي، بمنح جزء كبير من واردات شركته من الصين إعفاءات جمركية. في المقابل، لم يكذّب كوك رواية ترمب التي نسب فيها لنفسه فضل افتتاح "أبل" لمصنع في أوستن، على الرغم من أن المصنع كان قائماً أصلاً، ويعمل في مجال جمع مكونات الحواسيب منذ عهد الرئيس باراك أوباما. كما عزا لنفسه فضل إقامة الشركة لمجمّع بقيمة مليار دولار، فيما أنها أعلنت عنه قبل ذلك اللقاء. 

حملة يعتريها جنون

لكن ما حصل مع شركة "بوينغ" أصبح حكاية تروى على سبيل التحذير، فقد أقنع ترمب الشركة بالموافقة على حسم على سعر أسطول طائرات الرئاسة "إير فورس وان"، حتى أنه تفاخر بذلك خلال مقابلته مع بلومبرغ في أكتوبر. لكن ما لم يذكره هو أن الشركة تكبدت خسارة بنحو 3 مليارات دولار على عقد قيمته نحو 4 مليارات، بسبب التكاليف الزائدة والتأخير في التنفيذ. 

وكان ترمب طرح خلال رئاسته الأولى إعادة طلاء الطائرات بالألوان الأحمر والأبيض والأزرق، رغم اعتراض القوات الجوية على الفكرة، لأن الألوان الداكنة تزيد احتمال ارتفاع حرارة المكونات، ما يستدعي تعديلات على أنظمة التبريد فتزيد التكاليف وأمد الإنتاج.

اليوم، تعلمت معظم الشركات درسها من تجربة "بوينغ"، وباتت تستخدم نفوذها أو جماعات الضغط المناسبة لتجنب الوقوع في كوارث مشابهة. في غضون ذلك، يفتح فوز الجمهوريين في الكونغرس الباب أمام خفض الضرائب على الشركات، ما قد يخفّف من أثر الحروب التجارية، وكلّ المشاكل الأخرى التي يطرحها أسلوب الحكم عبر التغريدات.

مع ذلك، يقرّ الرؤساء التنفيذيون، كغيرهم، بأنهم لا يعرفون كيف ستتفاعل رئاسة ترمب الثانية. 

وصف نيكولاس بينشوك، رئيس شركة "سناب أون" (Snap-on) لصناعة المعدّات في كينوشا في ويسكونسن التي تضمّ حوالي 13000 موظفاً، الفترة التي سبقت الانتخابات بأنها تشبه حركة حفلة الشاي المناوئة لسياسات الرئيس السابق باراك أوباما، لكن بشيء من الجنون، وأضاف "لا أحد يعرف ما الذي سيحدث، يمكننا التوقع، ولكن ما سنتوقعه لا يجلب كثيراً من الطمأنينة". 

قلق الشركات الدفاعية

يقول روب ستالارد، المحلل لدى شركة "فيرتيكال ريسرتش بارتنرز" (Vertical Research Partners) المستقلة المتخصصة ببحوث الأسهم، إن الشركات الدفاعية بشكل خاص "قلقة حيال عامل الفوضى". إذ يعتزم ترمب ترشيح بيت هيغيث، وهو مقدم برامج على قناة "فوكس نيوز" وجندي سابق في الجيش الأميركي، لمنصب وزير الدفاع، برغم أنه يفتقر للخبرة في مجال القيادة العسكرية أو الحكومية. 

كما عيّن كلاً من ماسك الذي يعدّ من أكبر داعمي حملته الانتخابية، ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي لقيادة لجنة الكفاءة الحكومية التي ستتولى التدقيق في الإنفاق الاتحادي. إلا أن شركة "سبيس إكس" التي يملكها ماسك تتنافس مع "بوينغ"، ولديها عقود دفاعية متعلقة بصواريخها وأقمار "ستارلينك" بقيمة مليارات الدولارات. 

تستحوذ الحسابات الدفاعية على حصة الأسد من الإنفاق الخاضع لاجتهاد المسؤولين في الموازنة الأميركية، وهي أموال لا تُصرف دائماً بحكمة. من الأمثلة على ذلك، أن المفتش العام للبنتاغون قال إن "بوينغ" تقاضت من القوات الجوية سعراً بلغت مكاسبها فيه 7943%، جراء تزويدها بمعدات توزيع الصابون السائل.

أما تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية قد تبلغ 60% على الواردات الصينية، بالإضافة إلى مجموعة من الرسوم على السلع المكسيكية و10% إلى 20% على التجارة مع باقي الدول، قد تلحق بالاقتصاد فوضى من نوع آخر، مع ذلك لا يبدو أن المستثمرين والمصنّعين يتعاملون معها بجدية. على الأرجح أن يكون طرح هذه الأرقام الكبيرة مجرد مناورة تكتيكية، ولن تُعتمد في السياسة النهائية.

قالت كيتي نيكسون، مديرة الاستثمارات في شركة "نورثرن ترست" لإدارة الثروات إن الشركات واثقة من أنها ستتمكن من تحميل الزبائن أي تكاليف إضافية، وتعتقد أنه "سيكون هناك كثير من المساومات في هذه الفترة، مع تصعيد ترمب للضغوط... ليست هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها هذا".

هجرة الشركات نحو المكسيك

وجّه ترمب خلال ولايته الأولى عدّة انتقادات لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، معتبراً أنها غير عادلة بما أنها تصب أكثر لمصلحة تعزيز اقتصاد المكسيك. وقد فاوض على اتفاقية جديدة دخلت حيز التنفيذ في 2020، وأعلن حينها أنها "الاتفاقية التجارية الأكثر حداثة وعصرية وتوازناً في تاريخ بلادنا".

مع ذلك، لم تُثنِ هذه الاتفاقية الشركات الأميركية عن ضخ مزيد من الاستثمارات في المكسيك. بل على العكس، فإن رسوم ترمب الجمركية على الواردات الصينية دفعت بكثير من المصنّعين إلى زيادة استثماراتهم في المكسيك في محاولة للالتفاف على هذه الرسوم، والاستفادة من اليد العاملة الرخيصة. وكانت المكسيك قد أزاحت الصين في العام الماضي لتصبح أكبر دولة مورّدة للسلع إلى الولايات المتحدة، حيث بلغت قيمة الواردات الأميركية من المكسيك نحو 500 مليار دولار.

"لينوكس إنترناشونال" (Lennox International) واحدة من الشركات التي انخرطت بهذه الهجرة التي بدأت قبل سنوات، فقد افتتحت هذا العام معملاً في المكسيك لصناعة مكيفات الهواء التجارية، بعدما واجه معملها في شتوتغارت في أركنساس صعوبة في العثور على عمّال. كما نقلت شركة "إيه أو سميث" (A.O. Smith) خطاً لإنتاج سخّانات للماء لا تضم خزّانات، من الصين إلى المكسيك كي تتجنب التعرفة الجمركية المرتفعة. 

هدد ترمب خلال حملته الانتخابية بزيادة الرسوم الجمركية على منتجات شركة "دير أند كو" (Deere & Co) بنسبة 200% إن تمسّكت بخطط لتصنيع بعض المعدات الزراعية في المكسيك بدل ولاية أيوا. وقد ادّعى بعدها أن الشركة عدلت عن قرارها، على الرغم من أن ذلك لم يحصل.

كذلك، قال دونالد آلن، الرئيس التنفيذي لشركة "ستانلي بلاك أند ديكر" (Stanley Black & Decker)، إن الشركة ستنقل الإنتاج إلى أنحاء أخرى من آسيا، أو ربما إلى المكسيك، إن أقدم ترمب على زيادة التعرفة الجمركية. 

وقد أغلقت "ستانلي" منشأة بقيمة 90 مليون دولار في فورت وورث في تكساس، كانت أعلنت عنها في 2019 في أجواء حماسية تحت شعار "أميركا أولاً". لقد اضطرت شركة صناعة المعدّات للاعتماد على الأتمتة كي تتمكن من تحقيق أرباح، لكن الروبوتات لم تكن على قدر المهمة. 

وبعد الانتخابات، حذرت "ستانلي" أنه في حال زاد ترمب التعرفة الجمركية على الواردات من الصين إلى 60%، فإن ذلك سيقلّص أرباحها بواقع 200 مليون دولار، وسيتطلب إعادة ترتيب سلسة إمداداها، ما قد يستغرق نحو سنتين. هذا على افتراض أن التعرفة الجمركية لن تستهدف المكسيك أيضاً، وأن نطاق التعرفة على الواردات الصينية لن يوسع ليشمل مزيداً من السلع. قال ألن: "يُستبعد أن نعيد الكثير من الإنتاج إلى الولايات المتحدة، لأن ذلك يفتقر للكفاءة من ناحية التكلفة".

خطر على الاقتصاد الأميركي

يسعى ترمب حالياً لإعادة التفاوض على ما أدخله من تعديلات على اتفاقية "نافتا". وقد اقترح فرض تعرفة أعلى على الواردات من المكسيك تفوق حتى تلك المفروضة على الصين، بما في ذلك رسوم جمركية بنسبة 200% على السيارات و100% على سلع أخرى.

لكن لمثل هذه الإجراءات تداعيات كارثية. أظهرت تقديرات جوليان ميتشل، المحلل في بنك "باركليز"، أن نحو نصف ما يباع في الولايات المتحدة من أنظمة التدفئة والتكييف المستخدمة في المباني السكنية مصنوعة في المكسيك. كما أن البلاد مصدر رئيسي للغذاء وقطع غيار السيارات. 

وكان ترمب قال في مقابلته مع بلومبرغ نيوز: "كل ما عليك فعله هو بناء مصنعك في الولايات المتحدة، ولن تضطر لدفع أي رسوم جمركية".

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فعمّال المصانع عملة نادرة في الولايات المتحدة، ونظراً للتنوّع الجغرافي والاعتماد على الإنتاج خارج الحدود منذ عقود، فإن البلاد تفتقر لسلسلة إمداد تدعم توريد كثير من المنتجات داخلياً. فحتى الشركات التي عادة ما تقوم بأعمال التجميع داخل الولايات المتحدة، تلجأ إلى الخارج من أجل تأمين بعض المواد الأولية وغيرها من المكوّنات. إلى ذلك، فإن فرض رسوم جمركية على الواردات من بعض الدول، يزيد من احتمالات أن تردّ تلك الدول بالمثل، ما يلحق ضرراً كبيراً في الطلب على المنتجات الأميركية.

قال رولاند بوش، الرئيس التنفيذي لعملاقة الصناعة الألمانية "سيمنز" (Siemens)، التي تعتمد على السوق الأميركية في نحو ربع مبيعاتها، إن الشركة حدّت من اعتمادها على السلع المستوردة بعد زيادة ترمب الأخيرة للرسوم الجمركية، ونتيجةً للعرقلة الناجمة عن جائحة كورونا. لكنه أشار إلى أن التعرفة تزيد من احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي، وتسهم في زيادة التضخم. وقال: "كلّ ما تفعله هو أنك تعيق التجارة الحرة، وهذا لا يساعد كثيراً".

سياسة التهويل

هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن كثيراً من تصريحات ترمب هي من قبيل التهويل فقط، وأنه على الأرجح سيستهدف الشركات الصينية أكثر من الشركات الأميركية التي تستورد مكوّنات من الخارج. قال فيليب نيلسون، رئيس قسم تخصيص الأصول في شركة "إن إي بي سي" (NEPC) الاستشارية في مجال الاستثمارات، والتي تشرف على أصول بقيمة 1.7 تريليون دولار، إن ترمب لا يريد أن يكون مسؤولاً عن إغلاق معمل في الغرب الأوسط مثلاً حين تصبح الشركة التي تشغله غير قادرة على تحمّل كلفة شراء ما تحتاجه من قطع. ولكن من ناحية أخرى، لن يكون لدى ترمب هذه المرة هاجس التفكير في إعادة انتخابه.

استفادت المصانع الأميركية في الآونة الأخيرة من الأموال الحكومية التي وفرها قانونا كبح التضخم والرقائق والعلوم، بدفع من الرئيس جو بايدن لتحفيز قطاع الطاقة النظيفة وصناعة أشباه الموصلات. مع ذلك، تعهد ترمب بإعادة النظر في هذه التشريعات أو حتى إلغائها.

وبحسب المحللين الصناعيين في شركة "ميليوس ريسرتش" (Melius Research)، شهدت أميركا الشمالية الإعلان عن مشاريع ضخمة (أي بتكلفة تتجاوز المليار دولار للمشروع الواحد)، كان مجمل قيمتها يفوق 875 مليار دولار منذ 2021.

وهذه بارقة أمل نادرة في قطاع التصنيع الذي يعاني من أطول فترة ضعف على الطلب، أقله منذ فقاعة الإنترنت في بداية الألفية. وفي ظلّ عدم جلاء الرؤية حيال الحوافز، قد تتأجل المشاريع المخطط لها لفترة من الوقت، أو تلغى كليةً في أسوأ الأحوال.

نهج جديد للتعامل مع سياسة ترمب المناخية

لعب قانون المناخ الذي أقرّه بايدن دوراً محورياً في قرار شركة "جي إي فيرنوفا" (GE Vernova) باستثمار 50 مليون دولار في مصنعها بمدينة شينيكتادي بولاية نيويورك، وتوظيف 200 عامل لتصنيع توربينات الرياح المثبتة على البر، وفقاً لرئيسها التنفيذي سكوت سترازك. إلا أن ترمب يصرّ على التقليل من أهمية التغير المناخي، مدعياً أن توربينات الرياح تُصدر ضجيجاً يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، ويتسبب بجنون الحيتان، وهي مزاعم بلا سند علمي. وقد ركز هجومه على مشاريع طاقة الرياح البحرية.

فيما تعترض التحديات هذا الجانب من أعمال "جي إي فيرنوفا"، يسعى سترازك إلى تعديل الطريقة التي يسوّق بها الاستثمارات الأخرى في مجال الطاقة النظيفة. فهو يرى أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى توفير مزيد من الطاقة الكهربائية لدعم مصانع أشباه الموصلات ومراكز البيانات التي تشغّل تقنيات الذكاء الاصطناعي. وشدد على أن غياب الاستثمار الأميركي في التقنيات الخضراء سيتيح الفرصة لدول أخرى لتولي زمام المبادرة. 

يقرّ سترازك بصعوبة تخفيف التوترات السياسية المحيطة بملف الطاقة المتجددة، لكنه يشير إلى أن خلق الوظائف قد يساعد على حلحلتها.

تصنيفات

قصص قد تهمك