بلومبرغ
أقنعت استطلاعات الرأي متابعي الانتخابات الرئاسية الأميركية بأنهم سيترقبون سباقاً بحظوظ متقاربة يجعلهم يقضمون أظافرهم بانتظار نتيجته، وأن إعلان الفائز قد يستغرق أياماً وربما أسابيع.
لكن إشراقة صباح اليوم التالي جلبت معها النتيجة، واتضح أن دونالد ترمب حقق فوزاً جلياً، وانتصر على كامالا هاريس في خمس ولايات متأرجحة فيما كان متقدماً عليها في ولايتين أخريين قبل اكتمال فرز الأصوات هناك.
كان هذا الانتصار ذروةً في موجة تحوّل واسعة نحو اليمين في الولايات المتحدة، حيث استعاد الجمهوريون السيطرة على مجلس الشيوخ، كما أنهم متموضعون بما يعينهم على الاحتفاظ بأغلبية مقاعد مجلس النواب.
إذاً، هل أخطأت استطلاعات الرأي؟ أقل ما يمكن قوله هو أنها لم تُصب. لكن سيحتاج القطاع أسابيع وربما أشهراً ليتحرى مكامن الخلل وحجمه.
هامش الخطأ
أظهرت استطلاعات الرأي في يوم الانتخابات تقارباً كبيراً بين حظوظ ترمب وهاريس في الولايات المتأرجحة، لدرجة أن متوسط نتائج الاستطلاعات وفقاً لموقع "538"، الذي يختص بجمع الاستبيانات والتحليلات، كانت تقول بأنهما سيتعادلان في ولايتي بنسلفانيا ونيفادا. أما في ولايتي ميشيغان وويسكونسن، اللتين تُعدان محوريتين لهاريس، فأشارت الاستطلاعات إلى تقدمها بنقطة واحدة هناك.
فاز ترمب في ويسكونسن وبنسلفانيا بنهاية المطاف لكن الفارق كان ضئيلاً. في صباح اليوم التالي للانتخابات، فيما كانت الأصوات تُحصى كان متقدماً في ويسكونسن بأقل من نقطة مئوية، وبنقطتين في بنسلفانيا. كما فاز في ميشيغان بفارق 1.4 نقطة. ورغم أن الأرقام كانت قابلة لأن تتغير حينذاك بعد الانتهاء من فرز الأصوات، إلا أنها تؤكد أن السباق كان متقارباً، كما توقعت الاستطلاعات.
كان هذا المشهد أوضح في الولايات الثلاث الأخرى. في كارولاينا الشمالية، حيث أشارت التوقعات إلى تفوق ترمب بنقطة واحدة، فاز بفارق يقارب 3.5 نقاط. كما تقدّم في نيفادا بفارق 5 نقاط، وفي أريزونا بفارق 4.5 نقاط، قبل انتهاء فرز الأصوات صباح الأربعاء الماضي.
كل هذا يذكرنا بأن استطلاعات الرأي عادةً ما تكون صحيحة في رسم الصورة العامة للسباق، سواء كانت حظوظ المرشحين متقاربة أو أن الفوارق ضئيلة أو أن أحدهما يتجه إلى فوز ساحق، لكنها لا تكون دقيقةً في توقع الفارق النهائي بشكل حاسم. يرجع ذلك جزئياً إلى هامش الخطأ، وهذه عبارة ربما سمعتموها مراراً إن كنتم قد تابعتم استطلاعات الرأي الكثيرة خلال هذا الموسم الانتخابي، سواء كان ذلك قد خفف من توتركم أو زادها.
تعتمد الاستطلاعات على عينات عشوائية من الأميركيين لتمثيل الرأي العام، لكن مهما بلغت جودة اختيار العينات، لا يمكنها أن تعكس بدقة تامة تقلبات قناعات أكثر من 100 مليون ناخب. لهذا، يحدد منظمو الاستطلاعات هامشاً للخطأ كطريقة لتقدير كم تعبر عينتهم الصغيرة عن الرأي العام بمجمله.
إصابات وإخفاقات
ماذا يعني ذلك عملياً؟ إذا أظهر استطلاع تقدم هاريس بنقطة واحدة في ميشيغان وكان هامش الخطأ ثلاث نقاط، فإن الاستطلاع يقول فعلياً إن نتائج التصويت ستتراوح بين تقدم هاريس بأربع نقاط وتقدم ترمب بنقطتين. من هذا المنظور، فإن فوز ترمب بفارق ضئيل في الولايات المتأرجحة يقع ضمن حدود هامش خطأ الاستطلاعات.
خارج الولايات المتأرجحة، كانت الاستطلاعات أقل دقة عموماً. على سبيل المثال، أظهر متوسط استطلاعات فلوريدا النهائية تقدم ترمب بفارق 7 نقاط، لكنه فاز في النهاية بفارق 13 نقطة. وبالمثل، أظهر متوسط استطلاعات تكساس النهائية تقدم ترمب بـ8 نقاط، لكنه فاز بفارق 14 نقطة. كما كان هنالك كثير من الكلام عن إمكانية فوز هاريس في آيوا، بعدما أظهرت إحدى كبرى شركات الاستطلاعات في الولاية تقدمها بـ3 نقاط، لكنها خسرت الولاية بفارق يتجاوز 13 نقطة.
قال تشارلز فرانكلين، أستاذ القانون والسياسات العامة في كلية "ماركيت" للقانون في ميلووكي ومدير استطلاعات الرأي فيها: "يتيح انتظار صدور الأرقام الرسمية النهائية للأصوات أن نقيّم دقة الاستطلاعات في الولايات ومقارنتها بنتائج انتخابات 2020. لكن عموماً، أعتقد أن الاستطلاعات أصابت في أن المنافسات كانت متقاربة، كما أصابت بشكل خاص في تحديد القضايا التي تهم الناخبين مثل الاقتصاد والإجهاض والهجرة".
ولكن الآن، الأمر يتعلق بالأجواء العامة. إذ قال كريستوفر تشاب، أستاذ العلوم السياسية في كلية "سانت أولاف" في نورثفيلد في مينيسوتا: "عندما تتحرك القاعدة الانتخابية في الاتجاه نفسه عبر ولايات مختلفة، ستبدو حتى الأخطاء الصغيرة ضخمةً".
ناخبو ترمب يثيرون الحيرة
لكن السؤال الذي يبرز هنا هو: هل ينبغي حقاً أن تكون استطلاعات الرأي دقيقة في التنبؤ بقدر ما يعتقده الصحافيون والجمهور المتابع للأخبار بشغف؟
قال غاري لانغر، الذي تدير شركته "لانغر ريسيرتش أسوشياتس" (Langer Research Associates) استطلاعات الرأي لصالح شبكة "أي بي سي نيوز": "نحن لا نجري هذه الاستطلاعات كي ننقل نتيجة السباق بلا هدف، بل لقياس مخاوف واهتمامات الناخبين بما يساعدنا على فهم أوضح لنتائج الانتخابات".
على الرغم من رصد منظّمي الاستطلاعات في هذه الدورة الانتخابية "خطأً استطلاعياً طبيعياً"، حسب المصطلح المعتمد، لفت أن القطاع برمته وقع في الخطأ عينه، ألا وهو الاستهانة بحجم التأييد الذي كسبه ترمب للانتخابات الرئاسية الثالثة على التوالي. قال تشاب: "واضح أن ثمة سرّاً يتعلق بالانتخابات حين يكون ترمب مرشحاً، فيصعب على استطلاعات الرأي الوصول إلى ناخبيه... هذا أمر يحيّر العاملين في مجال الاستطلاع منذ 2016، وأعتقد أنه سيستمر في تحييرهم".
في انتخابات 2016 و2020، أظهرت استطلاعات الرأي تقدم المرشح الديمقراطي للرئاسة. في 2016، كانت هيلاري كلينتون متقدمة في متوسط الاستطلاعات النهائية في الولايات المتأرجحة. ورغم فوزها بالتصويت الشعبي بفارق نقطتين مئويتين، خسرت أمام ترمب في المجمع الانتخابي بنتيجة 304 مقابل 227. أما في 2020، فقد أظهرت الاستطلاعات تفوقاً كبيراً لجو بايدن، لكن توزيع الأصوات في الولايات الأساسية كان في النهاية أكثر متقارباً، وتمكن بايدن من الفوز في المجمع الانتخابي بـ306 أصوات مقابل 232.
في هذه الدورة الانتخابية، سعى منظمو استطلاعات الرأي لتجنب الوقوع في الأخطاء نفسها مرة أخرى. لذلك، عدّل عدة منهم النماذج التي اعتمدوها لضمان تمثيل عيناتهم بشكل أفضل للقاعدة الانتخابية. ولتحقيق ذلك، أعطوا وزناً أكبر لبعض الإجابات مقارنة بالأخرى.
إعادة تقييم داخل قطاع الاستطلاعات
في هذا السياق، كتب براين شافنير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة "تافتس"، الذي عمل على هذا الموضوع مع طالبته كارولاين سولير في الشهر الماضي، أنه في هذه الدورة الانتخابية، أضاف واحد من كل ستة منظمي استبيانات وزناً إضافياً لنوع المجتمع المشمول في الاستطلاع، وهو ما لم يحدث في استطلاعات 2016. وكان الهدف من ذلك ضمان تمثيل كافٍ للناخبين الريفيين الذين يميلون عادةً للتصويت لترمب.
كما بدأ منظمو الاستطلاعات يضيفون أسئلة حول المرشحين الذين صوت لهم الناخبون في 2020. وظهر أن الاستطلاعات التي أدرجت وزناً لهذا السؤال توقعت أن يكون السباق متقارباً أكثر، مقارنة بتلك التي لم تفعل ذلك. وسيترتب على القطاع أن يقرر ما إذا كان سيستمر في طرح هذا السؤال في المستقبل.
تنطلق هذه النقاشات عادةً بمجرد الإعلان عن الفرز النهائي للأصوات. وقد صرح أليكسندر بودكول، كبير مديري البحوث في شركة "مورنينغ كونسالت" (Morning Consult)، قبل الانتخابات: "إذا حدثت أخطاء في استطلاعات الرأي، فإن القطاع سيتبع نفس الخطوات التي اتبعها في 2020". وسيشمل ذلك أسئلة مثل "هل كان هناك من يميلون نحو الطرف الآخر بين مؤيدي هاريس أو ترمب؟ هل كان الناس أقل صراحة عبر الهاتف؟ هل ترتبط المسألة بمن اتخذوا قرارهم في اللحظة الأخيرة، فلم تكن الاستطلاعات بهذا السوء نظراً لحصول هذا التحول في وقت قريب جداً من يوم الانتخابات؟" (تجدر الإشارة إلى أن "مورنينغ كونسالت" تجري الاستطلاع الشهري لصالح بلومبرغ).
بعد أشهر من طرح الأسئلة على الآخرين، حان الوقت لقطاع الاستطلاعات كي يوجه أسئلته إلى ذاته مجدداً.