بلومبرغ
بقلم: Amanda Mull
أتمنى لو يصحّ أن أقول لكم أن ما يُحكى عن اندثار الصحافة الورقية كان مبالغةً، لكن الواقع أعقد من ذلك. لقد ولّت إلى غير رجعة مطبوعات كثيرة مما كانت تكتظ به أكشاك الصحف وصناديق البريد قبل عشرين عاماً، أما البقية فقد تغير نموذج عملها بعد انتقال القرّاء ومعهم أموال المعلنين نحو الفضاء الرقمي، كما عمد كثير منها إلى تقليص عدد الإصدارات الورقية أو تحوّل بالكامل إلى نسخ رقمية.
إن "كوندي ناست" (Condé Nast)، التي كانت يوماً أعظم شركة ناشرة للمجلات في العالم وفاق عدد إصداراتها في أوجها 20 مجلةً، لم تعد تقدّم نفسها اليوم على أنها "شركة مجلات"، وفقاً لما قاله رئيسها التنفيذي روجر لينش في 2022، وقد تراجع عدد إصداراتها إلى 13 فقط حول العالم.
كما طال هذا التغيير مجلة "بلومبرغ بزنيسويك" صاحبة هذا التقرير، التي باتت تقدّم محتواها يومياً عبر موقعها الإلكتروني، وأعلنت في يوليو عزمها إصدار نسختها الورقية شهرياً، بعدما كانت إصداراتها أسبوعيةً طيلة 94 سنة.
نموذج عمل جديد
لا شك أن نموذج الصحافة التقليدي أصبح شيئاً من الماضي، وزال معه الانتشار واسع النطاق للمطبوعات وحضورها الثقافي، بعد أن قلبت الإنترنت قطاع الإعلام رأساً على عقب. ولم يبقَ من أثر ذلك العصر سوى بعض مجلات تُعنى بالقيل والقال نجدها قرب صناديق الدفع في السوبرماركت أو كتب تشبه المجلات وتختص بوصفات الطعام منخفض السعرات.
مع ذلك، ما يزال هنالك بصيص أمل للمجلات، بغضّ النظر عن نموذج العمل، وهو ما بدأ يدركه بعض الناشرين والعلامات التجارية. فقد أعلنت في 2024 عدة مجلات تغطي مجالات متنوعة مثل "فايس" (Vice) و"سبورتس إلستريتد" (Sports Illustrated) و"سيفر" (Saveur) و"نايلون" (Nylon) و"فيلد آند ستريم" (Field & Stream) التزامها بالعودة إلى إصدار النسخ الورقية التي سبق أن تخلّت عنها.
في غضون ذلك، تستمر بعض المجلات الصغيرة المستقلة التي تركز على النسخ الورقية، مثل "هوم غيرلز" (HommeGirls) و"دريفت" (Drift) و"بيتر سَذرنر" (Bitter Southerner) و"أبارتامينتو" (Apartamento) في احتلال مساحات في مجالات تخصصها، وقد انضمت إليها عشرات المجلات الورقية الجديدة سنوياً منذ بداية جائحة كورونا.
تحوّل المجلات إلى منتج فاخر
قد تبدو عودة المجلات الورقية مجافية للمنطق، لكن يسهل تفسير هذه الظاهرة إذا ما تذكرتم أن القرّاء لم يتوقفوا قطّ عن الاستمتاع بالمجلات رغم تزايد العبء الاقتصادي لإصدارها. شرح رئيس تحرير مجلة "أتلانتيك"، وهو مديري السابق، في مقابلة مع "سي إن إن" في أكتوبر سبب معاودة مجلته إصدار 12 عدداً ورقياً في العام بعدما قلصت ذلك إلى 10، مشيراً إلى أن أكثر من نصف عدد المشتركين، وعددهم نحو مليون، يحبّذون الحصول على نسخة ورقية.
تُعد المجلات الورقية منتجات ترفيهية، تخضع بالكامل لسيطرة منتجيها، وتصل إلى القراء دون المرور عبر وسيط تقني. وهذه خاصية محببة لدى القرّاء، وكذلك في أوساط المعلنين المتخصصين بالسلع الفاخرة الذين ما يزالون يؤمنون بقدرة الإعلانات الضخمة البرّاقة على جذب جمهور من الميسورين.
وقد يكون قرّاء النسخ الرقمية أكثر تقبلاً لدفع رسوم الإشتراك إن حصلوا على نسخة ورقية (جيدة طبعاً) كجزء من اشتراكهم الرقمي من حين إلى آخر. يعني ذلك أن المطبوعات ما تزال ذات قيمة بالنسبة للمعلنين والناشرين، لكن طبيعة هذه القيمة هي التي تغيرت. يجوز القول إذاً إن المجلات لم تنقرض، بل تحولت إلى "منتج رفاهية"، وفقاً لتوصيف رئيس تحرير مجلة "إنترفيو" (Interview) في تصريح له في نيويورك قبل فترة.
عند التمعن بالدور الجديد الذي ستلعبه المجلات الورقية، من المهم إلى المنشورات التي لم تتخلّ يوماً عن نسخها الورقية، ومن ذلك "أركيتيكشرال دايجيست" (Architectural Digest) و"ذا أتلانتيك" (Atlantic) و"بون أبيتيت" (Bon Appétit) و"جي كيو" (GQ) و"نيويورك" (New York) و"نيويوركر" (New Yorker) و"فانيتي فير" (Vanity Fair) و"فوغ" (Vogue) وغيرها. هذه المجلات لا تستهدف عامة الناس، فمعظم قرائها من الميسورين والمثقفين المستعدين للدفع مقابل الحصول على منتج يعتبرونه فاخراً أو ذا جودة عالية، وهذا ما يشجعهم على الاستمرار في الاشتراك بهذا النوع من المجلات.
أصبحت المجلات إذاً منتجات فاخرة بحدّ ذاتها، تتضمّن صفحات لامعة تتناول مواضيع معمّقة وصوراً أصلية تتميز بأسلوب فني راق ويستغرق إنتاجها كثيراً من الوقت والمال.
كما نفعل في بلومبرغ بزنيسويك، فإن عرض هذه المجلات للقارئ يقوم على تقديم محتوى يستحق المال الذي يدفعه مقابل استمتاعه به. وكانت هذه القناعة التي تكوّنت لدى الجمهور أسهمت أيضاً في إحياء شتى أنواع الوسائط التقليدية، من الكاميرات ذات الأفلام إلى إسطوانات الفينيل، كما ساعدت في استقرار قطاع الكتب ومحال بيعها رغم الاعتقاد الذي ساد سابقاً بأن الكتب الرقمية ستقضي عليها.
إعلانات أكثر فعالية
من يشترون هذه المجلات هم في الأغلب من يبتاعون ملابس باهظة أو ينزلون في فنادق فخمة، ويهتمون بالاستماع إلى آخر أخبار السيارات الكهربائية من نوع "بي إم دابليو". وهذا بالذات ما تسوّق له "كوندي ناست" في طروحاتها للمعلنين، فتعدهم بأن جمهور مجلاتها الورقية أثرى وأصغر سناً من المستهلك العادي، وهي الشريحة التي عادةً ما تخاطبها العلامات التجارية الفاخرة ذات الميزانيات الضخمة.
صحيح أنه يمكن الوصول إلى هذه الشريحة من المستهلكين عبر الإنترنت، ولكن غالباً ما يعترض ذلك بعض التحديات، فالناس يتجنبون عادةً الإعلانات الرقمية أو يتجاهلونها، أمّا تلك التي لا يستطيعون تجاهلها أو تجنبها فتثير إزعاجهم.
حتى لو سارت كافة الأمور على ما يُرام من الناحية التقنية، تبرز مسألة "سلامة العلامة التجارية" التي باتت تثير قلق المعلنين، إذ قد تتضرر سمعة الشركة المعلنة في حال ظهرت دعاياتها إلى جانب مواضيع غير لائقة.
في المقابل، الإعلانات الورقية تدور خارج فلك الانتقادات السلبية سريعة الانتشار التي يتعرض لها المحتوى الرقمي. وقد أظهرت استطلاعات آراء المستهلكين أنهم يثقون بالإعلانات المطبوعة أكثر ويجدونها أكثر فعالية مقارنةً بالإعلانات الرقمية.
حين أعادت "نايلون" إصدار نسختها الورقية في أبريل، قال براين غولدبرغ، الرئيس التنفيذي لمالكتها "بي دي جي ميديا" (BDG Media)، إن مبيعات الإعلانات في العدد الأول "تجاوزت طموحاتنا بأشواط". بالتالي، طالما يصمّم المعلنون دعايات جيدة، فهي على الأغلب لن تزعج القارئ كما حال مقاطع الفيديو التي تُعرض تلقائياً أو النوافذ المنبثقة عن الصفحة، حتى أنهم قد يستمتعون بها.
متعة قراءة بعيداً عن الخوارزميات
هكذا، يمكن للمجلات الورقية أن تحرر أطراف الاقتصاد الإعلامي من أمور عادة ما تنفّر قرّاء المحتوى الرقمي. فهنا لا خوارزميات تتدخل لتوجّه المحتوى، ولا عتبات دفع تقيّد الدخول لأنها لا تحفظ كلمة مرورك، ولا محاولات متواصلة للفت انتباه القارئ على أطراف الشاشة. إذ تتيح المجلات الورقية للناشرين والمعلنين تقديم أنفسهم بأبهى حلّة، وتوفر للقارئ فرصة الانغماس لساعة أو ساعتين في محتوى هو على يقين أنه من إعداد أشخاص يحرصون على جودة المنتج النهائي.
هل سئمت من دفع رسوم اشتراك في المواقع الإلكترونية؟ لكن ماذا لو تلقيت كتاباً أنيقاً جذاب المحتوى يصل إلى عتبة منزلك عدة مرات سنوياً؟ للمناسبة. لأن الشيء بالشيء يُذكر، هل ذكرت لكم أن بزنيسويك تصدر مجلة ورقية رائعة؟
على المجلات إذاً أن تفي بوعدها بتقديم منتج يدفعك لأن تضع هاتفك جانباً، وعليها أيضاً أن تتبنى نموذج عمل يتمحور حول نسختها الورقية، يتضمن مثلاً فعاليات أو منتجات وغيرها، لتبرر كلفة إنتاجها. صحيح أن المجلات ما عادت قادرة على الاستمرار كنشاط تجاري قائم بحدّ ذاته، لكن يمكنها التحوّل إلى أداة تسويق فعّالة جداً لمجموعة واسعة من المنتجات والخدمات التي تقدمها الشركات الإعلامية المعاصرة، خاصة إذا كانت تستهدف من يقدّرون حس الأناقة والرقي أو حتى الرومانسية التي تثيرها مجلة متقنة الإعداد.
محتوى مفعم بالأحاسيس
كانت الرومانسية هي الكلمة التي اختارتها أيضاً ماريا ديميتروفا، رئيسة التحرير الشريكة لمجلة (AFM) المتخصصة بشؤون المرأة والثقافة في وصفها للمجلات خلال مقابلتنا معها للحديث عن مجلتها الجديدة الصادرة عن شركة "فيلد" (Feeld) المعنية بتطبيقات المواعدة. تضمن العدد الأول منها إسهامات أدبية لأسماء لامعة مثل حنيف عبد الرقيب وتوني تولاتيموتي، المعروفين بأعمالهما المرهفة والعميقة التي تخاطب المشاعر.
حين تقرأ مجلة (AFM)، ستشعر بطابعها الأنيق والفني، البعيد عن الأسلوب التجاري التقليدي، وكأنما ترد على انتقادات تطبيقات المواعدة ودورها في جعل التعارف تجربةً خاضعةً للخوارزميات وبعيدة عن الجانب الإنساني. إن كانت الشركات الإعلامية قادرة على استخدام المجلات كأدوات تسويق فعّالة، ما الذي يمنع الشركات الأخرى من أن تفعل ذلك؟
سبق لشركات كثيرة أن حاولت استخدام المجلات كوسائل تسويق، ومن الأمثلة على ذلك مجلة "كوستكو كونكشن" (Costco Connection)، التي تُعد من الأنجح على الصعيد الوطني الأميركي، إذ توزع أكثر من 15 مليون نسخة. لكن معظم هذه المجلات، مثل "كاسبرز" (Casper’s) و"أوايز" (Away’s) وحتى "هيميسفيرز" (Hemispheres) الصادرة عن "يونايتد إيرلاينز" توقفت عن الصدور، بعدما توصلت الشركات التي تقف خلفها إلى ما خلصت إليه الشركات الإعلامية في السنوات الماضية، وهي أن نشر مجلة جيدة صعب ومكلف.
ليست (AFM) استثناءً، فقد استغرقت ديميتروفا ورئيسة التحرير الشريكة هيلي ملوتيك 18 شهراً من العمل لإنتاج العدد الأول، وستصدر المجلة مرتين سنوياً. قالت إن "فيلد" لا تنظر إلى المجلة كمصدر إيرادات.
قد يكون هذا سبباً كافياً للاعتقاد أن (AFM) ستواجه في نهاية المطاف مصير المجلات الأخرى الصادرة عن العلامات التجارية. لكن من ناحية أخرى، ربما هذه الطريقة المناسبة التي يجب أن تتعامل بها الشركات الإعلامية مع مجلاتها الورقية، على الرغم من أن عوائد الإعلانات مرغوبةٌ أيضاً.
هنالك دائماً مكسب من معرفة كيفية تقديم منتج يرغبه الناس حين تطلب منهم المال والاهتمام، حتى لو كان ما تبيعه لهم مختلفاً تماماً عما سواه.