بلومبرغ
عندما انتهت تجربة وجيزة في ألمانيا لقصر أيام العمل على أربعة أيام فقط أسبوعياً، لم تعد عدة شركات راغبة في العودة لنظام العمل لخمسة أيام في الأسبوع.
تعليقاً على التجربة، قال سورين فريك، المؤسس الشريك لشركة تنظيم الفعاليات "سوليدسينس" (Solidsense): "لم أعد أريد العمل أيام الجمعة... لقد أصبح يوم الجمعة يوماً ثالثاً من أيام عطلة نهاية الأسبوع، فلا يرغب المرء بأن يعمل في ذلك اليوم مالم يكن مضطراً لذلك".
كانت "سوليدسينس" واحدة من 45 شركة شاركت في التجربة التي امتدت لستة أشهر، عمل خلالها الموظفون لساعات أقلّ، مع تقاضي رواتب كاملة. في نهاية التجربة، عبّر 73% من المشاركين عن استعدادهم لاعتماد هذا النظام بشكل دائم أو تمديد التجربة، وفقاً لتقرير أصدره المنظمون في 18 أكتوبر.
كانت التجربة في ألمانيا ثاني أكبر تجربة تُشرف عليها مجموعة (4 Day Week Global) النيوزيلندية بين تجارب مشابهة نظمتها في دول مثل البرتغال وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة.
فيما يخصّ ألمانيا، تعاونت المجموعة مع جامعة "مونستر" وشركة "إنترابرينور" (Intraprenör) الاستشارية في برلين، وقد جاءت النتائج لتؤكد ما كان يأمله المشاركون. فقد ساعد تقليص أيام العمل إلى أربعة على تحسين صحة الموظفين الجسدية والنفسية. وصبّ هذا الإجراء لصالح أصحاب العمل أيضاً، فحسّن من قدرتهم على استقطاب الموظفين الجدد، وهذا أمر مهم في بلد تشكو فيه عدة قطاعات من ارتفاع التكاليف بسبب المنافسة الحادة على المواهب. وقد نشرت نحو عشر شركات انخرطت في التجربة تفاصيل أدائها المالي وظهر من ذلك أن إيراداتها وأرباحها بقيت مستقرة عموماً.
سعى الباحثون الألمان المشاركون في الدراسة إلى إجراء تجربة أكثر دقة مقارنة بتجارب (4 Day Week Global) السابقة في دول أخرى. فاستخدموا عينات الشعر لقياس مستويات الكورتيزول، وهو الهرمون المسؤول عن الاستجابة للتوتر، كما حللوا بيانات من الساعات الذكية التي أظهرت أن الموظفين حصلوا على 38 دقيقة نوم إضافية أسبوعياً وزادوا من نشاطاتهم البدنية. كما أجرى الباحثون أكثر من 600 مقابلة وقارنوا النتائج مع موظفين لم تشملهم التجربة في بعض الشركات.
إجراء لا يناسب جميع الشركات
لكن لم تصمد كلّ الشركات حتى نهاية التجربة، فقد انسحبت شركتان من منتصفها، بحجة الصعوبات الاقتصادية (ولم تكن تلك بالضرورة ناتجة عن تقليص ساعات العمل)، أو انخفاض تأييد مثل هذا الإجراء في أوساط الموظفين.
من الشركات المتبقية، قررت 20% منها العودة إلى أسبوع عمل من خمسة أيام، وهي نسبة أكبر مقارنة بالتجارب التي أجرتها (4 Day Week Global) في دول أخرى. قالت جوليا باكمان، الباحثة من جامعة "مونستر" التي قادت الدراسة: "ما زلت أعتقد أن القول باحتياج ألمانيا لأسبوع عمل من أربعة أيام ينبغي ألا يشمل كل الشركات، ولكنني أراه مناسباً للشركات الراغبة في إسداء خدمة لموظفيها أو تحسين جاذبيتها للموظفين الجدد".
تأتي هذه الخلاصات في وقت حساس بالنسبة للشركات الألمانية، إذ أظهر استطلاع بلومبرغ لآراء عدد من المحللين أن الاقتصاد الأوروبي الأكبر يواجه ركوداً طفيفاً على خلفية مجموعة عوامل، منها توقف واردات الغاز الروسي الرخيص وتراجع الطلب على الصادرات الألمانية في الصين ونقص العمالة الماهرة.
وكانت "فولكس واجن"، شركة صناعة السيارات الأكبر في البلاد والتي تشكّل معياراً يستند إليه قطاع الصناعة، قد أعلنت أنها قد تضطر لإغلاق بعض المصانع داخل ألمانيا للمرة الأولى.
إلى ذلك، حذّر بعض المسؤولين الحكوميين البارزين، إلى جانب مسؤولين في قطاع الأعمال من توسّع تبني نظام أسبوع العمل من أربعة أيام. وقال وزير المالية كريستيان ليندير إن تقليل ساعات العمل يهدد الإنتاجية، فيما رأى رئيس "دويتشه بنك" التنفيذي كريستيان زيفينغ أن على البلاد الاستعداد "للعمل أكثر وبجهد أكبر"، حتى أنه دعا إلى زيادة أيام العمل.
تعديلات على أسلوب العمل
كان لموظفي "سوليدسينس" ومديريهم رأي آخر. فمنذ مارس، تجد مكتب الشركة في شتوتغارت شبه خاوٍ أيام الجمعة. وقد أتاح تقليص أسبوع العمل لموظفي الشركة البالغ عددهم 18 الذهاب إلى النادي الرياضي وقضاء مزيد من الوقت مع عائلاتهم وممارسة هواياتهم. حتى أن فريك نفسه كان مندهشاً لتمكنه من تخصيص معظم أيام الجمعة لممارسة هوايته في إصلاح السيارات القديمة.
قال: "أسبوع العمل المؤلف من أربعة أيام كان مربحاً لنا اقتصادياً"، مشيراً إلى تسجيل ارتفاع "كبير" في الإنتاجية. أضاف: "حين ناقشنا مع كامل الفريق احتمال تمديد التجربة قبل بضعة أشهر، كان بيّناً أن الجميع موافق".
لكن تحقيق مثل هذه المكاسب تطلب إجراء تعديلات واسعة على أسلوب العمل. فقد تخلت "سوليدسينس" عن الاجتماعات غير الضرورية واعتمدت على الذكاء الاصطناعي من أجل القيام بالمهام الروتينية، مثل تنقيح قوائم "إكسل"، كما اضطرت لتبليغ العملاء بتغيير دوام عملها، حيث أضافت عبارة إلى رسائلها الإلكترونية جاء فيها: "يرجى أخذ العلم أن ساعات عملنا قد لا تتطابق مع ساعات عملكم".
لم تنجح تجربة أسبوع العمل من أربعة أيام بالقدر نفسه بالنسبة لشركة "يورولام" (Eurolam) لصناعة الزجاج في فيغندورف. إذ قال مدير الشركة هينينغ روبر إنه شعر بداية بالحماسة إزاء زيادة عدد المتقدمين بطلبات التوظيف وتمتعهم بأهلية عالية، فبات فجأة قادراً على رفض بعض المتقدمين، وهو أمر ما كان يحلم به سابقاً.
كما هو حال كثير من الشركات الألمانية، عانت "يورولام" من نقص في اليد العاملة الماهرة نتيجة تقلص عدد السكان بشكل عام. ومع ارتفاع التضخم، اكتسب العمال نفوذاً أكبر، ما مكنهم من المطالبة بزيادات كبيرة في الأجور وتحسين ظروف عملهم.
لكن مع التقدم في التجربة، بدأ روبر يلاحظ التحديات. فأسبوع العمل القصير صعّب التعامل مع الطلبات الاعتيادية بالإضافة إلى الأعمال غير المتوقعة، مثل إصلاح منتج أعاده الزبون لوجود خلل فيه. كما سجلت الشركة زيادة في غياب الموظفين عن العمل في وحدة الإنتاج، حيث تحجج عدد أكبر منهم بالمرض.
انفتاح على خيارات أخرى
قال روبر إن قرار العودة إلى أسبوع العمل الاعتيادي، أي خمسة أيام، قوبل بـ"حالة من الصدمة الصامتة". وأشار إلى أن الموظفين المكتبيين في "يورولام" شعروا بخيبة أمل أكثر من عمّال المصنع، على الرغم من أنه أقر بأن أقدم موظفي قسم الإنتاج وصف تجربة الأسبوع المكون من أربعة أيام بأنها "أفضل شيء حدث في مسيرته المهنية".
أشار منظمو التجربة إلى أن بعض المشاركين الآخرين أعربوا عن قلقهم من أن فقدان يوم عمل قد يحدّ من قدرتهم على التعامل مع الأحداث غير المتوقعة، مثل الأعطال في المعدات أو التأخير في تسليم بعض الطلبيات. وعلى الرغم من التحسن في الصحة الجسدية والنفسية للموظفين، لم يُسجّل أي تغيير ملحوظ في عدد أيام العطل المرضية، ما يتعارض بشدة مع الانخفاض بنسبة 65% في غياب الموظفين خلال تنفيذ تجربة العمل أربعة أيام في الأسبوع في المملكة المتحدة.
هذه الخلاصات قد تجعل بعض أصحاب العمل الآخرين يترددون في تجربة نظام العمل لأربعة أيام. وكان عدد الغيابات المرضية التي طلبها الموظفون في ألمانيا خلال الأشهر الثمانية الأولى هذا العام قد بلغ ذروة ما وصل إليه عام 2023، بحسب تقرير صادر عن شركة التأمين "إيه أو كي" (AOK)، ومن المؤكد أن يرتفع هذا العدد أكثر عند بداية الشتاء.
كان متوسط غياب الموظفين 21.3 يوما في 2022، ما أسفر عن خسارة هائلة تقدر بـ207 مليارات يورو (220 مليار دولار) في القيمة المضافة، وفقاً لبيانات المعهد الفيدرالي للسلامة والصحة المهنية.
وعلى الرغم من النتائج الإيجابية عموماً، لاحظ المديرون في "سوليدسينس" أنه مع أتمتة المهام البسيطة والمستهلكة للوقت، أو إحالتها إلى أشخاص من خارج الشركة، أصبح الموظفون مضطرين لتولي العمليات الأعقد، فزاد الضغط الذهني خلال ساعات العمل. وقد قرر فريك تمديد تجربة الأربعة أيام عمل إلى فبراير، ليتبين ما إذا كانت ستصمد خلال الأشهر الأنشط بين سبتمبر وديسمبر.
في "يورولام"، عاد الموظفون للعمل خمسة أيام في الأسبوع، مع إمكانية المغادرة باكراً يوم الجمعة إن أتموا ساعات العمل المطلوبة أسبوعياً. قال روبر إنه ما يزال يبحث عن أسلوب عمل جديد، مضيفاً: "لمجرد أن هذا الأسلوب لم ينجح، فلا يعني ذلك إغلاق الأبواب أمام الخيارات الجديدة. فرفض التغيير يعني أن تراوح مكانك، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى التخلف".