تمويل التخفيضات الضريبية لنفسها رواية خرافية تعود مجدداً

المؤرخ ريك بيرلستين يشرح كيف أحيا ترمب فكرةً خرقاء ترسخت في الحزب الجمهوري في الثمانينيات

time reading iconدقائق القراءة - 12
الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان يستلم درعاً تكريمياً يمثّل خفض الضرائب خلال حفل لجمع التبرعات في برمنغهام في ألاباما عام 1985 - بلومبرغ
الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان يستلم درعاً تكريمياً يمثّل خفض الضرائب خلال حفل لجمع التبرعات في برمنغهام في ألاباما عام 1985 - بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

بقلم: Rick Perlstein

في خطاب دونالد ترمب لإعلان قبول ترشيحه للرئاسة في يوليو خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، أطلق سيلاً من المغالطات على مدى 90 دقيقة. حتى أنها لسرعة تواترها وكثرتها جعلت أكبر موقع لتقصّي الحقائق في العالم تفوته أشنعها، أو ربما لأن حزبه يرددها منذ زمن طويل حتى باتت ببساطة من المسلمات. 

خرافة يمينية

أتت تلك الخافة بعد 4023 كلمة من الخطاب الذي كان فيه 12187 كلمة، عندما ادعى ترمب أنه بعد توقيعه قانون "التخفيضات الضريبية والوظائف" في 2017، حققت الحكومة الاتحادية "إيرادات أكثر في العام التالي ممّا حققته حين كانت المعدلات الضريبية أعلى بأشواط". 

لكن الواقع يشير إلى أن الإيرادات الاتحادية بقيت ثابتة من حيث القيمة الاسمية، بل وانخفضت كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار نقطة مئوية كاملة. وأظهر تحليل لمكتب الموازنة في الكونغرس، الذي لا يتبع حزباً دون آخر، أن القانون سيكلّف وزارة الخزانة الأميركية 1.9 تريليون دولار خلال 10 سنوات. 

برغم الأرقام، واصل ترمب ترديد الخرافة اليمينية القائلة إن التخفيضات الضريبية الاتحادية "تموّل نفسها بنفسها" لأن تخفيف العبء الضريبي يحرر الاقتصاد من القيود، فتزيد إنتاجيته. إلا أن هذا الأمر ما يزال بعيداً عن الواقع اليوم، بقدر ما كان حين ادعاه رونالد ريغان قبيل ترشحه للرئاسة للمرة الأولى.

يمكن استخلاص عبرة مهمة من قصة ترسخ هذه الفكرة الجنونية في الحزب الجمهوري واستمرارها على الرغم من دحضها مراراً . لطالما استندت السياسات المحافظة في الولايات المتحدة إلى وعود واهمة بمعجزات مستحيلة، وقد أسهم ترمب في الفترة الأخيرة بتعزيزها أكثر فأكثر. 

بدأت القصة في السبعينيات إثر الصدمة التي نجمت عن "الركود التضخمي". قبل تلك الأزمة، كان يُعتقد أن السياسة الاقتصادية قادرة على رسم ملامح الاقتصاد كما تشاء. لكن تكرار التزامن بين الركود والتضخم، وهو أمر كان يُعتقد أنه من المستحيلات وفق النظرية الكينزية التي كانت سائدة في وقتها، جعل وظيفة الاقتصاديين تقتصر على "الكلام الأجوف بدل التحليل" على حدّ وصف ديفيد ستوكمان، مسؤول الموازنة في عهد ريغان.

حاول الاقتصاديون المحافظون ملء هذا الفراغ الفكري، مسلحين بوصفات تشفي جميع العلل. كان بينهم بعض ألمع شخصيات عالم الاقتصاد، مثل الفائز بجائزة نوبل ميلتون فريدمان صاحب نظرية "النقدية" القائلة إن السيطرة على المعروض النقدي كفيل بضبط التضخم وإعادة تحفيز النمو الاقتصادي، وروبرت لوكاس وهو فائز آخر بجائزة نوبل اقترح شرحاً حسابياً معقداً لعدم جدوى التدخل الحكومي، بالإضافة إلى تيار "المالية العامة الجديدة" الذي قاده مارتن فيلدستين من جامعة هارفرد. 

منظّرون يفتقرون للخلفية الاقتصادية

لكن البعض الآخر، وبعبارة ملطفة، لم يكن من مصاف أولئك. إن أحد أبرز مهندسي ما أصبح يعرف لاحقاً بـ"نظرية جانب العرض" كان روبرت بارتلي، محرر صفحة الرأي في صحيفة "وول ستريت جورنال"، الذي يفتقر لأي خلفية اقتصادية. وكذلك الحال مع "منظّره" الأبرز، جود وانيسكي، الكاتب في الصحيفة نفسها، الذي زعم أنه تعلم أساسيات علم الاقتصاد من خلال لعبة بلاك جاك على طاولات كازينوهات لاس فيغاس.

أضفى انضمام روبرت ماندل إلى الفريق مشروعية فكرية مزيفة على المشروع. فبرغم أن ماندل فاز بجائزة نوبل عن أبحاثه في مجال العملات الدولية في الستينيات، إلا أنه كان قد ابتعد عن التيار الاقتصادي السائد بحلول الوقت الذي انضم فيه إلى جماعة نظرية جانب العرض، وبدأ يروج لأفكار وصفها ميلتون فريدمان بأنها "محض دجل" في مؤتمرات كان يعقدها في فيلته بالريف الإيطالي.

اللافت أن هؤلاء كانوا المنتصرين في معركة الأفكار، ربما لأن النظرية التي روجوا لها كانت جدّ بسيطة بحيث تمكنوا من شرحها بسهولة لصنّاع السياسات. فالورقة البحثية التي طرحها وانيسكي دون أن يخضعها لمراجعة الأقران، لم تتضمن أي نماذج أو بيانات رسمية، بل مجرد قصص متنوعة عن ما هب ودب، فأحدها مثلاً عن كاتب "الأوراق الفدرالية" وأخرى عن الأباطرة الرومان وحتى عن أطفال في المهد.

وبالنسبة لمن يفتقرون لما يكفي من الصبر ليقرأوا البحث، ادعى أرثر لافر، وهو خبير اقتصادي حقيقي انضم لاحقاً إلى المشروع، أنه بالإمكان اختزال كامل النظرية في رسم بياني واحد. وفي حادثة معروفة، خطّ لافير هذا الرسم البياني على منديل في 1974 عرضه على كبير موظفي البيت الأبيض حينذاك ريتشارد تشيني، موضحاً أن السر يكمن في ضبط معدلات الضرائب عند النقطة المثالية، وهي قمة ما يُعرف بـ"منحنى لافر".

وعد مؤيدو نظرية لافر بتحقيق المعجزات إذا ما تم الإعلان عن معدلات ضريبية جديدة مناسبة. فقد توقعوا أن ينمو الاقتصاد بسرعة هائلة، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة العوائد الضريبية. ويتيح ذلك الحفاظ على توازن الموازنة الاتحادية دونما حاجة لإحداث تخفيضات إنفاق موجعة ويمقتها الناس. وبعدها، سيمنح الأميركيون أصواتهم للحزب الذي ساعد في تخفيف عبئهم الضريبي. 

ترسّخ الكذبة

أعجبت هذه الفكرة ريغان بشكل خاص، وبدأ يروّج لها من خلال مقالاته التي كان ينشرها في كافة صحف البلاد وأيضاً عبر تعليقاته الإذاعية المقتضبة، ما أسهم في تعزيز مكانة أكبر داعمي هذه النظرية في الكونغرس، النائب جاك كمب عن نيويورك. كان ريغان مفتوناً بهذه النظرية لدرجة أنه قال للكونغرس خلال ولايته الرئاسية الثانية في 1985: "لا يمكنكم أن تأتوني بحالة واحدة في التاريخ لم يؤد فيها خفض كبير في الضرائب إلى زيادة أكبر في الإيرادات". 

كان يجدر بالمشرعين أن يذكروا له التخفيضات الضريبية التي أقرها عام 1981 لدحض ما جاء به، فقد سببت تلك التخفيضات خلال بضع سنوات تراجع الإيرادات الاتحادية بنسبة 9%، ما اضطر ريغان إلى فرض ثلاث زيادات ضريبية خلال السنوات الأربع التالية.

مع ذلك، بحلول نهاية رئاسة ريغان استحكم أمر خطير. فقد تكونت قناعة لدى الجمهوريين أن التخفيضات الضريبية تؤدي فعلاً إلى زيادة الإيرادات الحكومية برغم كلّ الأدلة التي تثبت العكس.

حين تولّى جورج بوش الابن سدّة الرئاسة عام 2001، وصف فائض الموازنة الذي ورثه عن إدارة (بيل) كلينتون بأنه "مال الشعب"، ولا يحق لواشنطن إنفاقه. وحين أصدر أول تخفيض ضريبي في عهده، أعلن لورانس كودلو، أحد مروجي نظرية جانب العرض، أن "تسارع النموّ الاقتصادي وزيادة الأرباح الناجمة عن عوائد الإنتاجية سيؤديان إلى ارتفاع الإيرادات الضريبية، على الرغم من خفض معدلات الضرائب... فائض الموازنة سيرتفع ولن ينخفض".

لكن ما حصل كان النقيض، فقد ترك بوش لخلفه باراك أوباما أكبر عجز في التاريخ الأميركي. إلا أن بعض المحافظين تمسكوا بهذه الكذبة. في 2009، ألقى النائب عن تكساس لويس غوهميرت خطاباً في الكونغرس ادعى فيه، على طريقة ترمب، أن جولتَيْ التخفيض الضريبي في عهد بوش" أنتجتا أكبر إيرادات دخلت إلى الخزانة الأميركية في تاريخ الولايات المتحدة".

لكن مع ذلك، علا صوت معارض واحد على الأقل في أوساط المحافظين. إذ كتب كيفن ويليامسون من مجلة "ناشيونال ريفيو" مقالاً نُشر عام 2010 بعنوان "وداعاً للاقتصاد من جانب العرض"، قال فيه: "لا توجد أي أدلة" تثبت هذه النظرية، واصفاً الفكرة بأنها "مجرد حكاية خيالية يرويها الجمهوريون لأنفسهم".

انتشار النظرية نحو دول أخرى

لفتتي صراحة ويليامسون. وبعد بضع سنوات اتصلت به لأسأله عمّا حصل بعدما قدم حججاً مدعومة بأدلة توضح أن المعتقد الذي بنى عليه المحافظون إيمانهم الاقتصادي كان وهماً. حين سألته عن رد فعل اليمين على تقييمه، أجاب أنه لم يكن هناك من رد، ثم استدرك شارحاً: "اعترف بعض الساسة الجمهوريين بأنني كنت محقاً، لكن يصعب عليهم الإقرار بذلك علناً، لأن الفكرة أصبحت جزءاً راسخاً من عقيدتهم".

بعد بضع سنوات، وخلال مناظرة استضافتها شبكة "سي إن بي سي" المتخصصة بالأعمال، أسهب مرشح جمهوري تلو الآخر بالحديث عن المعجزات الاقتصادية التي ستنجم عن خططهم لخفض الضرائب، ومنهم دونالد ترمب الذي وعد بأن الاقتصاد "سينطلق كالصاروخ".

وقد ردّ عليه المذيع جون هاروود بأن الاستشاريين الاقتصاديين من الحزبين في البيت الأبيض يرون بأن فرص ترمب "بخفض الضرائب بهذا القدر دون التسبب بارتفاع العجز تقارب حظوظك بالانطلاق عن المنصة محلقاً بمجرد أن تخفق بذراعيك".

رغم كلّ ذلك، بحلول 2022، تمكن هذا الوهم من التحليق عبر الأطلسي وتجلى في "الموازنة المصغرة" سيئة الذكر التي قدمتها رئيسة الوزراء ليز ترَس. لكن في السياق البريطاني، بدت الفكرة القائلة إن التخفيضات الضريبية تموّل نفسها بنفسها بعيدة جداً عن المنطق. إن الدولار هو العملة الاحتياطية العالمية الأساسية، ما يعني أن لدى الولايات المتحدة سوقاً دائمة لديونها إن فشلت سياسة متهورة لوزارة خزانتها. سحب المستثمرون الذين أدركوا افتقار الاقتصاد البريطاني لشبكة الأمان كالتي لدى الولايات المتحدة مبالغ طائلة من البلاد، ما أدى إلى انهيار حكومة ترَس بسرعة البرق.

رفض الإقرار بالخطأ

أمكن استخلاص درس مهم من هذه التجربة، في حين يواصل المحافظون التمسك بأوهامهم المتهورة، لم تعد الأسواق تنخدع بها.

لن تسمعوا ترمب أو أحداً من المحافظين ينطق بمصطلح "جانب العرض"، لكن الفكرة ما تزال لها جاذبيتها وما يزال لافر، صاحب "منحنى لافر"، شخصيةً مؤثرةً في السياسات الاقتصادية للحزب الجمهوري. وقد ورد اسمه على قائمة المرشحين المحتملين لخلافة جيروم باول كرئيس للاحتياطي الفيدرالي التي أعدها مستشارو ترمب في بداية العام.

في ذلك مفارقة لافتة، بما أن الوصفة الأصلية لتحقيق "جنة" جانب العرض تتضمن أيضاً إلغاء المصرف المركزي بحد ذاته، والعودة إلى معيار الذهب. ويقول المتشددون إن سبب عدم تحقيق التخفيضات الضريبية هدفها المنشود على صعيد الموازنة هو أن هذا الإجراء لم يتحقق. فلربما تكون الرابعة ثابتة.

ستيفن مور، واحد من المروجين الآخرين لنظرية "جانب العرض"، كان قد أسهم مع لافر في تأليف كتاب (Trumponomics)، الذي زعم أن التخفيضات الضريبية التي أقرّها الرئيس لن تزيد عجز الموازنة بأي شكل. إلا أن الإيرادات الضريبية انخفضت 40% في غضون سنتين بعد إقرار قانون التخفيضات الضريبية والوظائف. في 2019، أُجهض ترشيح مور لعضوية مجلس الاحتياطي الفيدرالي بعد أن اعترف في مقابلة على قناة "بلومبرغ" بأنه ليس على دراية وافية بشأن "كيف يتخذ الاحتياطي الفيدرالي قراراته".

لكن هذه الشائنة لم تحل دون اختيار مور ليشارك بصياغة الفصل المتعلق بوزارة الخزانة ضمن "مشروع 2025" الذي أطلقته مؤسسة "هيريتج". في سبتمبر، قال ترمب إنه حتى مع التخفيضات الضريبية الأكثر طموحاً التي يعد بها، والتي تتضمن تشكيلة من التخفيضات الضريبية العامة والتخفيضات الضريبية على دخل الشركات وإعفاءات خاصة للعمال الذين يتلقون إكراميات وكبار السنّ، فهو يتطلع إلى "التخلص من العجز خلال فترة قصيرة نسبياً". إن تأييد اقتصاد "جانب العرض" يعني أنك لا تضطر للاعتذار مطلقاً.

تصنيفات

قصص قد تهمك