كيف تحكم "أبل" حياتنا الرقمية؟

أكبر شركات العالم قيمةً تحظى بمحبة تصاحبها خشية جراء سيطرتها المكينة على "أيفون"، لكن إلى متى يستمر هذا؟

time reading iconدقائق القراءة - 45
صورة تعبيرية عن هيمنة \"أبل\" على عالمنا - الشرق/بلومبرغ
صورة تعبيرية عن هيمنة "أبل" على عالمنا - الشرق/بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كانت حكاية فريق مستضعف هي أبرز ما في الذاكرة من بطولة ”سوبر بول“ لعام 1984، ولا نعني بذلك واحداً من فرق كرة االقدم الأميركية التي تنافست على أرض ملعبها. بل نعني شركةً كان لها إعلان عُرض خلال الربع الثالث من المباراة المتلفزة، التي تنازع فيها فريق ”لوس أنجلوس رايدرز“ مع حامل اللقب ”واشنطن ريدسكينز“ وتابعها 80 مليون مشاهد.

في الإعلان المستوحى من رواية 1984 لجورج أورويل، يظهر رتل من الرجال حليقي الرؤوس في زي موحد رمادي وهو اللون الذي طُليت به وجوههم. كانوا متجهين إلى مسرح به شاشة تلفزيون ضخمة تظهر عبرها شخصية الأخ الأكبر السلطوية، كما صوّرتها الرواية.

كان الأخ الأكبر يصدح ممجداً توحيد المجتمع ليكون ”واحة لعقيدة فكر نقي“، إلى أن قفزت شابة لترمي الشاشة بمطرقة هدم فهشمتها مسكتتةً صوت الديكتاتور، ثم جاء صوت آخر يقول: ”سترون لماذا لن يكون عام 1984 كما (رواية) 1984“.

هذا الإعلان، الذي روج لأول كومبيوتر ”ماكينتوش“ (Macintosh) من ”أبل“، أصبح أحد أشهر الإعلانات التجارية على الإطلاق، وفيه تمكن المخرج ريدلي سكوت من تحويل الانطباع عن الكمبيوترات بأنها أدوات عمل مملة إلى أنها أجهزة تعبّر عن هوية مستخدميها.

كان ستيف جوبز، أحد مؤسسي ”أبل“، وغيره من مديريها التنفيذيين الأوائل، يعتبرون أنفسهم متمردين وفنانين. قال ستيف هايدن، الذي ساعد في تصور الإعلان وعمل عليه عن كثب مع جوبز، إن الجهاز الذي يسمى اختصاراً ”ماك“: “كان يفترض أن يكون أداة تمكين" تجعل التقنية في أيدي الأشخاص العاديين بعد ما تركزت في أيدي الشركات والحكومات.

بعد أربعة عقود تحولت القوة الثورية للحوسبة الشخصية من إلهام إلى عبارة مكررة، ويُعتقد كثير من الناس أن”أبل“ ساعدت عبر تعريفها للكمبيوتر الشخصي ولوريثه، الهاتف الذكي، في إتاحة المعلومات للجميع.

مع ذلك، فإن أحد الآثار الجانبية لهذا التأثير هو أن الشخصية المتمردة الشجاعة التي تواجه إمبراطورية الشر لم تعد تمثل ”أبل“. إذ يزعم النقاد في هذه الأيام أن ”أبل“ هي من تستخدم التقنية لترسيخ سطوتها، وأن وجه رئيسها التنفيذي تيم كوك هو ما يلوح عبر تلك الشاشة.

الشركة الأكبر عالمياً

لقد بلغت قيمة ”أبل“ السوقية 3.4 تريليون دولار، أي ما يفوق حجم أي شركة أخرى في العالم. وإيراداتها لعام 2023، التي ناهزت 400 مليار دولار، تجعلها توازي كامل حجم اقتصاد دولة كالدنمارك أو الفلبين. برغم أنه يسهل توقع أن معظم نشاطها يتمحور حول بيعها لأجهزة ”أيفون“، إلا أنه توسع كثيراً إلى ما هو أكثر من ذلك.

في الربع الأخير، بلغت مبيعات ”أبل“ من الخدمات الرقمية وحدها 24.2 مليار دولار، أي أكثر من مجموع إيرادات شركات ”أدوبي“ (Adobe) و“إير بي إن بي“ (Airbnb) و“نتفلكس“ و“بالانتير“ (Palantir) و“سبوتيفاي“ (Spotify) و“زووم“ ومعهن “إكس“ التي يسيطر عليها إيلون ماسك.

المدهش أن هذه الأرقام لا تفي لوصف نفوذ الشركة وقوتها، إذ أن ”أبل“ تسيطر عبر متجر التطبيقات على منصات هائلة للاتصالات الرقمية والخدمات المالية عبر الهاتف الذكي وكذلك الشبكات الاجتماعية والموسيقى والأفلام والنقل والأخبار والرياضة وأي شيء آخر رقمي، أي على كل شيء.

إن هذا النظام البيئي للبرمجيات لدى ”أبل“، وهو يكاد يكون صنواً لـ”واحة عقيدة فكر نقي“، لا يمكن ولوجه إلا لمن يمتثل لسياسات متجرها الصارمة و"لإرشادات واجهة المستخدم البشرية" ذات الصلة، ومعايير المحتوى، والرسوم التي تتقاضاها.

عندما تمر الأموال عبر هذا النظام، كما يحدث باستمرار، تحصل ”أبل“ على ما يصل إلى 30%. وفي كل مرة تمرر "أيفون" أو ساعة "أبل" على جهاز دفع في العالم الحقيقي، تحصل "أبل" أيضاً على نسبة صغيرة من هذه المعاملات.

بالنسبة للشركات من حجم معين، لا توجد طريقة حقيقية للتهرب من دفع ما أصبح يُعرف باسم "ضريبة أبل". ويرجع هذا جزئياً إلى ولاء عملاء ”أبل“، لكن من أسبابه أيضاً أن هنالك متجراً واحداً آخر فقط لتطبيقات الهواتف الذكية على منصة أندرويد من "غوغل"، وهو يفرض رسوماً وقيوداً مشابهة.

حتى أن "غوغل" نفسها تدفع لشركة ”أبل“، وتحول جزءاً من عائدات الإعلانات التي تولدها على "أيفون" كجزء من صفقة ليبقى محرك بحث "غوغل" من الإعدادات المسبقة لمتصفحات أجهزة “أبل" المتنقلة. وقد بلغت هذه المدفوعات 20 مليار دولار سنوياً.

ما بعد الاقتناء

فيما مضى، كان شراء كمبيوتر يعني دفع ثمن جهاز تملكه تماماً، أما الآن فيعني شراء جهاز بسعر مرتفع، لا يقل عن 1000 دولار على الأقل في حالة اختيار أجهزة "أيفون" الأكثر تقدماً، ويلي ذلك إنفاق مئات الدولارات على الاشتراكات والإضافات الأخرى التي تعد اختيارية ولكنها تبدو ضرورية بشكل متزايد.

هنالك خدمات مثل ”أبل كير+“ (+AppleCare)، التي يحتاجها المستخدم إن تهشمت شاشة جهازه مثلاً، و”أيكلاود“ (iCloud) ليخزن صوره، زد على ذلك الرسوم الشهرية لاشتراكات الموسيقى ودروس اللياقة البدنية والبرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو. كما يجب ألا ننسى المجلات، فيمكنك قراءة هذا المقال على (bloomberg.com)، لكن يمكنك ذلك أيضاً عبر الاشتراك في خدمة أخبار ”أبل“.

بعد أن تقرأ هذا المقال عبر“أيفون"، قد تعود لتزاول عملك عبر كومبيوتر ”ماك بوك“ (MacBook)، أو لتشاهد أفلاماً من إنتاج "أبل" عبر مشغل ”أبل تي في" (TV Apple)، أو لتقرأ كتاباً عبر جهاز ”أيباد“ (iPad)، أو لتذهب للجري وعلى معصمك ساعة ”أبل وتش“ (Apple Watch) فيما تستخدم سماعات ”إيربودز“ (AirPods). ولاحقاً ربما تستخدم نظارة ”أبل برو فيجن“ (Apple Vision Pro)، ما يجعلك لا تعايش الواقع دون وسيط صممه مهندسو الشركة في كوبيرتينو بولاية كاليفورنيا.

عموماً، لا يرى المستثمرون غضاضة في هذا الضرب من الهيمنة، وهذا ما يشي به سعر سهم "أبل" الذي ظل يرتفع طيلة عقد مضى. من ناحية أخرى، لدى الجهات التنظيمية بعض الأسئلة. قدمت وزارة العدل الأميركية في مارس شكوى مكافحة احتكار واسعة اتهمت فيها "أبل" بممارسات مقوضة للمنافسة أدت إلى تكبيل المستهلكين والشركاء إلى أعمدة نظامها البيئي وجني مبالغ متزايدة من كلتا المجموعتين.

هيمنة "أبل" 

إن شكوى مكافحة الاحتكار هذه طويلة ومعقدة، لكنها تتلخص في نقطة مألوفة لدى منتقدي الشركة. كما قال أحد المديرين التنفيذيين السابقين، الذي تحدث كما غيره من الموظفين السابقين مشترطاً عدم كشف هويته خشية الانتقام: "لقد بدأوا يصبحون هم الأخ الأكبر". أنكرت "أبل"، كما هو الحال في قضايا مكافحة الاحتكار المشابهة المرفوعة في دول أخرى، ارتكاب أي مخالفات، وقالت إن نجاحها يأتي من ابتكار منتجات مبتكرة سهلة وممتعة للاستخدام، خاصة عند الجمع فيما بينها.

وقال متحدث باسم الشركة في بيان: “نحن نحمل نفس الروح الرائدة والمغامرة في مهمتنا هذه كما كان حالنا دائماً، وكل ما نفعله هو أننا نصنع منتجات لتمكين الناس وإثراء حياتهم… يختار الناس منتجات (أبل) لأنهم يحبونها ويثقون بها ويستخدمونها يومياً".

اكتسبت القضية أهمية أكبر في أغسطس، عندما حكم قاضٍ اتحادي ضد "غوغل" في قضية منفصلة لها ارتباط جزئي باتفاقية محرك البحث مع ”أبل“، وقد أعلنت "غوغل" أنها ستستأنف.

عند النظر إلى كلتا القضيتين، نجدهما تثيران تساؤلات بشأن نظرتنا إلى بعض أنجح شركات التقنية في العالم. كيف أصبحت الشركات، التي كانت تُعتبر على نطاق واسع على أنها ثقل على الكفة المقابلة لهيمنة الشركات، نفسها في مواقع قوة ونفوذ تكاد تكون من عالم آخر؟ وكيف اتُهمت "أبل"، التي لطالما اعتبرت نفسها مدافعة عن حرية التعبير، بنفس تكتيكات رواية أورويل التي سخرت منها ذات يوم؟ هل تنبع قوة "أبل" من قوة منتجاتها المحبوبة أم من الطريقة التي صممت بها الشركة تلك المنتجات لإقصاء المنافسين؟

إجابات هذا ستكون لها آثار على حملة أسهم "أبل". تواجه الشركة نزاعات مع قائمة متزايدة من الشركاء، بما في ذلك البنوك وصناع الأفلام ومصنعو السيارات ومطورو التطبيقات والعملاء، وقد بدأ أولئك يشتكون من أن "أبل" ربما لم تعد تلك القوة الإبداعية التي أحبوها قبل سنوات أو عقود. والآثار المترتبة على بقيتنا من غير المساهمين كبيرة بنفس القدر، فقد بتنا جميعاً نعيش في عالم ”أبل“ إلى حد غير مسبوق ونبدو مصرين على ذلك.

اختلاف الحاضر عن الماضي

المفارقة هنا أن نجاح "أبل" المبكر جاء من انفتاحها. برغم أن كومبيوتر ”ماك“ يعمل بنظام تشغيل يحد نظرياً ما يمكن لمطورين من خارج الشركة فعله، إلا أنه في ذروة القرص المرن، كانت القيود قليلة والرقابة ضئيلة.

بول برينارد، مؤسس شركة ”ألدوس“ (Aldus)، الذي أنقذ برنامجه ”بيج ميكر“ (PageMaker) كومبيوتر ”ماك“ من أن يعتبره المستهلكون مجرد لعبة مترفة سعرها 2495 دولاراً، قال إنه لا يتذكر أنه رأى النسخة الأصلية من إرشادات واجهة المستخدم لشركة "أبل" في ذلك الوقت. وقال: ”جاء مندوب مبيعات (أبل) إلى مكاتبنا حاملاً جهازي (ماك) في شاحنته وقال خذهما وافعل بها ما تريد“. هكذا كان الحال كما يتذكره الرجل، الذي أحدث بعد فترة قصيرة من ذلك مفهوم ”النشر المكتبي“، أي أن تنتج نصاً عبر كومبيوتر وتطبعه، وكان ذلك ثورياً من حيث إنتاج الروايات والصحف والمجلات بل حتى إعداد تقارير أداء تلاميذ المدارس الابتدائية.

أُقصي جوبز، المدافع عن السيطرة الصارمة على أجهزة وبرامج "أبل" المتكاملة، عن الشركة التي شارك في تأسيسها في 1985، وهو العام الذي صدر فيه ”بيج ميكر“. وعندما عاد إليها بعد 12 عاماً، كان بحاجة ماسة إلى مطورين لصنع أشياء لجهاز ”أي ماك“ (iMac) الجديد، فبقيت سيطرة الشركة فضفاضة لفترة من الوقت.

في محفل للشركة في نيويورك قبل شهر من إصدار ”أي ماك“ في 1998، تفاخر جوبز بأن الشركة تمكنت من جمع 177 تطبيقاً من إنتاج أطراف أخرى. كان هذا ضئيلاً جداً بمعايير "أبل" الحالية، لكن جوبز وصفه حينها بأنه "إنجاز ضخم".

إن البرمجيات تندمج مع الأجهزة… سيصبح الخط الفاصل بين الأجهزة والبرامج أدق فأدق فأدق

ستيف جوبز

مع تزايد رواج منتجات الشركة، بدأت علاقاتها مع المطورين تتغير. وفي أوائل الألفية، أحبطت ”أبل“ محاولات شركات أخرى لبناء متاجر رقمية لها لتبيع الموسيقى مباشرة لمستخدمي جهاز ”أيبود“ (iPod). وبذلك حظي الزبائن ببساطة التعامل؛ فقد كانوا يشترون الأغاني عبر ”أيتيونز“ (iTunes) مقابل 99 سنتاً لكل منها، ويمكن القول إن ذلك ساعد في نجاح ”أيبود“، كما ضمن أن تحصل "أبل" على حوالي ثلث عوائد المبيعات. أصبحت ”ضريبة" 30% هي القاعدة في عصر ”أيفون"، ليس فقط لناحية الأغاني، بل شملت جميع البرامج التي تُباع عبر متجر التطبيقات.

من وجهة نظر "أبل"، كانت هذه العمولة أكثر من معقولة نظراً لتكاليف إدارة السوق الكبيرة. وقال برينارد إن 30% هي تافهة مقارنة بالتخفيضات التي قدمها لتجار التجزئة كي يسوقوا برمجياته، وقد كانت حينها تأتي على شكل علب تُباع في متاجر حقيقية.

أمان الأجهزة

بفضل واجهة المتجر الافتراضية هذه، تمكن جوبز من جعل مزيد من إرشادات أبل إلزامية. وأصبح لزاماً على مطوري البرامج اعتباراً من 2008 إرسال كل تطبيق أوتحديث إلى فريق مراجعة ”أبل“ قبل أن يتمكنوا من تقديمه لمستخدمي "أيفون"، وهي عملية اعتبرتها ”أبل“ أساسيةً للحفاظ على جودة الجهاز وأمانه.

كان مطلوباً من مجموعة كبيرة من الموظفين يجلسون قبالة شاشات كومبيوترات من طراز ”أيماك“ أن يقيّموا ما بين 30 و100 تطبيق يومياً، وأن يرفضوا البرامج الرديئة أو الاحتيالية أو الفاحشة أو غير المقبولة. وكان جوبز. رئيس الشركة التنفيذي حينها، يوبخ فريق المراجعة بنفسه إن وجد أنهم وافقوا على تطبيق يعتبره غير مقبول، حسب قول رئيس الفريق آنذاك فيليب شوماكر.

بيّن أربعة من مراجعي التطبيقات السابقين عملوا لدى ”أبل“ خلال العقد الأول من القرن، أن لوائحها بدت عشوائية ومُعدة لتناسب مصالحها المالية. فيما تقول ”أبل“ إن المراجعين يستندون في قراراتهم إلى إرشادات ”أبل، وليس إلى معاييرهم، وأن متجر التطبيقات خفض بشكل كبير الحواجز أمام المطورين ليصلوا إلى المستهلكين ويكسبوا المال.

مع ازدياد قواعد "أبل"، أصبح تدريب المراجعين الجدد يستغرق أحياناً شهرين أو أكثر. وأصبحت الشركة تدقق بشكل غريب في بعض التفاصيل، فقد أمرت في وقت ما بالتوقف عن قبول تطبيقات معدة لإحداث أصوات تجشؤ وما يشابه ذلك وكذلك البرامج التي تجعل الجهاز يعمل كمصباح يدوي، وتلك التي تتضمن إرشادات ”كاماسوترا“، وعزت ذلك لكثرة أعداد ما أُنتج منها. لكن تعليماتها أتت غامضة في بعض النواحي، فقد كانت تقضي بتجنب التطبيقات "المعقدة أو التي ليست جيدةً جداً“.

رسائل الرفض

كما حظرت "أبل" طرقاً مبتكرةً تهدف لإضافة عمليات شراء داخل التطبيق أو اشتراكات كان من شأنها أن تتيح للمطورين أن يتحاشوا حصتها المفروضة. كانت الرسائل الإلكترونية للمطورين لإبلاغهم برفض تطبيق تفتقر للشفافية وشحيحة من حيث ما تتضمنه من معلومات عن كيفية تصحيح المشاكل التي تعتري البرنامج.

قالت "أبل" إن فريق المراجعة لديها كان يجري أكثر من 1000 مكالمة أسبوعياً مع المطورين لمساعدتهم في حل مشاكل الامتثال وأن هناك إمكانية استئناف لمن يشعرون أنهم رُفضوا بشكل غير عادل.

حققت معايير جوبز الصارمة المرجو منها، وكذلك كان شأن ميله إلى الاستعراض، الذي تجسد في استخدامه الساخر لعبارة ”ثمة شيء آخر" ليسترعي اهتمام كبريات المؤسسات الإخبارية إلى فعاليات الإطلاق. لدى وفاته في 2011، صار متجر التطبيقات اقتصاداً ضخماً بحد ذاته. فقد أدرج أكثر من نصف مليون 50 تطبيقاً لجهازي "أيفون" و“أيباد“. في ذلك العام، باعت "أبل" 72 مليون"أيفون" و32 مليون ”أيباد“، وارتفعت قيمتها السوقية إلى حوالي 400 مليار دولار، أي نحو ضعف قيمة شركة ”مايكروسوفت“.

إن لم تبلغ الأربعين من العمر فسيصعب عليك تخيل مدى التغيير المذهل الذي وقع. على مدى جيل كامل، كانت أجهزة كمبيوتر "أبل" هي الأضعف، وكانت تعتبر مرتعاً للأطفال ومصممي الرسوميات وكارهي بيل غيتس.

عشية الإعلان عن ”أيفون“، أي قبل خمس سنوات من وفاة جوبز، كانت قيمة "مايكروسوفت" ما تزال تعادل أربعة أضعاف أسهم ”أبل" مجتمعةً. لكن اليوم أصبح المستضعف سيداً، فأتى اختيار خليفة جوبز على أرضية للحفاظ على هذه المكاسب فلم يكن تيم كوك خبيراً في التصميم، ولم يكن يُعتبر شديد الاهتمام بالجانب الإبداعي من العمل.

كما كان واضحاً أنه لم يشارك جوبز في ازدراء انعدام التباين بين أجهزة الكمبيوتر الشخصية ذات الألوان الرملية. بل كان كوك رجلاً يهتم بالعمليات ويحرص على خفض التكاليف. وكان المسؤول عن سلسلة توريد الأجهزة لدى ”أبل“، وهو دور تدرب عليه عبر خبرته فيه لدى شركتي ”كومباك“ و”آي بي إم“، التي كانت القوة العظمى في مجال الحوسبة وهي التي ألمحت ”أبل“ في إعلان 1984 إلى أنها ”الأخ الأكبر“.

عهد تيم كوك

بالنسبة لجوبز ومساعديه، كانت النتائج التي حققها كوك تجعله يجمع بين عبقري وصانع معجزات، فقد خفض مخزون المستودعات مما يكفي لمدة شهر إلى ما يكفي ليوم واحد، فقضى بذلك على المخاطر المكلفة التي قد تنشأ عن الإفراط في الإنتاج.

كما حول سلسلة توريد ”أبل“ إلى قوة كبيرة مبنية حسب الطلب تنافس ”ديل“، التي كانت المعيار الذهبي للكفاءة آنذاك. كما أنه تفاوض مع شركة التصنيع ”فوكسكون“، التي تتخذ في تايوان مقراً لها، بغرض تجميع أجهزة الشركة في الصين لقاء مبالغ تقل كثيراً عن تكاليف تصنيعها بواسطة عمال لدى ”أبل“ في مكان آخر.

كل هذه الأشياء صبت في مصلحة ”أبل“، فاستطاعت أن تصنع هواتف راقية بتكلفة ضئيلة، فيما كانت تبتلع غالبية أرباح صناعة الهواتف الذكية العالمية. من ناحية أخرى، شهد موردو الشركة شيئاً يشبه ما يسمى "تأثير وول مارت“، وهو مصطلح صيغ ليصف الاضطراب الناتج عن إغراق شركة أو مجتمع صغير بكمية هائلة من الأعمال وكانت لذلك نتائج كارثية في بعض الأحيان.

ندد موظفو ”فوكسكون“، ومعظمهم من المهاجرين الشباب، بشدة تدني الأجور مع كثرة ساعات العمل في ما وصفوه هم ودعاة حقوق الإنسان بمعسكرات العمل، ،كان ينام 10 عمال في غرفة واحدة.

أزمة انتحار عمال "فوكسكون"

خلال النصف الأول من 2010، انتحر ما لا يقل عن عشرة من عمال ”فوكسكون“. قال أحد العمال لـ بلومبرغ نيوز حينئذ: ”إنني أحس بخواء داخلي، فليس لي مستقبل". رفعت ”فوكسكون“ الأجور، وأقامت خطاً ساخناً للتوعية والإرشاد كما نصبت شبكات لمنع الانتحار تردياً، فأعلنت ”أبل“ أن الأزمة قد حُلّت. لكن في السنوات التي تلت ذلك، أصبحت انتقادات نشطاء العمل حدثاً منتظماً.

لكن المدافعين عن ”أبل“ زعموا أن الشكاوى المقدمة ضد ”فوكسكون“ ربما كانت تنطلق من نوعية حياة العمال الفقراء في الصين أكثر من ارتباطها مع ”أبل“، التي لم تكن مهووسة على الدوام بدفع أقل الأجور الممكنة، فقد جمعت جهاز ”ماك“ الأصلي في فريمونت بولاية كاليفورنيا دون أن تعير بالاً لذلك.

وجدت ”فوكسكون“ ومساهموها أن شراكتها مع "أبل" مربحة جداً، برغم أن الموردين الأقل أهمية اشتكوا من التكتيكات التي كان عدم الاكتراث ألين وصف لها، حيث بلغ الأمر أن وصفها بعضهم بأنها افتراسية.

كانت أشهر هذه الحالات شركة ”جي تي أدفانسد تيكنولوجيز“ (GT Advanced Technologies)، التي وقعت صفقة مع "أبل" في 2013 لفتح مصنع في ميسا بولاية أريزونا بغرض تصنيع الياقوت في مسعى لجعل شاشات "أيفون" شديدة التحمل. 

لم يكد يمضي عام حتى طلبت الشركة الحماية من الإفلاس، وفي إعلانها ذلك، لام أحد مسؤوليها التنفيذيين "أبل" بسبب "استراتيجية الجذب والاستبدال الكلاسيكية" والتسعير الدكتاتوري الذي حمّلها جميع المخاطر، وزعم أن ”أبل“ طالبتهم ذات مرة ”بألّا يكونوا أطفالاً وأن يقبلوا بالاتفاقية“.

لم تر شاشات الياقوت النور، وعارضت “أبل" توصيف ”جي تي أدفانسد“ للمشكلة وعزتها لسوء إدارتها ومضت قدماً. توصلت ”جي تي أدفانسد“ في وقت لاحق إلى تسوية، دون الاعتراف بارتكاب أي مخالفات، في دعوى قضائية رفعتها ضدها لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بتهمة تضليل المستثمرين. كما توصلت "أبل" إلى تسوية في دعوى قضائية جماعية رفعها مستثمرو ”جي تي أدفانسد“ وأنكرت ارتكاب أي مخالفات.

في العقد الذي تلا ذلك، بزغت ظاهرة متكررة. كانت "أبل" توقع اتفاقية طويلة الأجل مع مورد أحد المكونات الرئيسية بينما تعمل سراً على تصميم بديل له بنفسها يلغي أهمية المورد لديها في نهاية هذا المطاف.

في 2017، على سبيل المثال، أبلغت ”أبل“ شركة ”إيماجينيشن تكنولوجيز“ (Imagination Technologies)، التي كانت تقدم تصميمات لمعالجات رسوميات "أيفون"، أنها تبني نسختها الخاصة من شرائح معالجة الرسوميات تلك. ادعت ”إيماجينيشن“ أن الشريحة البديلة تنتهك براءات اختراعها بدرجة تبلغ حد السرقة. وافقت "أبل" لاحقاً على صفقة ترخيص جديدة، لكن بحلول ذلك الوقت، انهار سعر سهم ”إيماجينيشن“ وبيعت لشركة أسهم خاصة تدعمها الصين.

وداعاً "إنتل"

بعد ثلاث سنوات، كشفت "أبل" أنها بصدد إنهاء شراكة طويلة مع شركة ”إنتل“، واختارت بدلاً من ذلك استخدام ما أسمته ”أبل سيليكون“، وهي رقائق صممتها داخلياً وصُنعت بواسطة ”تايوان سيميكوندكتر مانيوفاكتشورينغ“، وهي منافسة ”إنتل“. كان هذا القرار مفهوماً، وكانت شركات التقنية الكبرى الأخرى تتخذ خطوات مشابهة، فقد أرجأت ”إنتل“ مراراً طرح الجيل التالي من الرقائق وتخلفت عن ”تايوان سيميكوندكتر“. لكن خطوة ”أبل“ تزامنت مع تردٍ لم يكتمل تعافي ”إنتل“ منه بعد.

كان لسلسلة الأحداث هذه آثار جيوسياسية، إذ أن ”إنتل“ هي آخر شركة أشباه موصلات أميركية تصنع رقائقها المتطورة ذاتياً بدل الاعتماد على مصادر إنتاج خارجية في مصانع في تايوان أو كوريا الجنوبية. لذا فإن ”أبل“ لم تفرض فقط أساليب سلسلة التوريد لديها على شركائها، بل كانت تفرض إلى حد ما نموذجها على صناعة أشباه الموصلات الأميركية، وهي عنصر أساسي في اقتصاد أميركا وأمنها القومي.

ملحمة "إبيك" مع "أبل"

في أغسطس 2020، قدمت شركة ”إبيك غيمز“ (Epic Games)، وهي الاستوديو الذي أنتج لعبة ”فورتنايت“ (Fortnite) خارقة النجاح، شخصية جديدة هي ”تارت تايكون“ (Tart Tycoon) وكانت له تعبيرات وجه ساخرةً ويرتدي بدلة أنيقة وكان رأسه على شكل تفاحة غراني سميث. ربما لم يكن أحد سيلاحظ أن الصورة ترمز إلى كوك، لولا الطريقة التي اختارتها ”إبيك“ لتقديمه، وهي محاكاة ساخرة لإعلان ”أبل“ الشهير في بطولة سوبر بول.

 

في تلك المحاكاة الساخرة التي نشرتها ”إبيك“عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر ”تارت تايكون“ على شاشة تلفزيونية مشابهة لتلك التي تخيلها ريدلي سكوت وقال رافعاً عقيرته: "لقد قدموا لنا على مر السنين أغانيهم وعملهم وأحلامهم… في المقابل، أخذنا الإشادة والأرباح والسيطرة". بدل أن تستخدم مطرقة، دمرت شخصية من (Fortnite) الشاشة بفأس ملون بألوان قوس قزح على شكل وحيد القرن. وظهر على الشاشة نص يقول: “لقد تحدت (إبيك) احتكار متجر التطبيقات“، ودعت اللاعبين إلى "الانضمام إلى القتال لمنع أن يكون 2020 كما حال 1984".

كان رئيس ”إبيك“ التنفيذي تيم سويني، من معجبي ”أبل“ منذ نعومة أظفاره، وهذه صفة يشترك فيها مع كثير من أشد منتقدي الشركة، كما كان أحد مطوري ”أي ماك“ الأصليين، الذين أشاد بهم جوبز في 1998. لكن في السنوات الأخيرة، كان سويني يضغط على كوك وغيره من المديرين التنفيذيين للسماح لشركات البرمجيات بفتح متاجر لتطبيقات "أيفون"، ما من شأنه أن يسمح لشركة ”إبيك“بالالتفاف على قيود المحتوى والرسوم المرتفعة التي تفرضها "أبل".

كان هذا الاقتراح يتعارض مع الشروط الرسمية لمتجر التطبيقات، لكنه لم يكن مستبعداً تماماً. كانت "أبل" قد أبرمت صفقةً سريةً مع ”أمازون“ خفضت فيها العمولة التي تتقاضاها عن مبيعات تلك الأخيرة إلى النصف، أي 15%، مقابل تقديم ”برايم فيديو“ (Prime Video) عبر “أبل تي في“. وحذرت ”نتفلكس“ في الخفاء من أنها ستلغي ترتيباً مشابهاً بينهما ما لم تتوقف شركة البث العملاقة عن اختباراتها لإزالة عمليات شراء الاشتراك من داخل التطبيق بهدف تجنب رسوم "أبل" تماماً.

كما سمحت "أبل" لشركة ”تينسنت“ ولتطبيق المراسلة لديها ”وي تشات“ (WeChat)، الذي يستخدمه 900 مليون، بإنشاء "برامج صغيرة" داخلية يمكن عبرها طلب الطعام أو استدعاء سيارة أجرة، متجاهلة قواعدها الخاصة.

قالت "أبل" إنها لا تحابي وإن القواعد المتعلقة ببث الفيديو المتميز والبرامج الصغيرة طُبقت في النهاية بشكل موحد. في أواخر 2020، أعلنت "أبل" أنها ستسمح لأي مطور يقل دخله عن مليون دولار بدفع عمولة 15% بدلاً من 30% القياسية.

كتب أحد المسؤولين التنفيذيين في"أبل" في مراسلة داخلية إلى زملائه: ”نريد أن يشعروا بالألم“ في إشارة إلى ”نتفلكس“ بعدما قالت إنها ستستأنف اختباراتها. وتعد ”تنسنت“ والتطبيقات الفائقة الأخرى محورية في شكوى وزارة العدل، التي نقلت عن مدير لدى "أبل" تحذيراً من أن هذه التطبيقات "ستسمح للبرابرة بالدخول من البوابة" من خلال جعل تقويض أهمية متجر التطبيقات.

تمرد "إبيك"

لم يكن لدى ”إبيك“ السطوة التي كانت لتطبيق ”وي تشات“، لكن ”تينسنت“ كانت من مستثمريها وكانت (Fortnite) لعبة ناجحة. لذا قبل أن يعلن سويني مخاوفه، حاول ان يتفاوض. لقد أرسل رسالة عبر البريد الإلكتروني في يونيو إلى كوك وعدد من معاونيه يطلب فيها من "أبل" السماح لمتاجر التطبيقات المنافسة من ”إبيك“ والمطورين الآخرين بجعل توزيع البرامج مفتوحاً كما هو الحال في أجهزة الكمبيوتر.

عندما اعترضت "أبل"، أرسل رسالة أخرى في الساعة 2:08 صباحاً بتوقيت كوبرتينو في 13 أغسطس، معلناً أن شركته "لن تلتزم بعد الآن بقيود معالجة المدفوعات لدى (أبل)“ وستطلق بدلاً من ذلك نظام تجارة خاص بها داخل (Fortnite). بعبارة أخرى، قرر سويني من جانب واحد التوقف عن دفع ضريبة ”أبل"، فردت "أبل" بإقصاء (Fortnite) من متجر التطبيقات. في غضون ساعات، نشرت ”إبيك“ (Nineteen Eighty-Fortnite) ورفعت دعوى قضائية جاءت في 65 صفحة.

حكم قاضٍ اتحادي في النهاية بأن ”إبيك“ انتهكت عقدها مع "أبل" وأن متجر التطبيقات قانوني كما هو، بشرط أن تحدث "أبل" تعديلاً واحداً مهماً: السماح لشركة ”إبيك“ وللمطورين الآخرين بربط أنظمة الدفع لديهم على الشبكة، ما يسمح بالتالي بتجاوز بعض رسوم "أبل". لكن عندما أتاحت "أبل" ذلك لاحقاً، طرحت قواعد ورسوم جديدة جعلت خيار الشراء الخارجي بلا أهمية.

سيتعين على أي مطور يتبنى هذا النظام الجديد الموافقة على مشاركة سجلات معاملات موقعه على الويب مع "أبل"، والخضوع للتدقيق ودفع عمولة 27% على أي مدفوعات حدثت خارج "أيفون". بدا الرقم كبيراً، إذ تبلغ رسوم معالجة بطاقات الائتمان عموماً حوالي 3%، ما يعني أن "أبل" استبدلت فعلياً ضريبتها البالغة 30% بأخرى تدانيها، لكنها تستوجب كثيراً من الأعمال الورقية. اعترضت ”إبيك“ وحاججت بأن "امتثال (أبل) المزعوم" كان ”خدعة"، فعادت الشركتان إلى القضاء.

 

مع ذلك كانت دعوى ”إبيك“ ترمز إلى نقطة تحول في علاقات "أبل" ليس فقط مع صانعي البرامج ولكن أيضاً مع شركائها الذين يعتمد عليهم نظامها البيئي بالكامل. كان عدد قليل منهم، مثل ”سبوتيفاي“، غاضبين بشأن المزايا المضمنة لخدمات "أبل" المنافسة لدرجة أنهم أصبحوا منتقدين صريحين لما زعموا أنه ممارسات مناهضة للمنافسة.

امتعاض من "غولدمان" 

في الوقت نفسه بدأ الشركاء الأقوياء يتذمرون وراء الكواليس في شتى أركان إمبراطورية ”أبل“، التي تقول إن الغالبية العظمى من شركائها ازدهروا نتيجة للعمل معها وأن معاييرها العالية تهدف لتقديم أفضل المنتجات لعملائها.

كان ”غولدمان ساكس“ أحد شركائها الساخطين، وكان المصرف قد انضم إلى "أبل" قبل عامين في تقديم “أبل كارد" (Apple Card)، وهي بطاقة ائتمان من فئة تيتانيوم كانت وعداً بإحداث نقلة نوعية في التمويل الاستهلاكي.

وفقاً لمدير أول سابق لدى ”غولدمان“، لمس فريق من العاملين لديه غطرسةً شديدة من نظرائهم في "أبل" ويساومون على كل شيء من الامتثال القانوني إلى التسويق. عندما أُعلن عن البطاقة، تضمنت شعاراً يقول إنها من صنع “أبل“ وليس من إنتاج مصرف، وأثار ذلك حفيظة المسؤولين التنفيذيين في ”غولدمان“.

يستذكر ذلك المدير قائلاً: "كان لسان حال الناس يقول: ماذا تقصدون بأنكم صنعتم هذا؟ ليست لديكم دراية عن كيفية تقديم قرض أو التعامل مع اللوائح. شعرنا وكأننا مجرد بائع، و(غولدمان ساكس) ليست معتادة على أن تُعامل كبائع". رفض متحدث باسم ”غولدمان“ التعليق.

اختراق ديترويت و"أيفون" بعجلات 

كانت آلية تفاعل مشابهة تتجلى في ديترويت. كان ”أبل كار بلاي" (CarPlay Apple)، البرنامج المستخدم لعرض تطبيقات "أيفون" عبر شاشات السيارات، يعتبر في البداية ميزةً لطيفةً تتاح للسائقين. لكن لاحقاً، بدأت بعض شركات صناعة السيارات تقلق من أن "أبل" تحاول ربط نفسها بشكل لا ينقض بجميع سياراتهم.

في 2022، أعلنت "أبل" أن ”كار بلاي“ كان يتوسع ليشمل عداد سرعة وأدوات تحكم بالتكييف ومقاييس مستوى الزيت وغير ذلك من الأمور.

 قال أشخاص مطلعون على تفكير شركة ”جنرال موتورز“ إن "أبل" نادراً ما تستمع إلى تعليقات المنتج، وتعامل سيارات ”جنرال موتورز“ كما لو كانت مراكز لتوزيع برامجها. قال آلان ويكسلر، نائب الرئيس الأول للاستراتيجية والابتكار لدى ”جنرال موتورز“، لـ بلومبرغ بيزنسويك هذا العام إن الجيل التالي من ”كار بلاي“ يخاطر بتحويل مركباتها إلى ”أيفون بعجلات“. تقول "أبل" إنها تتيح ”كار بلاي“ كخيار مجاني لشركات صناعة السيارات.

"أبل" تطرق باب هوليوود 

بحلول هذه المرحلة، تجاوز التأثير الثقافي لشركة "أبل" التقنية ليبلغ هوليوود. أنتجت خدمة البث المتميزة ”أبل تي في+“ (+Apple TV)  ظاهرة حقيقية واحدة، وهي المسلسل الكوميدي تيد لاسو. ومع ذلك، بدأت شكاوى الفنانين تشابه بشكل مقلق ما كان يأتي من مطوري تطبيقات "أيفون"، فقد وصفوا الشركة بأنها مستعدة للإنفاق الزائد أو إغلاق المشاريع لأسباب تبدو تعسفية أو غير واضحة أو غريبة تماماً.

قال منتج أحد برامج الشركة إن المسعى بأكمله كان فارغاً، وإن الاهتمام كان منصباً على الذات كما لو أنه كان “تدريباً داخلياً للموظفين على ابتداع علامة تجارية لصالح أغنى شركة في العالم، ولا معنى له إلا في بيئة يسودها معدل فائدة صفري“.

لقد أوقفت "أبل" مسلسلاً كوميدياً شارك في إنتاجه كورد جيفرسون، وهو الآن كاتب سيناريو حائز على جائزة أوسكار، لأن كوك كان يحمل ضغينة ضد مدونة (Gawker) التي أُغلقت، وكان جيفرسون يعمل لديها سابقاً وهي مصدر إلهام برنامجه. كما قطعت علاقاتها مع الكوميدي جون ستيوارت بسبب خلاف إبداعي حول تغطية موضوعات تتطرق إلى أعمال "أبل". في الربيع، استضاف ستيوارت، الذي كان قد عاد إلى برنامج (The Daily Show)، لينا خان رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية التي تقود حملة إدارة بايدن لمكافحة الاحتكار.

في مقطع سبق المقابلة، قدم ستيوارت حواراً فردياً سخر فيه بلطف من المسؤولين التنفيذيين في مجال التقنية لأنهم يقدمون ادعاءات غريبة تتعلق بالذكاء الاصطناعي. وقال لخان إن رؤساءه في "أبل"، التي كانت تسعى جادةً لإضافة ميزات الذكاء الاصطناعي إلى أجهزتها، رفضوا الفكرة تماماً. سأل ستيوارت: "لماذا يخشون أن يتحادثوا عن هذا في العلن؟". أعربت خان عن أن المشكلة مردها إلى هيمنة "أبل" على السوق، وقالت: ”إن هذا يُظهر أحد مخاطر ما يحدث عندما يتركز كثير من السطوة وصنع القرار لدى عدد ضئيل من الشركات".

أشار ستيوارت إلى أنه حاول أن يستضيف مقابلة مع خان حين كان يعمل مع “أبل"، لكنه مُنع من ذلك أيضاً. قال: "طلبت منا (أبل) ألا نفعل ذلك". ثم أضاف الممثل الكوميدي موحياً بالجدية: ”لم يكن لهذا علاقة بطبيعة عملك".

قبل أحد عشر يوماً من ظهور خان في برنامج (The Daily Show)، رفع نظراؤها في وزارة العدل دعوى قضائية سعت إلى تقييد كبير لسلطة "أبل". بيّن مشاركون في إعداد القضية أن المدعين كانوا يحققون في "أبل" منذ 2019، وقابلوا شركاء للشركة ومنهم مديرون تنفيذيون من ”جنرال موتورز“ و“غولدمان“ وجمعوا قدراً ضخماً من الوثائق الداخلية. كما أنهم شهدوا جميع جلسات محاكمة ”إبيك“، واستمعوا إلى ما قد يستخدمونه كأدلة في تحقيقاتهم ولاكتساب رؤية لإعداد استراتيجياتهم القانونية.

قضية تعكر الأفق

مما أضعف قضية ”إبيك“، كما فهمها المدعون الاتحاديون، هو أن متجر تطبيقات "غوغل" لديه رسوم وقواعد منصة مشابهة، لكن يستخدمه عدد أكبر بكثير من الناس. وهذا يعني أن "أبل" لم يكن لديها احتكار بيّن لسوق متاجر التطبيقات. ”إبيك“ قاضت "غوغل" أيضاً، وحكمت هيئة محلفين لصالحها في ديسمبر 2023، وتستأنف "غوغل" ذلك الحكم.

في صياغة قضيتها ضد "أبل"، وسعت وزارة العدل من نطاقها، بالتركيز على الطرق التي مكّنت ضوابط "أبل" في نظامها البيئي الشركة من الهيمنة على ما وصفته الشكوى بـ "سوق الهواتف الذكية عالية الأداء"، فقد ادعت الحكومة أن حصتها فيه من الإيرادات الأميركية تزيد عن 70%. ردت ”أبل“ بأنه لا يوجد "سوق للهواتف الذكية عالية الأداء" متعارف عليه عالمياً.

علاوة على ذلك، فإن مفاعيل الارتباط التي تستهدفها قضية وزارة العدل هي أكثر ما يحبه زبائن "أبل" في منتجاتها، إذ أنها تشعرهم بالأمان وسهولة الاستخدام. لكن النقطة النهائية لوزارة العدل كانت أن الأجهزة والبرامج ومتجر التطبيقات المتكامل من "أبل" تقمع المنافسة من خلال جعل الانتقال إلى نظائر منافسة يكاد يكون محالاً. إن مجرد نقل حياتك من "أيفون" إلى جهاز ”أندرويد“ صعب بما يكفي إن شئت أن تحتفظ ببياناتك الشخصية والمحتوى الذي اشتريته. ناهيك عما قد دفعته لشراء مجموعة من أجهزة "أبل" مرتفعة الثمن وكذلك الاشتراكات.

كما استهدفت شكوى وزارة العدل، التي قدمتها في مارس، الدور الذي لعبته "أبل" في عرقلة منافسيها لخلق هذا الحال. على سبيل المثال، تحد "أبل" من قدرة الساعات الذكية التي تنتجها جهات أخرى على الاتصال المستمر مع "أيفون" في مواقف معينة، ما يجعل سلاسة عملها أقل من ”أبل وتش". وفيما يخص التراسل النصي عبر الهاتف، تُعرض الرسائل التي تأتي من أجهزة ليست من صنع "أبل" محاطة باللون الأخضر، بينما تظهر الرسائل المرسلة من خلال أجهزتها على خلفية زرقاء، ومؤدى ذلك التقليل من شأن من لا يستخدمون “أيفون" اجتماعياً. على سبيل المثال، يبدأ نوع من المقاطع المصورة عبر ”تيك توك“ بنص يقول: “إنه يستحق تصنيفاً بدرجة 10، لكن هل يجب تحديث تصنيفه إلى 12 لأنه يستخدم هاتفاً يعمل بنظام (أندرويد)“.

 ستستغرق الدعوى القضائية سنوات، لكن قضية وزارة العدل الناجحة ضد "غوغل" تُظهر مدى ارتفاع المخاطر. تفكر الحكومة في مطالبة القاضي بتفكيك عملاق البحث ويمكن أن تسعى لذلك أيضاً مع "أبل" إن فازت. وحتى لو رُفضت القضية، فقد تؤشر الدعوى القضائية إلى خفوت جذوة قيادة "أبل". إن السلوك المناهض للمنافسة يكون في بعض الأحيان من أعراض شركة نفدت أفكارها.

هل باتت شركة مسترخية

كتب رئيس ”سبوتيفاي“ التنفيذي دانييل إيك هذا العام: "لم تكن (أبل) من دفع ذات يوم حدود التقنية والتصميم. إنها شركة مسترخية لا تستكشف أي شيء جديد، كما تدير ظهرها للمبادئ التي جعلتها ذات يوم مثالاً ساطعاً للابتكار".

هذا ليس اتهاماً جديداً. ألمح منتقدو “أبل" على مدى الحقبة التي تولى فيها كوك قيادة الشركة، إلى أنها لن تطلق أبداً منتجاً يمكن أن يرقى إلى مستوى نجاح "أيفون". لكن هناك حججا مضادة، فقد كانت مبيعات”أبل وتش" و“إيربود“ جيدةً بما يكفي لتكونا تعريفاً لفئات منتجات جديدة. كما تُصنف الكمبيوترات المحمولة والأجهزة اللوحية من ”أبل“ باستمرار على أنها الأفضل. لكن هذه المحفظة نجحت إلى حد كبير بسبب أن عدةً من هذه المنتجات مرتبطة من حيث الأساس مع ”أيفون" كتوابع، وهي خيارات مسبقة الإعداد إن كنت ممن يعيشون حياتهم الرقمية في حديقة "أبل". لذا فإن نجاحها قد يكون توضيحاً لوجهة نظر وزارة العدل وليس دحضاً لها.

ألغت ”أبل“ هذا العام مشروعاً لإنتاج سيارة كهربائية بعدما أنفقت عليه 10 مليارات دولار على مدى عقد. ولم تحظ نظارة (Vision Pro) بعد بإعجاب المطورين، ربما بسبب العلاقات المتوترة للشركة مع الشركاء أو مع المستهلكين، الذين تجاهلوها في الغالب لأن سعرها 3500 دولار.

حالياً هنالك استخدامان لهذا الجهاز: أولهما أنه سينما شخصية باهظة الثمن أما الآخر فهو كونه استعارة مذهلة، إذ أنه يدمج بين كل ثانية من استخدامه وبين سيطرة ”أبل“. وبهذا المعنى، فهو نقيض ما جاء في إعلان "1984". بدل تمكين الناس من تحطيم شاشة التلفاز تلك، تسعى ”أبل“ لأن تجعلهم داخلها.

هل سيكون هذا مهماً؟ ليس على المدى القصير. برغم كل الضغوط التنظيمية والانتقادات العامة، لم يتأثر سهم ”أبل“. فقد ارتفع إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في 16 يوليو. وأعلنت ”أبل“ حديثاً عن أدوات ذكاء اصطناعي جديدة ومساعد افتراضي محسن قادم إلى "أيفون". ستكون ميزات الروبوت متفوقة على ميزات ”سيري“ (Siri) القديمة لكنها متواضعة بالمقارنة مع ميزات ”تشات جي بي تي“.

وإن لم يتمكن ”سيري“ الجديد من الإجابة على سؤال، فسيقدم ببساطة رابطاً لخدمة ”أوبن إيه آي“. إنه حل آمن وتدريجي، أي "شيء إضافي" لكنه بخس.

لكن على المدى الطويل، سيكون صعباً تخيل أن الشركة لن تفقد بعضاً من المكانة المعنوية التي عملت جاهدة لتكتسبها عندما أنتجت كومبيوتر ”ماك“. ولو أن "أبل" تعاملت مع شركائها الأوائل بالطريقة التي تعامل بها شركاءها الحاليين، لربما لم تعد موجودة اليوم.

قد يجوز اعتبار أن برنامج (VisiCalc)، الذي استحدث لإعداد جداول البيانات على كومبيوتر (Apple II) أول تطبيق كاسح أُنتج على الإطلاق، حول الشركة في مرحلة ما قبل إنتاج ”ماك“ من عمل للهواة إلى رائدة في مجال الكمبيوتر الشخصي.

 قال بوب فرانكستون، الذي شارك في إنتاج (VisiCalc)، إنه لو حاول جوبز فرض أي شيء مثل قواعد اليوم على فريق (VisiCalc)، فإن "استجابته التقنية" كانت ستكون رفضاً مع تعبير فظ. يشكو عالم كمبيوتر أسطوري آخر هو آلان كاي، الذي ألهم عمله في مركز أبحاث ”زيروكس“ أداة الاختيار والنقر الرائدة التي جاءت في جهاز ”ماك ”الأصلي، من أن الإصدارات التي تلت ”أي ماك“ انحرفت عن أهداف جوبز المثالية الأصلية. قال كاي: "لقد اختار ما يستسيغه جمهور المستهلكين كبديل لهدفه السابق الذي كان يسميه عجلات العقل… إن (أيفون) و (أيباد) يشبهان بعض أفكاري الأولى شكلاً، لكن استخدامهما كان معاكساً تقريباً لطريقة استخدامهما التي كنت اعتقدها."

تدرك "أبل" هذا التحول في الانطباع عنها، حتى لو بدت غير متأكدة من كيفية الخروج منه. بثت الشركة في الربيع إعلاناً متلفزاً لكن سرعان ما أوقفته وهو يسمى التهشيم، وقد بدا وكأنما يجسد شعور منتقدي "أبل" بأن قوتها أصبحت مدمرة. في مطلع الإعلان يظهر مكبس هيدروليكي ضخم يُطبق على هرم من الأدوات الإبداعية، منها بيانو وغيتار وبوق وحامل لوحة عليه زجاجات ألوان وتمثال نصفي من الطين ورقعة شطرنج ومشغل أسطوانات وعدسات كاميرا ودفاتر. 

على أنغام أغنية أنت كل ما أحتاج (All I Ever Need Is You) للفنانين سوني وشير، تشرع الآلة بضغط كل ذلك بقوة لا يمكن إيقافها فيتحول إلى غبار متعدد الألوان. ثم يرتفع المكبس ليكشف عن جهاز ”أيباد“ الجديد من "أبل". وهو أرق من سابقه.

باختصار

مقال "كيف تحكم أبل حياتنا الرقمية؟" يتناول تأثير شركة "أبل" الهائل على حياتنا الرقمية وكيف تحولت من شركة ثورية تُمكّن المستخدمين العاديين إلى كيان يهيمن على السوق ويفرض سيطرته على التكنولوجيا والمحتوى الرقمي. المقال يستعرض تطور "أبل" منذ إعلانها الرمزي في عام 1984 وحتى تحوّلها إلى أكبر شركة عالمية بقيمة سوقية ضخمة.

كما يسلط المقال الضوء على الانتقادات الموجهة إلى "أبل" بشأن احتكارها من خلال متجر التطبيقات، رسومها المرتفعة على الخدمات، وتضييق الخناق على المنافسين، ويُشير إلى أن الشركة باتت تمارس نوعاً من السيطرة يشبه "الأخ الأكبر" الذي كانت تسخر منه في إعلانها الشهير.

يتطرق المقال أيضاً إلى الأثر الذي تتركه "أبل" على شركائها ومنافسيها، مثل "غوغل"، وتأثيرها على صناعات مختلفة من السيارات إلى هوليوود، بالإضافة إلى الدعاوى القضائية والمنافسات التي تواجهها بسبب ممارساتها المناهضة للمنافسة.

في النهاية، يُطرح تساؤل حول ما إذا كانت "أبل" قد فقدت الروح الابتكارية التي ميّزتها في بداياتها، وما إذا كانت منتجاتها الحديثة تعزز هيمنتها بدلًا من تمكين المستخدمين.

تصنيفات

قصص قد تهمك