بلومبرغ
ما زالت شركة إيلون ماسك تتربّع على عرش مصنعي السيارات، ولكنّ الشركات العريقة ليست ببعيدة عنها، فصحيح أنّ هربرت ديس، رئيس مجلس إدارة شركة "فولكس واجن"، ليس على علاقة بنجمة غنائية، ولا يدخن الحشيش في العلن، ولا يعلن أنّ مثواه الأخير سيكون على كوكب المريخ... ولكنّ أوجه الشبه بين حديثه وحديث ماسك ليست قليلة.
ففي مؤتمرٍ صحفي عقده في 15 مارس الماضي تحت عنوان "يوم الطاقة"، متخذاً من "يوم البطارية" الذي عقدته "تسلا" نموذجاً، أعلن ديس أنّ التحوّل نحو السيارات الكهربائية هو الوسيلة الوحيدة للتخفيف بشكلٍ سريع من الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل. وبالطبع، ليس ظهور بعض الشكوك حول رسالة ديس هذه مستغرباً، بعد أن أقنعت شركة تصنيع السيارات عينها العالم بأسره بوهم "الديزل النظيف" لسنوات عديدة.
ولكنّ الشركة بدأت تحصد بالفعل ثمرة جهودها على مدى خمس سنوات لإنشاء منصة موحدة تشكّل الركيزة الأساسية لعشرات السيارات الكهربائية. وكان ديس أعلن خلال المؤتمر الدعائي الذي عقده على مدى ساعتين من مقرّ "فولكس واجن" الرئيسي في مدينة وولفسبرغ الألمانية أنّ "عديداً من الشركات المصنّعة للسيارات شككت بنهجنا، ولكن ها هي ذي اليوم تحذو حذونا، فيما نحن نحصد ثمرة جهودنا".
تصدّرت "فولكس واجن" في العام الماضي مبيعات السيارات الكهربائية في أوروبا. حيث ارتفعت مبيعات الشركة الألمانية من السيارات الكهربائية إثر تشديد القيود الهادفة إلى الحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وبعد إطلاق سيارتها الهاتشباك "آي دي 3" (ID.3) عام 2020، وبدأت سيارة "أي دي 4" (ID.4) الرياضية الكهربائية -أول طراز عالمي يستند إلى منصة "فولكس واجن" للسيارات الكهربائية- تصل تباعاً إلى صالات العرض العالمية، من شنغهاي إلى شيكاغو. وإذ تعتزم الشركة إصدار نحو مليون سيارة كهربائية وهجينة، ويطمح ديس إلى التفوق على تسلا في مبيعات السيارات الكهربائية بحلول عام 2025، وهو أمرٌ قد يحصل قبل ذلك بكثير حسب بعض المحللين.
وبالإضافة إلى إقامة الفاعليات الكبيرة والتناحر على تويتر وإجادة الكلام المنمَّق، ظهر مؤخراً قاسمٌ مشتركٌ إضافي بين ديس وإيلون ماسك، هو المنحى التصاعدي لأسعار الأسهم. وبالطبع، نظراً إلى قيمة تسلا التي ترتفع ارتفاعاً صاروخياً، يمكن لماسك شراء "فولكس واجن" غداً إن أراد ذلك (علماً أنه لا يريد ذلك)، ولكنّ نسبة ارتفاع أسهم "فولكس واجن" هذا العام تعدّت نسبة 80%. وكان ماسك أعلن مراراً أنّه يرحّب بأيّ منافسة في مجال السيارات الكهربائية، فرسالة تسلا هي تسريع الوصول إلى الطاقة المستدامة. وها قد تحققت أمنيته.
صناعة السيارات الكهربائية تزدحم
في الواقع، لم يعُد مجال صناعة السيارات الكهربائية يقتصر على جهة واحدة مهيمنة، بل تحوّل إلى مجالٍ مزدحم يزداد اكتظاظاً يوماً بعد يوم. وتساوي حظوظ "فولكس واجن" في تحقيق أرباحٍ تنافس أرباح "تسلا" حظوظ غيرها من الشركات العالمية، على الرغم من أنّ مصير الأخيرة لا يزال يلفّه شيء من الغموض. ففي يناير الماضي، أعلنت رئيسة مجلس إدارة "جنرال موتورز" ميري بارا عن عزمها على وقف إصدار سيارات البنزين والديزل تدريجياً بحلول عام 2035. بدورها، بدأت الشركات الصينية إصدار سيارات كهربائية غير باهظة، فيما تخطّط شركة "هيونداي" لتصنيع نحو عشرين طرازاً من السيارات الكهربائية. أمّا "رينو" فقد حققت نجاحاً غير متوقع في أوروبا في العام الماضي بسيارة الهاتشباك الكهربائية "زوي" (Zoe). وفي الولايات المتحدة بدأت سيارات "ماستانغ ماتش-إي" (Mustang Mach-E) من "فورد" الوصول إلى صالات العرض تدريجياً، فيما تسعى شركتا "ريفيان" و"لوسِد موتورز" (المستنسخة عن "تسلا" والمتجهة نحو الحصول على تمويل بقيمة 4.4 مليار دولار)، بدعم من شركة "أمازون"، إلى نَسخ تجربة ماسك الناجحة.
ويذكّرنا أثر "تسلا" في قطاع السيارات بأثر "نتفلكس" في قطاع التليفزيون، إذ سرّع الأوّل التحوُّل في سلوكيات المستهلك بعيداً عن محركات الاحتراق الداخلي، تماماً كما دفع الثاني المشاهدين إلى التخلي عن خدمات الكابل لسهولة الوصول إلى البرامج بعد ظهور "نتفلكس".
ولكن كما أنّ "نتفلكس" تواجه اليوم تحديات متزايدة من بعض عمالقة الإنتاج التليفزيوني مثل "والت ديزني" و"إتش بي أو" (HBO)، كذلك تشهد "تسلا" مواجهة من عمالقة صناعة السيارات الذين يحاولون السير في خطاها. وكما أنّ "ديزني بلاس" التي لم ترَ النور إلا بعد سنوات عديدة من ظهور "نتفلكس" حقّقت نجاحاً متميزاً من خلال عرض مواد جديدة كمسلسل "الماندلوري" بالإضافة إلى مجموعتها الكبيرة من الإنتاجات التقليدية مثل "بينوكيو" و"توي ستوري" و"مولان"، كذلك جذب ديس المستثمرين من خلال المراهنة على أحد العوامل الذي يمكن لـ"فولكس واجن" الاستفادة منه، في حين لم تنجح "تسلا" بعد في ضمانه، وهو نطاق الشركة. ففي جعبة "فولكس واجن" عشرات العلامات التجارية التي تملأ كل زوايا سوق السيارات ومبيعات لامست 9.3 مليون سيارة العام الماضي، مقارنةً مع نصف مليون لتسلا. بالتالي، تجد "فولكس واجن" نفسها في وضعٍ فريد يسمح لها بتجميع الموارد وتحمُّل تكلفة تطوير تقنيات جديدة. فبحلول العام المقبل سيكون لدى "فولكس واجن" 27 طرازاً يستند إلى منصتها الموحدة. وحسب تصريح ديس في المؤتمر الذي عقده، "سيكون تحوُّلُنا سريعاً وأكبر من أي شيء شهده القطاع في القرن الماضي".
وكما فعل ماسك، ينوي ديس إنشاء عديد من محطات الشحن والبطاريات، إذ ستطلق "فولكس واجن" وشركاؤها ما يزيد على 35,000 محطة شحن عامة حول العالم بحلول عام 2025. وفي إطار الاتفاق الذي توصلت إليه الشركة مع الولايات المتحدة وولاية كاليفورنيا في ما يتعلق باختبارات الانبعاثات المغشوشة التي أجْرَتها، تعهدت الشركة بإنفاق ما يقارب مليارَي دولار للترويج للسيارات الكهربائية وإنشاء البنية التحتية اللازمة لشحنها.
تهوُّر "فولكس واجن" نحو السيارات النظيفة
وكانت "فولكس واجن" أسست في عام 2017 شركة تابعة تدعى "إلكترفاي أميركا" (Electrify America)، تملك اليوم أكبر شبكة لمحطات الشحن السريع في الولايات المتحدة. كما ينوي ديس إنشاء ستة مصانع للبطاريات في أوروبا، يقدَّر مركز "بلومبرغ إن إي إف" (BloombergNEF) للأبحاث في مجال الطاقة أنها ستحتاج إلى استثمارات تقارب قيمتها 18 مليار دولار. ويضيف المركز أنّ التحسينات في تصميم الخلايا وكيمياء البطاريات والتصنيع وضعت شركة "فولكس واجن" على المسار الصحيح لخفض تكلفة البطاريات إلى النصف بحلول عام 2025، ممّا قد يجعل سياراتها الكهربائية أرخص من السيارات ذات محركات الاحتراق، المجهزة بشكلٍ مماثل.
وفيما يشدّد بعض المنافسين على أنّ توجُّه شركة "فولكس واجن" المتهور نحو صناعة السيارات الكهربائية ليس بأمرٍ حكيم، إذ لا تزال الأخيرة تشكّل جزءاً ضئيلاً من المبيعات العالمية (ما يقارب 3% من مجموع المركبات التي سُلّمت في جميع أنحاء العالم العام الماضي)، فشركة تويوتا موتور كورب" مثلاً، التي تجاوزت شركة "فولكس واجن" بفارقٍ بسيط كأكبر مصنّع للسيارات في العالم عام 2020، طالما أعلنت أنّ السيارات الهجينة هي حلّ وسط أكثر عقلانية. أمّا شركة "بي إم دبليو"، فقد تبنّت المرونة نهجاً واعتمدت مختلف الحلول (سيارات تعمل على الوقود، سيارات هجينة، سيارات كهربائية هجينة، سيارات كهربائية بالكامل) في عديد من طرازاتها. وقال الرئيس التنفيذي للشركة أوليفر زيبسيه لتليفزيون بلومبرغ في 17 آمارس الماضي: "نعتقد أنّ استراتيجية الدفع باتجاه واحد يمكن أن تكون خطيرة للغاية. فمن المستبعَد جداً أن يصبّ ما يناهز 150 أو 160 سوقاً في اتجاه واحدٍ خلال فترة قصيرة جداً لا تتعدى عقداً من الزمن".
وبات من الواضح أنّ ديس ينوي مواصلة العمل على الوتيرة القوية نفسها بهذا الصدد، فبالتزامن مع طرح الطرازات الأولى الصادرة عن المنصة الحالية، تطوّر شركة "فولكس واجن" مجموعة منفصلة من المكوّنات المعيارية الخاصة بالسيارات الكهربائية من "أودي" و"بورشيه" وعلاماتها التجارية الراقية الأخرى. وتبشّر هذه المنصة المتميزة بسرعات شحن أكبر ونطاق أوسع ونسبة تسارعٍ أكبر مقارنةً مع طرازات الجيل الأول. وتقول الشركة إنّه بحلول منتصف هذا العقد، سيكون لديها نظام واحد قابل للتوسّع يدعم جميع سياراتها الكهربائية -بغض النظر عن العلامة التجارية أو الجزء- التي تهدف الشركة إلى بيع 26 مليوناً منها في السنوات العشر المقبلة. وحسب المحلل في بلومبرغ إنتليجنس مايكل دين، فإنّ "(فولكس واجن) واثقة من أنّها ستتمكّن من اللحاق بـ(تسلا)"، متوقعاً أن تتفوّق الشركة على "تسلا" كمصنّع السيارات الكهربائية الأفضل في العالم بحلول عام 2023، بخاصة أنّها "تغزو مجال السيارات الكهربائية بجدّية".