بلومبرغ
تستعدّ صناعة الخدمات المالية لمواجهة مشكلة قد تكون الكبرى من نوعها منذ عقود، مع شروع الاحتياطي الفيدرالي في الإعداد لعملة رقمية جديدة.
وتراقب البنوك وشركات بطاقات الائتمان وشركات المدفوعات الرقمية، بقلق بالغ، اتجاه الاحتياطي الفيدرالي إلى إصدار أو خلق بديل إلكتروني لأوراق النقد التي يحملها الأمريكيون في جيوبهم، أو ما يسميه البعض "الدولار الرقمي"، ويسميه البعض الآخر "فيدكوين" على غرار "بتكوين".
يقول جيمس كونا المسؤول عن المشروع في احتياطي بوسطن: "من المتوقَّع مع حلول يوليو المقبل أن يعلن بنك الاحتياطي لبوسطن (ماساتشوستس) ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (أكبر جامعة للهندسة في العالم) عن نماذج مقترحة لخطة إصدار هذا الدولار الرقمي".
ويمكن أن يؤدّي خلق الدولار الرقمي إلى تغيير طريقة استخدام الأمريكيين للنقود، بما يدفع مؤسسات الخدمات المالية إلى الضغط على الاحتياطي الفيدرالي والكونغرس من ورائه للإبطاء من إيقاع خططه في هذا الشأن أو على الأقلّ تطبيقها تدريجيّاً.
وبالفعل أبلغ الاتحاد الرئيسي للبنوك -التي ترى أن إصدار هذا الدولار الرقمي يهدد أرباحها- الكونغرس أنه لا حاجة إلى إصدار عملة من هذا القبيل. وفي الوقت نفسه تسعى شركات تسوية المدفوعات إلى العمل مع البنوك المركزية للولايات للتأكد من إمكانية استخدام العملة الجديدة في شبكاتها.
وعن ذلك يقول مايكل ديل جروسو، المحلل بمؤسسة "كومباس بوينت": "إن الجميع يشعرون بالخوف من أن يؤدّي إدخال شكل جديد من أشكال تسوية المدفوعات إلى مشكلات عديدة للاعبين الرئيسيين في هذه الساحة".
وحتى الآن لم يوافق رسمياً أعضاء الكونغرس والمسؤولون في الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة على إدخال هذه العملة الافتراضية، وقد يحتاج الأمر إلى عدة سنوات، كما أنهم لم يقرروا بعد كيف سيتفاعل الدولار الرقمي مع شبكة المدفوعات الحالية في العالم.
وفي الوقت نفسه لا تزال الولايات المتحدة ودول أخرى على درجة كافية من التزام رقمنة عملاتها مما يثير القلق الشديد لدى المسؤولين في صناعة الخدمات المالية.
التحرك السريع
يقول جوش ليبسكي، خبير العملات الرقمية والمسؤول عن التنسيق بين الولايات المتحدة ودول أخرى في هذا الصدد: "إن الشعلة قد انطلقت والعالم يتحرك بسرعة في هذه المشاريع".
وقد بدأت في الفترة الأخيرة الحكومة الأمريكية وحكومات دول أخرى بحث رقمنة عملاتها، بخاصة مع انتشار بتكوين وإيثريوم وغيرها من العملات المشفرة في السنوات الأخيرة وتنامي قيمتها في السوق، التي تنمو قيمتها في السوق لأكثر من مليار دولار ضمن المشروعات. وقد تُقدِم البنوك المركزية في كثير من الدول حول العالم على إصدار هذه العملات الرقمية الجديدة، ومع ذلك فلن ينتهي التعامل بأوراق النقد، ولكن سيتقلص استخدامها. وتهدف الدول من وراء إصدار مثل هذه العملات إلى تسهيل المعاملات المالية، فيصبح الأمر من السهولة مثل الاستخدامات المتعددة للهاتف النقال.
وقد تُحوَّل العملات الرقمية -خلف الكواليس- من حساب إلى آخر، وهو ما يشبه ما يحدث في النقود بالفعل. فتعد الغالبية العظمى من الدولار الأمريكي مجرد مدخلات رقمية في حسابات البنوك. في حين قد تتفادى العملات المستحدثة الوسطاء من البنوك التجارية أو شبكات بطاقات الائتمان. فتتمّ عمليات التسوية للبائعين على الفور بلا حاجة إلى انتظار المال أو الخوف من الوقوع ضحية في عملية احتيال.
وحظيت الجهود الأمريكية بدفعة إضافية الشهر الماضي، عندما صرّحَت وزيرة الخزانة جانيت يلين بأن مثل هذا المشروع يمكن أن يساعد الأمريكيين الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى النظام المصرفي.
وقد يكون جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، خفّف حدة القلق لدى البنوك عندما قال في تصريحات متلفزة، خلال مؤتمر المدفوعات في مدينة بازل بسويسرا، إن العملات الرقمية لا بد أن تسير جنباً إلى جنب مع النقود والأشكال الأخرى من الأموال.
كما أكد باول أن الأمر يتعلق بضرورة فهم التحديات التكنولوجية وأهمية العملة الرقمية وأن الأمر سيحدث تدريجياً وبلا تسرع. مشيراً إلى أن الاحتياطي الفيدرالي لن يستمر في خططه بلا دعم من الكونغرس بإصدار تشريعات ملائمة.
وقد أعلن كونا أن بنك الاحتياطي في بوسطن بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد أنجزا عدة خطوات مهمة تشمل تطوير برنامجين حاسوبيين. ولم يحدّد ما إذا كان البرنامجان يعملان بنفس التقنية المستخدمة في عملة بتكوين وغيرها من العملات المشفرة، واكتفى بقوله إن المعاملات بالدولار الرقمي سوف تكون خاضعة للرقابة.
كما أكد أن مسؤولية الاحتياطي الفيدرالي هي عرض ما هو ممكن دون اتخاذ مواقف في ما يخصّ القضايا الرئيسية التي تُعَدّ من اختصاص وزارة الخزانة والكونغرس، فهما يحددان سبل حماية حسابات العملاء والحفاظ على سريتها وإخفاء الهوية وغيرها من الضمانات التي ينالها العميل ضد المعاملات الخاطئة أو المخترقة.
وأضاف: "ينبغي أن لا يستمرّ الجدل بين مؤيدي الدولار الرقمي ومعارضيه، لأن إدخاله بات ضرورياً، ويجب أن يعي المسؤولون في صناعة الخدمات المالية هذا الأمر".
ويمكن القول إن احتمال إقصاء الاحتياطي الفيدرالي للبنوك عن دورها الوسيط في نظام المدفوعات المربح في الولايات المتحدة أمر يثير مخاوف البنوك.
وتأتي هذه الخطوة بتشجيع من السيناتور الديمقراطي عن ولاية أوهايو، شيرود براون، الرئيس الجديد للجنة المصرفية بمجلس الشيوخ، الذي يحثّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي على التحرك سريعاً لإنشاء حسابات بالعملة الرقمية للأمريكيين الذين لا يستطيعون الوصول بسهولة إلى الجهاز المصرفي، مما يضطرّهم إلى التعامل مع شركات تُقرِضهم بأسعار فائدة مرتفعة. وخطة براون هذه ربما تهدّد الودائع التي تعتمد عليها البنوك التجارية في الرهن العقاري وأنواع القروض الأخرى.
ومن جانبه قال ستيف كينيلي، نائب رئيس اتحاد البنوك الأمريكية، إن "التسرع في أي شيء بهذا الحجم المحتمَل يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير مقصودة تهدّد استقرار النظام المصرفي بلا مساهمة بشكل مفيد في الشمول الاقتصادي".
وسبق أن وصف الاتحاد العام الماضي في تقرير للكونغرس، الدولار الرقمي بأنه حلّ مكلّف في البحث عن مشكلة غير موجودة.
وقال عضوان من أعضاء جماعات الضغط في أحد البنوك الكبرى إنهما على اتصال مع أعضاء الكونغرس لمتابعة المشكلة، وأضاف العضوان أنهما يتوقعان زيادة الضغط بمجرد أن ترى البنوك نتائج سياسة احتياطي الفيدرالي على أرض الواقع ومدى تأثير ذلك فيها.
مسمار في نعش بتكوين
وقد اكتسب الاهتمام بالعملة الرقمية زخماً جزئياً لأن عديداً من البنوك يستغرق أياماً لمنح المستهلكين إمكانية الوصول إلى الشيكات المودعة في حساباتهم، وبعضها يفرض رسوماً قاسية على السحب على المكشوف. وفي بعض الأحيان يُضطرّ من لا يملكون حسابات مصرفية إلى دفع رسوم عالية لصرف شيكات الرواتب أو تحويل الأموال إلى الأقارب.
وقد يتأثر بعض أرباح شركات بطاقات الائتمان، مثل "فيزا" و"ماستر كارد"، إذا ما سمحت العملات الجديدة للأمريكيين بإجراء المعاملات بسهولة أكبر بعيداً عن مشاركتها ورسومها.
ويقول المتحدثون الرسميون من الشركتين إن شركاتهم تعمل مع البنوك المركزية لضمان تشغيل العملات الجديدة عبر شبكاتهم. وفي فبراير الماضي بدأت "ماستر كارد" إصدار بطاقات خصم مسبقة الدفع تستخدم الـ"ساند دولار" (Sand Dollar)، وهي عملة رقمية تصدرها جزر الباهاما.
وقال أوليفر جينكين، رئيس شركة "فيزا" في أمريكا الشمالية، في مؤتمر "مورجان ستانلي" الذي عُقد في بداية شهر مارس الماضي: "إننا نُجري محادثات مكثفة مع البنوك المركزية عندما تفكّر في تصميم عملة رقمية محتمَلة للبنك المركزي، ونتحدث معها حول كيفية تفكيرها في شكل العملة وتصميمها، لذلك يجري كثير من الحديث، ولكن إلى جانبه كثير من العمل أيضاً".
وفعلت دول أخرى المثل، إذ تجرّب الصين حالياً اليوان الرقمي في عدة مدن، وأوضح ليبسكي أن لدى الصين فرصة أن تظهر عملتها الرقمية لأول مرة على نطاق أوسع في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 في بكين، التي قال إنها قد تسبب توترات إذا طُلب من الرياضيين الأمريكيين استخدام عملة يمكن للحكومة الصينية تتبعها بالكامل.
وفي شهر مارس الماضي أرسل شيرود براون رسالة إلى رئيس الاحتياطي الفيدرالي، يحثه فيها على تسريع البحث، وكتب براون في رسالته: "لا يمكننا أن نتخلف عن الركب".
ومن بين التهديدات الأخرى، أشار براون إلى تطوير شركة "فيسبوك" وشركات أخرى عملتها المشفرة، التي كانت سُمّيَت سابقاً "ليبرا"، وأعيد تسميتها باسم "ديم"، وقد كان من المقرر إطلاقها في عام 2020، إلا أنها واجهت صعوبة في الحصول على موافقة الجهات التنظيمية.
ويعبّر المدافعون عن العملات المشفرة الحالية، مثل بتكوين، عن آراء متعارضة حول اعتزام الاحتياطي الفيدرالي إصدار الدولار الرقمي.
فمن جانبه قال جيري بريتو، رئيس مركز العملة "كوين سنتر"، وهي جماعة تدافع عن العملة المشفرة، إن عملة الاحتياطي الفيدرالي المرتقبة "فيدكوين" يمكن أن تجعل الأمريكيين يتأقلمون مع شراء بتكوين. ولكن اعتماداً على توجيهات الحكومة، يمكن استخدام مثل هذه العملة لتتبع إنفاق الأمريكيين، مما يؤدّي إلى الكشف عن هوية المتعامل ليفقد بذلك أهمّ مزايا العملات المشفرة.
وأضاف بريتو أن الدولار الرقمي الأمريكي يمكن أن يضع المسمار الأخير في نعش بتكوين كوسيلة للتبادل. وقد بدأ عشاق العملات المشفرة بالفعل الاعتراف بحدوث ذلك على أي حال، وبدلاً من ذلك يروّجون للعملة على أنها مخزون ذو قيمة أو يطلقون عليها "الذهب الرقمي"، بعدما تأكدوا من صعوبة استخدامها للتبادل.