بلومبرغ
تحوّل الرئيس الأميركي جو بايدن في يوليو من أكبر أعباء الحزب الديمقراطي ليصبح أعظم أبطاله. وقد كاد تهديد تمسكه بمنصبه لأطول مما ينبغي أن يودي بكل ما حصده من تقدير واحترام على مدى خمسين عاماً قضاها في خدمة الشعب الأميركي. مع انسحابه من السباق الرئاسي، أعاد طرح نفسه بين ليلة وضحاها أمثولةً للوطنية، وقال في خطاب في البيت الأبيض: "أقدّر كثيراً هذا المنصب، لكن حبي لوطني أكبر".
يقدم هذه الحدث مثالاً على أحد أصعب الإشكاليات التي تصاحب السلطة، وهي إدراك متى يجب التخلي عنها. قد يتطلب بلوغ القمة عقوداً من التضحيات، وفي حالة بايدن كانت تلك القمة بلوغه البيت الأبيض ثلاث مرات إحداها كرئيس ومرتين نائباً للرئيس. إن التنحي باكراً ربما يولد لدى المرء شعوراً عميقاً بالندم بشأن ما لم يتمكن من إنجازه، فيما أن البقاء أكثر من اللازم يهدد بتدمير كل الإرث الذي بناه بشق الأنفس.
الالتزام بالمهل للتقاعد
إن فن إدراك الوقت المناسب للتنحي في عالم الأعمال يُمارس براحة وسرية خلف جدران قاعات الاجتماعات ومكاتب كبار المسؤولين، وهو قرار يُتخذ بمشورة مساعدين وأشخاص مقربين موثوقين. لكن الوضع في واشنطن مختلف.
لقد شكل قرار بايدن أهم مثال حول تجليات مثل هذه الحسابات، وأكثرها علنية في الذاكرة الحديثة. وهو تذكير لنا بأن من يصلون إلى القمة بفضل تاريخهم الحافل بقرارات صعبة، غالباً ما يرتكبون أخطاء حين يتعلق الأمر بتحديد فترة بقائهم في مناصبهم.
يقع الخطأ الأول على صعيد الخلافة حين يتمسك القائد بمنصبه لمدة تتجاوز تلك التي حددها لنفسه. خلال حملة بايدن الانتخابية عام 2020، سوّق مساعدوه في وسائل الإعلام أنه سيكون رئيساً لدورة واحدة فقط. وقالوا في مقابلة مع "بوليتيكو" إنه "يكاد يستحيل أن يترشح لإعادة انتخابه عام 2024، بما أنه سيكون في حينها أول رئيس في الثمانينيات من عمره". ولكن ذلك لم يحصل، ولا ندري ما الذي تغير لدفع بايدن للاعتقاد بأنه قادر على البقاء في منصبه لأربع سنوات إضافية، ولكننا متأكدون أنه كان الأجدى به أن يلتزم بحدسه الأول.
تحديد تاريخ علني للتقاعد ليس بمشكلة، حتى أن البعض يرون في ذلك مناورة تعبّر عن القوة. قال بيل جورج، الزميل التنفيذي في كلية الأعمال في جامعة هارفرد والرئيس التنفيذي السابق لـ"ميدترونيك" (Medtronic): "يحدد الرئيس التنفيذي المحنّك المهلة النهائية التي يريدها... فلا يجب أن ينتظر حتى إزاحته". لكن حين يحدد هذه المهلة ولا يلتزم بها، فإن ذلك قد يسبب إحباطاً لمن ينتظرون لخلافته، ما يدفعهم للبحث عن فرص في أماكن أخرى.
تمسك "ديزني" برئيسها التنفيذي
في "والت ديزني"، مدّد بوب إيغر عقده عدة مرات خلال الفترة الأولى التي شغل فيها منصب الرئيس التنفيذي للشركة، لدرجة أن الأمر تحول إلى ما يشبه دعابة. حتى أنه حين أبلغ المستثمرين عام 2019 بقراره مغادرة منصبه خلال سنتين قال: "كنت أرغب في إخباركم أنني هذه المرة أعني ما أقوله، ولكنني سبق أن قلت ذلك".
إلا أن هذه الدعابة لم تستجر ضحك كثير من المديرين التنفيذيين الذين كانوا ينتظرون دورهم لخلافته. وبحلول الوقت الذي أصبح فيه إيغر جاهزاً للتنحي، لم يتبق لدى مجلس الإدارة مسؤولين جيدين بما يكفي لخلافته. إذ إن بوب شابيك الذي اختاره إيغر بنفسه لخلافته، لم يصمد في المنصب أكثر من سنتين، ثم أُقيل على خلفية سلسلة أخطاء فادحة، استرجع إيغر بعدها منصبه، وقال حينها إنه سيبقى في المنصب لسنتين فقط، معتبراً أنها مدة كافية لتصحيح وضع الشركة. ولكن لم يكن مفاجئاً لأحد حين عاد ومدّد عقده حتى 2026.
قرر مجلس إدارة "ديزني" تمديد عقد إيغر مجدداً لعدة أسباب، منها حاجة أعضائه لمزيد من الوقت للعثور على بديل، وهي مشكلة كانوا قد أوقعوا أنفسهم بها. صحيح أن إدارة شركة مثل "ديزني" أمر معقد، وتتطلب قائداً قادراً على صحبة نجوم هوليوود وأيضاً القيام برهانات ناجحة بمليارات الدولارات في ظل التحولات السريعة التي تشهدها صناعة الإعلام والترفيه، إلا أن المشكلة الأكبر حالياً ناجمة عن المخاوف التي تنتاب المرشحين أصحاب المؤهلات العالية من ظل إيغر المخيم على الشركة، ورفضه الظاهر للتقاعد. هذا إلى جانب النزعة الفورية لمجلس الإدارة للاستعانة به كلما ساءت الأمور.
تواجه شركة "ستاربكس" وضعاً مشابهاً، حيث عمدت مرتين لإعادة تعيين رئيسها التنفيذي المخضرم هاورد شولتز حين واجهت مطبات صعبة. نزعة شولتز للتدخل في مسائل الشركة، من ضمنها مقال حديث نشره على "لينكد إن" انتقد فيه الرئيس التنفيذي الحالي ومجلس الإدارة، ربما جعلت استبداله صعباً من البداية.
عدم الثقة بالخلف
تؤشر عودة شولتز وإيغر لمنصبيهما إلى اعتقادهما وقناعة مجلسي إدارتي شركتيهما بأنهما وحدهما يستطيعان تولي المهمة. كانت شركات أخرى مثل "بوينغ" و"كاتربيلر" (Caterpillar) و"تارغيت" (Target) أوحت برسائل مماثلة عندما ألغت العمر القسري للتقاعد أو رفعته أو تخلت عنه، ليبقى رؤساؤها التنفيذيون في مناصبهم.
إلا أن مثل هذه الخطوة عادة ما تصيب نخبة الموظفين بالإحباط، لأنها توحي بأن من سواهم يعجزون عن تولي المسؤولية. وهو الخطأ نفسه الذي وقع فيه بايدن عندما اعتبر أن عليه البقاء في السباق الرئاسي لأنه الأقدر على هزيمة دونالد ترمب، فضلاً عن تمتعه بالخبرة اللازمة لقيادة البلاد في هذا الوقت العصيب. وهذا ما يطرح السؤال الضمني حول سبب عدم اعتقاده أن نائبته كمالا هاريس التي عاد ليختارها بنفسه لخلافته، كانت لديها من الأساس المؤهلات المطلوبة للتقدم بترشيحها.
لكن أداء بايدن الكارثي في المناظرة الرئاسية في 27 يونيو أثبت أمراً يصعب على القادة المسنين الاعتراف به، وهو أن الأداء يتدهور بالفعل مع التقدم بالعمر.
ومع أن لكل قاعدة استثناء (مثل وارن بافيت)، فقد خلصت دراسة نُشرت في 2016 في "جورنال أوف أيمبريكال فاينانس" (Journal of Empirical Finance) إلى أنه كلما تقدم الرئيس التنفيذي سنة واحدة في العمر، انخفضت قيمة حقوق المساهمين بنسبة 0.34% في شركات مؤشر "إس آند بي 1500"، وهي ظاهرة مدفوعة بالأغلب برؤساء تنفيذيين يتجاوزون 68 سنة.
أما الشركات التي يقودها رؤساء شباب (أدنى من 42 عاماً) فقد حققت أرباحاً سنوية أفضل بنسبة 2.31% بالمقارنة مع الشركات التي يقودها الأشخاص الأكبر سناً. (أخذ الباحثون في عين الاعتبار مدة شغل المنصب وواقع أن الرؤساء الشباب تجذبهم الشركات الأسرع نمواً).
إلى جانب الحضور الذهني، نجد أن للسلوك تأثيره أيضاً. قال براندون كلاين، البروفيسور في الشؤون المالية في كلية الأعمال في جامعة ولاية ميسيسيبي، الذي شارك في إعداد الدراسة: "ما يحصل عادة هو أن الرؤساء الأكبر سناً يولون اهتماماً أكبر لحماية إرثهم ويبتعدون عن المخاطرة".
دور المقربين من الرئيس
نظرت دراسة كلاين في سياسات تحديد سن تقاعد قسري لأعضاء مجالس الإدارة التي اعتمدتها 41% من الشركات على مؤشر "إس آند بي 1500"، فيما لم تُطبق إلا 19% منها هذه السياسة على الرؤساء التنفيذيين. في البداية، ظن كلاين وشريكه آدم يور من كلية "ترولاسك" للأعمال في جامعة ميسوري أن المساهمين استخدموا هذه السياسات ليجبروا الرئيس التنفيذي القديم الذي يتراجع أداؤه على الرحيل.
لكن المقارنة بين الشركات التي اقترب رؤساؤها من سن التقاعد، أظهرت أن عمر الرئيس يؤثر سلباً على الأداء حصراً في الشركات التي لم تضع سياسات قسرية للتقاعد. تعليقاً على ذلك، قال كلاين: "من حيث الجوهر، تلك أدوات فعّالة... يزول التأثير السلبي للسن في الشركات التي بها سياسة قسرية للتقاعد".
أما سبب السماح للرؤساء بالبقاء في السلطة رغم تردي أدائهم، فيُعزى إلى دائرتهم المقربة. فبعض الرؤساء يحيطون أنفسهم بأشخاص يمنعون عنهم الأنباء السيئة ولا يقولون لهم إلا ما يريدون سماعه. يقال إن مساعدي بايدن الأقرب قد حدّوا من الوصول إليه بقدر كبير لدرجة أن أداءه في المناظرة فاجأ حتى بعضاً من العاملين في البيت الأبيض.
في المقابل، يميل الكونغرس إلى ضم ممثلين أكبر سناً لأنه يكافئ الأقدمية، وهذا ما يحفّز المتقدمين في السن على البقاء. يعتمد الحزب الديمقراطي مثلاً على مدة شغل المنصب لتعيين رؤساء اللجان وتسمية رؤساء المجلس. (أما الجمهوريون في مجلس النواب فلا يبقون طويلاً لأن الحزب يحدد مدة شغل هذه الأدوار).
والأمر كذلك في عالم الأعمال الذي يظهر الاحترام للسن، باستثناء وادي السيليكون حيث يسير الشباب يداً بيد مع الابتكار. ولا يخلو هذا الأمر طبعاً من تعقيداته الخاصة، مثل هيمنة الثقافة الذكورية السامة. ولعل الأحرى بالشركات الكبرى في أميركا ومراكز الحكم في واشنطن أن تعطي مزيداً من الصلاحيات لقياداتها في سن الشباب، حتى لا يصعب عليهم التخلي عنها عندما يتقدم بهم العمر.