حمى البحث عن اليورانيوم تنطلق مدفوعة بربحية عالية

ارتفع سعر المعدن المشع 233% في دلالة على سرعة عودة العالم إلى الطاقة النووية

time reading iconدقائق القراءة - 23
مشروع \"نيكس جين إنرجي\" قرب بحيرة باترسون في ساسكاتشوان، كندا في 16 أبريل - المصدر: بلومبرغ
مشروع "نيكس جين إنرجي" قرب بحيرة باترسون في ساسكاتشوان، كندا في 16 أبريل - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في الشطر الغربي من مقاطعة ساسكاتشوان الكندية عند شاطئ بحيرة يحيطها عدد يكاد لا يحصى من شجر التنوب الأسود، أُقيم معسكر صغير على أطراف الغابة يجوز وصفه بمشروع التعدين الأكثر جاذبية في العالم حالياً. موقعه موحش ووعر وتعصف به رياح قوية برودتها تنخر العظام ليلاً ونهاراً، ويكسو البحيرة التي تجاوره جليد يعلوه ثلج ما يزال متصلباً رغم دخول شهر أبريل.

لن تجد في محيطه أي قرية أو بلدة على مسافة 80 كيلومتراً أينما اتجهت، ويكاد ينعدم أي أثر للحياة هناك باستثناء احتمال ظهور دبّ أسود أو ذئب بين حين وآخر. لكن ما تملكه ساسكاتشوان هو كميات هائلة من اليورانيوم. إذ يٌعتقد أن القاعدة الصخرية ضمن المنطقة الواقعة في جانب واحد فقط من البحيرة تحتوي على كمية يورانيوم تكفي لتوليد طاقة نووية تمدّ أكثر من 40 مليون منزل بالكهرباء لربع قرن.

ارتفاع الطلب

في أحد جنبات المعسكر تجد عينات من المكامن وقد صُفّت بعناية، وتبدو كقضبان سوداء صغيرة نشطة إشعاعياً. ارتدى الخبير الجيولوجي آدم إنغادهل الذي يعمل لدى شركة التعدين الناشئة "نكسجن إنرجي" (NexGen Energy) قفازاته الواقية، وحمل إحدى تلك العينات، مبتسماً، وقال: "هذه المفضلة لديّ"، ثمّ راح يعرضها أمام الحاضرين متباهياً. المفاجئ أن العيّنات ليست خفيفةً بل كانت أشبه بأثقال التمرين الحديدية، وشرح إنغادهل أن هذا مؤشر إلى أنها تختزن كميات ضخمة من اليورانيوم.

لم تجذب هذه المخزونات اهتمام أحد لفترة طويلة جداً، على الأقل منذ كارثة فوكوشيما النووية عام 2011 حين تجددت المخاوف من الطاقة النووية، أمّا اليورانيوم، وهو الوقود الدقيق والفتاك الذي يغذّي المفاعلات، فسقط في غياهب نسيان سوق السلع العالمية.

لكن مع تفاقم التغير المناخي وتوجّه الحكومات حول العالم مجدداً نحو الإنتاج الثابت للكهرباء غير المسبب لانبعاثات كربونية بواسطة المفاعلات النووية، ازداد الاهتمام بمكامن اليورانيوم.

بدأ الطلب بطيئاً ثمّ تسارع بوتيرة محمومة، إثر حرب الرئيس الروسي فلادمير بوتين على أوكرانيا. فجأة، أصبح معظم العالم بحاجة لبديل عن مصادر الطاقة الروسية، واليوم هناك 61 محطة نووية قيد الإنشاء حول العالم، فيما لا تزال 90 محطة أخرى في مرحلة التخطيط، وأُجّل العمل على بناء 300 محطة إضافية. كما تُبذل جهود باتجاه إعادة فتح محطات نووية قديمة بعد سنوات من الإغلاق.

تحليق الأسعار

إن الارتفاع الصاروخي في أسعار اليورانيوم دليل على حجم وسرعة هذا التحول نحو الطاقة النووية. فقد ارتفع سعر هذا المعدن 233% خلال السنوات الخمس الماضية، بواقع ثلاثة أضعاف ارتفاعات مكاسب الذهب والنحاس، بعد انخفاض بسيط في 2024.

طالت حمى اليورانيوم سوق الأسهم أيضاً، حيث يقبل المتداولون على شراء أسهم شركات اليورانيوم، رافعين أسعارها بشكل جنوني. فقد ارتفعت قيمة العديد من شركات التعدين في كندا بنسبة تتجاوز 400% خلال السنوات الأربع الماضية، وتقدّر القيمة السوقية لـ "نكسجن" حالياً بنحو 4 مليارات دولار، على الرغم من أنها لم تبع بعد أي كيلوغرام من اليورانيوم، ولا تتوقع أن تبدأ ببيعه قبل 2028 على الأقل. جذب القطاع أيضاً بعض أبرز الأسماء في عالم المال، من أمثال لي كا شينغ وستيفن كوهن وستان دروكينميلر وغيرهم.

خطر انهيار السوق

لكن خطر الانهيار يبقى وارداً في أي لحظة، وهو ما حدث عدّة مرّات في ما مضى. على بعد نحو 200 كيلومتر شمال معسكر "نكسجن"، تقبع يورانيوم سيتي شاهدة على هذا الواقع. فالبلدة التي سكنها يوماً مجتمع نابض بالحياة عاش على أعمال التعدين، تحولت اليوم إلى مدينة أشباح، ووفقاً لآخر مسح لدائرة الإحصاء الكندية، بلغ عدد قاطنيها 91 شخصاً فقط.

يكفي حصول حادث قاتل آخر لامتحان متانة الحماسة المستجدة تجاه الطاقة النووية. حتى إن تجنّب العالم كارثة نووية أخرى، فإن مسألة تخزين المواد المشعة وكيفية التعامل معها تبقى قضية شائكة تهدد أي مبادرة لبناء عدد من المفاعلات النووية.

حتى في كندا، التي قد تصبح قريباً أكبر منتج لليورانيوم في العالم، ما تزال الطاقة النووية تواجه بعض الرفض. إذ تحظر مقاطعة بريتيش كولومبيا، الغنية بالموارد الطبيعية مثل ساسكاتشوان، استخراج اليورانيوم وبناء المحطات النووية.

لكن عموماً، يبدي القادة الكنديون ترحيبهم بالطاقة النووية. حتى أن رئيس الوزراء جاستن ترودو أدرج استخراج اليورانيوم كعنصر رئيسي في خطة البلاد للحياد الكربوني، وتلك مفارقة لافتة بما أنه تعهد لدى انتخابه منذ عقد بالحدّ من اعتماد اقتصاد البلاد على استخراج السلع وما يرافقه من تقلبات حادة.

إقبال المستثمرين

إن خطر انهيار قطاع اليورانيوم مستبعد في الوقت الحالي. وكان مديرو شركات تعدين اليورانيوم قد خطفوا الأضواء في الاجتماع المحوري السنوي لقطاع التعدين الذي أقيم قرب ميامي في فبراير. إذ لم يبد المستثمرون والمصرفيون أكثر من اهتمام عابر حين تحدث مديرو شركات استخراج الذهب والليثيوم في قاعات تكاد تخلو من الجمهور في منتجع "ديبلومات بيتش" (Diplomat Beach Resort)، فيما اكتظت الصالة بالحضور كلّما اعتلى المنبر مدير تنفيذي من قطاع اليورانيوم.

كان ذلك مرهقاً قليلاً بالنسبة لمدير "نكسجن" التجاري ترافيس ماكفرسون، الذي تهافت عليه المستثمرون لطلب لقاءات خاصة معه، لدرجة أنه ظلّ يتنقل من اجتماع إلى آخر طوال يومين. وقد عقد في الإجمال 60 اجتماعاً خاصاً، وأبلغه منظمو المؤتمر أنه ربما سجل رقماً قياسياً. قال ماكفرسون: "كنّا نمازحهم قائلين إننا قبل أربع سنوات ربما سجّلنا الرقم القياسي لأقلّ عدد من الاجتماعات".

بديل عن الإمدادات الروسية

يعزى جزء كبير من جاذبية قطاع اليورانيوم إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب، فالطلب على المعدن في كلّ من الصين والهند واليابان والولايات المتحدة وأوروبا يرتفع بوتيرة تفوق بشدة قدرة شركات التعدين على استخراج اليورانيوم من الأرض.

وفقاً لتقديرات تريفا كلينبيغل، رئيسة شركة "تريد تايك" (TradeTech) المزودة للبيانات في القطاع، يمكن أن يتجاوز الطلب العرض بأكثر من 45 ألف طن سنوياً طيلة ثلاثينيات هذا العقد.

قال مايك ألكين، مسؤول الاستثمارات في شركة "ساشيم كوف بارتنرز" (Sachem Cove Partners) قرب مدينة نيويورك المتخصصة حصراً في الاستثمار في أسهم اليورانيوم وشركات تعدينه، إنه "ليس أمامك بدائل حين تمتلك مفاعلاً نووياً".

تفاقم عزلة روسيا من نقص إمدادات اليورانيوم. فإلى جانب تهافت الدول الأوروبية على مصادر وقود بديلة للغاز الطبيعي الروسي الذي كان يغذّي كثيراً من محطاتها الكهربائية، فإن تلك الدول ومعها أغلب العالم كانت تعتمد أيضاً على روسيا كمصدر لليورانيوم الخام والمخصّب. ومع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثالث، اتخذت دول عدة خطوات للحصول على هذا المعدن من مصادر بديلة، حتى أن الولايات المتحدة حظرت استيراد اليورانيوم من روسيا تماماً.

وقد شبّه ألكين الفجوة بين العرض والطلب بـ"قطار لا يمكن إيقافه".

منطقة متخمة باليورانيوم

تتناثر مكامن اليورانيوم في أرجاء شتى من الأرض، من كازخستان وهي حالياً أكبر منتج لليورانيوم في العالم إلى جنوب أفريقيا. لكن قلّة من تلك الأراضي غنية بالمعدن بقدر حوض أثاباسكا في ساسكاتشوان.

أنشأت "نكسجن" معسكرها في ذلك المكان عند ضفة بحيرة باترسون، فيما بدأت الشركات المنافسة تتوافد إلى هناك أيضاً. فعلى بعد بضعة كيلومترات لناحية الغرب، شركة "فيشن يورانيوم" (Fission Uranium) على وشك بدء العمل على مشروعها الخاص، فيما بدأت شركة "أف 3 يورانيوم" (F3 Uranium) الاستكشاف صوب الشرق. وفي مكان أبعد شرقاً، بدأت كلّ من "دينيسون ماينز" (Denison Mines) و"أورانو كندا" (Orano Canada) وشركة "كاميكو" (Cameco)، التي تشغّل منجم اليورانيوم الأكثر غزارة إنتاجياً حالياً، في العمل على إنشاء مشاريع جديدة أو زيادة السعة الإنتاجية للمناجم القائمة اليوم أو إعادة فتح مناجم أغلقتها في السابق.

إن باطن الأرض هناك متخم باليورانيوم لدرجة أن بعض المناجم، ومنها منجم "نكسجن"، تضطر لتخفيف تركيز المعدن قبل بيعه. وتعزى هذه النقاوة إلى تكوينات أرضية بدأت قبل مليار سنة، حيث تسببت التآكلات بفجوة بين طبقات الصخور تحت الأرض التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، فتكونت تجمعات كثيفة من اليورانيوم.

يصف مؤسس "نكسجن" ورئيسها التنفيذي لاي كوريير موقع منجمه وحوض أثاباسكا بأنه "استثنائي"، بينما يفضل أوريسن ووكوداو، المحلل المتخصص بقطاع التعدين في مصرف "سكوتيابنك" (Scotiabank)، استخدام مصطلح "يونيكورن" في وصفه، وبحسب تقديراته، فإن منجم "نكسجن" سيسهم بنسبة 13% من إجمالي الإمدادات العالمية من اليورانيوم.

العثور على الكنز

الاسترالي كوريير، 52 عاماً، متخصص في المحاسبة أساساً. وكان يعمل لدى شركة ملكية خاصة في لندن في 2010 حين أثار حوض أثاباسكا اهتمامه، فقد كان مكلّفاً حينها بتقييم مشاريع اليورانيوم في عدّة أماكن حول العالم، وأقنعه أحد الجيولوجيين الذين التقاهم بأن النصف الغربي للحوض يختزن إمكانيات هائلة. وأخبره بأنه يشتبه في أن الكثير من المكامن عالية الجودة لم تُستغل بعد.

كان هذا الرأي مخالفاً تماماً للاعتقاد السائد حينها، فمعظم الخبراء كانوا متفقين على أن الكمية الأكبر من المعدن استُخرجت في إحدى جولات ازدهار اليورانيوم السابقة. ولكن ذلك لم يردع كوريير. وبعد أن أسفرت كارثة فوكوشيما عن انهيار أسعار اليورانيوم، جمع عدداً من المستثمرين لشراء أرض وحقوق تعدين قرب بحيرة باترسون بسعر زهيد، يعادل 3 ملايين دولار فقط، ثمّ انطلقت أعمال الحفر في 2013.

وصفه المنقبون في ساسكاتشوان بالمجنون. وقال كوريير: "كانوا يهزأون بنا"، ويسألون "لماذا تذهبون إلى هناك؟"، وقالوا له إنه "في أفضل الأحوال فإن ذلك الموقع مكمن صغير ومبعثر".

بعد 10 أشهر على المشروع، بدا أن المنتقدين ربما كانوا على حق. فقد نشرت "نكسجن" 20 آلة حفر في الموقع دون أن تحقق نتيجة تذكر، وبدأ كوريير بالقلق.

استخراج اليورانيوم عملية شائكة، فيمكن لآلات أن تحفر على بعد خمسة أمتار فقط من مكان تجمّع المعدن دون أن تكتشفه، وكثير من المنقبين ينفد مالهم قبل العثور على مكامن مجدية.

هكذا، استمرّ فريق "نيكس جين" في إنفاق الأموال بلا جدوى إلى أن جاء يوم شتوي قارس البرودة في 2014 إبان المحاولة 21، ليجلب اللحظة التي كان ينتظرها كوريير، فقد تبيّن أن العينة المستخرجة تحتوي على كميات عالية جداً من اليورانيوم. وفي محاولة الحفر رقم 30، عثروا على الكنز.

معسكر نشط

تحوّل محيط بحيرة باترسون اليوم إلى ما يشبه خلية نحل، إذ يضم المعسكر نحو 25 خيمة مزوّدة بالتدفئة ونادياً رياضياً ومقصفاً ومكاتب قابلة للنقل ومختبرات جيولوجية. يفحص العمّال هناك عيّنات اليورانيوم ويراجعون خرائط بناء المناجم. وفي الفترات التي يخفّ فيها العمل، يحفرون كوّة في الجليد ليصيدوا أسماك الكراكي والسلمون المرقط.

ما زال كرويير يجد صعوبة في تصديق أنه المسؤول عمّا سيصبح أكبر منجم لإنتاج اليورانيوم في العالم إذا سارت الأمور وفق المخطط. يتذكر كيف كان المستثمرون يهزؤون به حتى بعد أن أكدت عمليات الحفر وجود كميات هائلة من اليورانيوم تحت البحيرة. فكانوا يقولون له: "كيف تشعر وأنت تمتلك أفضل اكتشاف في العالم في ظلّ أسوأ سوق؟".

يأمل كوريير أن يحصل على التصريح النهائي الذي يحتاجه من أجل بناء المنجم بحلول نهاية العام، أو في بداية 2025 على الأكثر. وهو مستعد لبدء الحفر في الأسبوع التالي مباشرة.

تصنيفات

قصص قد تهمك