شركات الأغذية تأمل بعدم ملاحظة ارتفاع الأسعار إثر نقص المواد

في ظلّ التغير المناخي والنزاعات الجيوسياسية واختناقات سلاسل الإمداد، على المستهلكين أن يعتادوا على ضريبة تقلب الإمدادات

time reading iconدقائق القراءة - 10
صورة تعبيرية لمساعي تعويض النقص في بعض الأصناف الغذائية من مصادر أخرى - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية لمساعي تعويض النقص في بعض الأصناف الغذائية من مصادر أخرى - المصدر: بلومبرغ
بقلم: Deena Shanker
المصدر:بلومبرغ

كيف سيكون المطبخ الفرنسي إن غاب عنه جبن كممبير؟ يصعب تخيّل ذلك، لأن أقراص الجبن الطري برائحته المميزة لطالما كانت طبقاً مميزاً في أي حفل عشاء باريسي. كانت "سي إن إن" من أثارت هذا التساؤل في خبر لها في مارس، ينذر بأن هذا الجبن يواجه خطر "الانقراض".

نقلت أن علماء حذّروا من أن الفطر المستخدم لصناعة هذا النوع من الجبن على وشك النفاد، وأن ذلك يهدد إنتاجه. لكن تبيّن لاحقاً أن هذا الخبر أثار زوبعةً بلا سبب، فلم يبد رئيس رابطة صنّاع الجبنة في فرنسا قلقاً حيال ذلك، حتى أنه لم يكن قد سمع عن أي مشاكل جدية تهدد الفطر.

كما أن تاتيانا غيرود، وهي من الباحثين الذين أعدوا الدراسة، أقرّت بأن الجبن الشهير لن يغادرنا، وقالت في مقابلة مع "سي إن إن"، إن "إنتاج جبن كممبير لا يواجه خطراً على المدى المنظور".

ربما كان خبر جبن الكممبير مغلوطاً، لكنه بدا منطقياً، إذ سمعنا على مرّ 12 شهراً مضت تحذيرات بشأن نقص في الخوخ والأفوكادو واللحم البقري، وفي كل هذه الأحوال كان إنتاج المزارع من مواد غذائية معيّنة ينخفض، لكن لم يواجه المتسوقون الأميركيون صعوبة في الحصول على أي من هذه المنتجات، إذ بذلت الشركات جهوداً حثيثة كي لا يلاحظ المستهلكون النقص.

الغذاء على أرضية هشّة

إن امداداتنا الغذائية اليوم على أرضية هشّة، في ظلّ تقاطع عدّة أحداث لم تكن في الحسبان، من تفاقم التغير المناخي إلى النزاعات الجيوسياسية والوباء والحروب واختناقات سلاسل الإمداد والنقص الكبير في اليد العاملة. وبرغم انحسار الوباء، والتحسّن الملحوظ في سلاسل الإمداد، ما يزال مستبعداً أن تنتهي هذه الفوضى عمّا قريب.

بيّن باوان جوشي، خبير سلاسل الإمداد في شركة البرمجة "إي 2 أوبن" (E2open)، أن الأميركيين باتوا أكثر اعتماداً على أرجاء المعمورة في الحصول على الغذاء بما يفوق أي وقت مضى، وقد تغيرت طبيعة المطبخ الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، حين ازداد طول سلاسل الإمداد وتطورت وسائل النقل وتقدمت تقنيات الإنتاج الغذائي، ويا للعجب، بات بإمكان سكان نيويورك العثور على الهليون في متاجر البقالة خلال الشتاء.

اعتاد معظمنا على اعتبار هذه الأمور من المسلّمات، فلم نلاحظ مثلاً حين حرمت حرب الرئيس دونالد ترمب مع الصين مزارعي فول الصويا من إحدى أفضل أسواقهم. إلا أن هشاشة الإمدادات الغذائية لم تخف على أحد خلال فترة وباء كورونا. فتفشي الفيروس في مصانع اللحوم أجبر المتاجر على تحديد كمية المنتجات التي يُمكن للمستهلك شراؤها، فيما امتدت الطوابير أمام بنوك الطعام لأميال، واحتج المزارعون حول العالم، فأراقوا الحليب وكسّروا البيض وتركوا الفاكهة لتتعفن على الأغصان. بحلول أغسطس 2021، أصبحنا نجد أن رفوف المتاجر كثيراً ما تخلو من المنتجات.

مرحلة من التقلبات

واجهت شركات الأطعمة المغلّفة مشاكل جمّة في سلاسل الإمداد بسبب الوباء، ولكن ذلك كان أيضاً نتيجةً للحرب الروسية الأوكرانية. كانت شركات مثل "هوستيس" (Hostess) و"جنرال ميلز" (General Mills) و"كوناغرا براندز" (Conagra Brands) و"مونديليز انترناشونال" (Mondelēz International) تذمرت خلال اتصالات مناقشة الأرباح في 2022 من الشحّ في المكوّنات التي تستخدمها في منتجاتها، بحسب ما أورده موقع "سوبلاي تشين دايف" (Supply Chain Dive)، الذي أشار إلى أن التركيز الرئيسي كان على الحبوب والزيوت النباتية التي تعدّ أوكرانيا من أكبر منتجيها.

كما ألحق تغير المناخ ضرراً بالإمدادات، ففي ذلك الصيف، قضى الجفاف على محصول حبوب الخردل في كندا، لدرجة أن المتسوقين الفرنسيين لاحظوا غياب خردل "ديجون" عن رفوف المتاجر حتى في منطقة ديجون نفسها.

هذا العام، ارتفعت أسعار الكاكاو إلى معدلات قياسية، نتيجة الشحّ المزمن في المحاصيل بفعل شدة أحوال الطقس وتفشي الأمراض وبسبب الأجور الزهيدة جداً التي يتقاضاها المزارعون العاجزون عن الاستثمار في تحسين أشجار الكاكاو، على الرغم من أنهم يزودون سوق الشوكولاتة العالمية التي تتجاوز قيمتها 100 مليار دولار بالمكوّن الأساسي. كما تسبب شحّ الأمطار في نقص حبوب قهوة روبوستا للعام الرابع، وضربت البرازيل موجة حرّ، ما يعني أن أكبر مورّد لعصير البرتقال في العالم يعاني من أسوأ محصول منذ 36 سنة. يبدو أن الضربات لا تتوقف.

سلمان أمين، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاديس فودز" (Pladis Foods) في لندن التي تنضوي تحتها علامات تجارية مثل "غوديفا" (Godiva) وغيرها من العلامات التجارية للوجبات الخفيفة، قال لي في أبريل: "نحن في حقبة تقلبات"، مشيراً إلى أن شركته واجهت في السنوات الماضية اضطرابات في مستوى توفّر مكوّنات أساسية أخرى غير الشوكولاته، مثل القمح وزيت النخيل والسكر ومشتقات الحليب.

البحث عن مصادر جديدة

لكن بطريقة أو بأخرى، ظلّت هذه المنتجات متوفرة في المتاجر. مثلاً، تفوقت شركة "كرافت هاينز" (Kraft Heinz)، صانعة خردل "غراي بوبون" (Grey Poupon)، على صانعي خردل ديجون الفرنسي بعد أن بحثت في "جميع أنحاء العالم" للعثور على حبوب الخردل التي تحتاجها، بحسب المتحدثة باسم الشركة لينسي إيلف. وقالت: "نتيجة لذلك، لم تسجل (غراي بوبون) أي انقطاع لافت في تقديم خدماتها"، وقد تجنبت "كرافت هاينز" ما قالت إنه "عجز في الأعمال بتكلفة 50 مليون دولار". كما أن الشوكولا والقهوة وعصير البرتقال متوفرة هي الأخرى.

في الولايات المتحدة، ألقى التغير المناخي بثقله على الفاكهة والخضار المفضلة، إلا أن تجار التجزئة يتأقلمون مع تقلبات الطقس غير المتوقعة، وعلى الأرجح لن يلاحظ المستهلكون تغير مصدر المحاصيل. مثلاً، في العام الماضي، قضى فصل الشتاء، الذي شهد دفئاً غير معتاد تلته موجة صقيع متأخرة، على أكثر من 90% من محصول الخوخ في جورجيا، فاتجهت المتاجر لشراء المحاصيل من مصادر أخرى.

عرضت شركة بيع البقالة عبر الإنترنت "فريش دايركت" (FreshDirect)، خوخاً من كاليفورنيا. وقالت الشركة إنه نظراً لارتفاع درجات الحرارة في جورجيا بشكل عام، باتت تبيع المزيد من الحمضيات المستقدمة من هناك، بما في ذلك أصناف من المندرين وبرتقال كارا كارا.

تسببت فيضانات كاليفورنيا في مطلع 2023 برفع أسعار الخس الروماني، إلا أن المشاكل التي كانت طالت هذا الصنف في السابق، من تلوث ببكتيريا الإشريكية القولونية إلى فيروس كورونا، ساعدت من ناحية أخرى في تعزيز الزراعة الداخلية الناشئة. برغم الفيضانات، ما تزال كاليفورنيا تعاني من جفاف مزمن، ما دفع ببعض المزارعين للبحث عن طرق للتكيف مع هذا الواقع. يعمل ستويرت وولف، الرئيس التنفيذي لشركة "وولف فارمينغ أند بروسيسينغ" (Woolf Farming & Processing) على تحويل بعض أراضيه البور، حيث كان يزرع سابقاً اللوز الذي يتطلب كثيراً من الريّ، إلى حقول لصبار الأغاف، وهي نبتة صحراوية تُصنع منها مشروبات مثل التيكيلا والميزكال، وتُزرع عادةً في خاليسكو في المكسيك، حيث تواجه تحديات من نوع آخر أدت أيضاً إلى شحّ في الإنتاج.

خوف لا يكفي لإحداث تغيير

بشكل عام، تُترجم كلّ هذه التقلبات إلى ما أسميه ضريبة تقلبات إمدادات الغذاء. فهي تسهم في ارتفاع أسعار البقالة، لكننا بتنا شبه مخدرين بفعل التضخم، ولا نتأثر بفواتير البقالة المتزايدة. لذا نتجاهل المؤشرات التي يسمعها ويراها بوضوح منتجو الغذاء والشركات والعلماء.

يرى مايكل هوفمان، الأستاذ الفخري في جامعة "كورنيل" المتخصص بتأثير المناخ على الغذاء أن انعدام الأمن الغذائي قد يكون الخطر الذي "ربما" يوقظ العالم تجاه هذا التهديد الوجودي الدولي المشترك، الذي حذرت منه الأمم المتحدة ووزارة الزراعة الأميركية وهيئة السلامة الغذائية الأوروبية وما لا يُعدّ ويُحصى من منظمات أخرى. قال مستشهداً باستطلاع رأي يعود لعام 2022 "حتى الجمهوريين يخشون من تأثير التغير المناخي على طعامهم".

لكن لا تبدو خشيتهم شديدة، فبرغم أن ارتفاع أسعار الغذاء مصدر قلق أساسي، جاء التغير المناخي في المرتبة 18 من أصل 20 بنداً في استطلاع رأي حول أولويات الناخبين أجراه مركز "بيو" في فبراير، وشمل أشخاصاً من مختلف الانتماءات السياسية. وحلّ "التعامل مع التجارة الدولية" في ذيل الأولويات.

أحيي هوفمان على تفانيه في قضيته، فهو يعلّم طلابه ويكتب مقالات الرأي ويخصص وقتاً للحديث مع صحافيين مثلي، لكن فيما أنني أعي أنه محق على الصعيد العلمي، لم أر بعد أن الجمهور عموماً يتعامل مع هذا التهديد لإمداداتنا الغذائية بجدية، بدءاً من الناخبين ووصولاً إلى المسؤولين المنتخبين. أريد أن أؤمن بأن اختفاء بعض أصناف الطعام سيفتح أعيننا على الكارثة المقبلة، ولكن طالما تجد الشركات سبلاً لتوفير كل مأكولاتنا المفضلة، أستبعد حصول ذلك قريباً.

تصنيفات

قصص قد تهمك