تزايد الاعتماد على التقنية يغير شكل البنوك كما نعرفه

كبرى المصارف الأميركية تعد فروعها لاستقطاب العملاء الراغبين في الحصول على خدمات استشارية بدل خدمات سحب وإيداع الأموال

time reading iconدقائق القراءة - 14
أحد فروع مصرف \"تشايس\" في نيويورك - المصدر: بلومبرغ
أحد فروع مصرف "تشايس" في نيويورك - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

لدى إعادة افتتاح فرع مصرف "سيتي بنك" عند تقاطع شارع 64 والجادّة الثالثة في منهاتن في أبريل 2023 بعد تسعة أشهر من أعمال الترميم، كان لافتاً غياب ركن أساسي من أركان تصميم المصارف، وهو كوة الصراف.

بدا الديكور الجديد أشبه ببهو فندق فيه صالة جلوس ومساحات مفتوحة للاجتماعات، إلى جانب مقصورات خشبية شبه مغلقة تشبه أقفاص الطيور شكلاً.

اليوم، يمكن للعملاء أن يستريحوا على كنبات في انتظار مواعيدهم المحجوزة مسبقاً عبر الإنترنت، بدل أن ينتظروا في طوابير خلف حاجز زجاجي، كما يمكنهم أن يتجهوا إلى أحد الموظفين الجالسين خلف ما يشبه مكاتب الاستقبال.

تأتي إعادة التصميم هذه في إطار استراتيجية أوسع، فقد عمل "سيتي غروب" منذ 2017 على تحديث مئات الفروع انسجاماً مع تنامي التركيز على العلاقات مع العملاء والخدمات الاستشارية، بدل صرف الشيكات والتحويلات المالية. إذ تراجع حجم التعاملات عبر الصراف في البنك بنسبة 40% مقارنة بحقبة ما قبل الوباء، فيما تضاعف عدد المواعيد المحجوزة مسبقاً مع المصرفيين ثلاث مرات خلال العامين الماضيين.

قال ماثيو ويندت، مدير أحد فروع "سيتي" في مدينة نيويورك: "لم يعد الناس يأتون إلى هنا من أجل المعاملات النقدية".

الاستغناء عن كوّة الصراف

بات العملاء يزورون الفروع المصرفية أكثر فأكثر بقصد الاطلاع على إرشادات حول المنتجات، مثل الرهون العقارية والقروض والتخطيط المالي، فيما يستخدمون الخدمات المصرفية عبر الإنترنت للعمليات الروتينية.

اجتاحت هذه الموجة القطاع المصرفي بأسره. ولم يكن "سيتي بنك" وحده الذي أعاد النظر في تصميم فروعه تماشياً مع هذا التوجه الجديد. فقد جدد مصرف "جيه بي مورغان تشيس أند كو" 2300 من فروع "تشيس" منذ 2018، ويخطط لتحديث 1700 فرع بحلول 2027. يضم فرع المصرف الكائن قرب محطة "غراند سنترال" في نيويورك أكثر من 50 مكتباً للخدمات الاستشارية، وليس فيه طوابير انتظار أمام كوّة الصراف. في العام الماضي، أنجز مصرف "بنك أوف أميركا" أعمال ترميم لفروعه استغرقت ثلاث سنوات، وهو على وشك البدء بإضفاء تحسينات على الواجهات الخارجية. وفيما يختلف عدد نوافذ الصرافين من فرع إلى آخر ربطاً بحجم العميات التي يجريها، إلا أنها لم تعد نقطة تركيز الديكور الداخلي.

في فرع "بنك أوف أميركا" في حي ويليامسبرغ في بروكلين الذي افتُتح في ديسمبر 2021، اختُزل طابور الصراف بنافذة واحدة خلف جدار من النباتات وصالة جلوس. وقالت مسؤولة شؤون التصميم في "بنك أوف أميركا" ربيكا سيغفريد: "نريدك أن تشعر بالراحة حين تدخل ويكون كل شيء واضحاً أمامك."

استلهمت الشركة التصاميم من شركات مثل "إيسوب" (Aesop) و"ستاربكس" (Starbucks) المعروفتين بإضفاء لمسات محلية خاصة على متاجرهما، فيما تحافظان على الصورة العامة للعلامة التجارية. وكان "بنك أوف أميركا" سجل ارتفاعاً بنسبة 50% في عدد المواعيد الاستشارية منذ 2017.

تحولات على مر التاريخ

تعليقاً على ذلك، قال كاي أولسن، مدير قسم التصميم الداخلي في شركة "إتش أو كيه" (HOK)، التي تولّت أعمال الديكور لعدد من فروع مصارف، منها فروع "تشيس" و"بانكو ستاندير"، إن المصارف تسعى لأن يشعر عملاؤها بالراحة حين يتواجدون في فروعها، بل حتى أنها ترغب بالترفيه عنهم.

لعل المثال الصارخ على ذلك يظهر من خلال 55 فرعاً لمقاهي "كابيتال وان" (Capital One) المنتشرة في أرجاء المدن الأميركية، حيث يتوارى الموظفون عن المشهد العام، فيما يجلس العملاء في مقصورات فاخرة يرتشفون القهوة بالحليب فيما يتبادلون أطراف الحديث أو يعملون عن بعد أو يعقدون الاجتماعات. قال أولسون: "مع التحوّل نحو القدرة على إجراء المعاملات المصرفية دون لزوم الذهاب شخصياً إلى الفرع، بات على البنوك أن تعيد النظر بمغزى وجود فروع لها". وفيما أن صرف الشيكات والإيداعات ما يزال متاحاً في الفروع المجددة، إلا أن عملاء اليوم "يبحثون عن تجربة تواصل تختلف عن الطريقة الجدّ عملياتية التي كانت تتسم بها الخدمات المصرفية في السابق".

اكتشف كثير من الأميركيين المصارف كجزء من حياتهم اليومية في مطلع القرن العشرين. وفي غضون ثلاثين سنة، بين عامي 1900 و1930، ارتفع عدد الفروع المصرفية من 119 إلى أكثر من 3500 فرع مصرفي، بحسب الاحتياطي الفيدرالي.

كانت مقرات تلك المصارف تُشيّد بتصاميم حجرية ضخمة، وغالباً ما تكون بعيدة عن الأبنية الأخرى بغية التعبير عن القوة والاستقرار والمصداقية. وما يزال كثير من تلك المباني قائماً حتى يومنا هذا، على الرغم من أن بعضها بات يُستخدم لغايات أخرى. فقد تحوّل مقر بنك "غرينويتش سايفنغز" (Greenwich Savings Bank) إلى صالة احتفالات، أمّا الفرع المركزي لمكتبة كنساس سيتي فكان في السابق مقراً لمصرف "فيرست ناشونال بنك" (First National Bank)، فيما أن المقر القديم لمصرف "سيتيزنز ناشونال بنك" (Citizens National Bank) في لوس أنجلس قد تحوّل إلى متجر للكتب، ومبنى "كولورادو ناشونال بنك" (Colorado National Bank) أصبح أحد فروع سلسلة فنادق "ماريوت" في دنفر.

تركيز على العلاقة مع العملاء

بدأت المصارف تتخلى عن التصميم الكلاسيكي عقب الحرب العالمية الثانية، مستلهمةً من المراكز التجارية ومطاعم المأكولات السريعة. فظهرت النوافذ الكبيرة المفتوحة ومداخل للسيارات يمكن للعملاء أن يقوموا بمعاملاتهم دون أن يترجلوا من سياراتهم. استمر عدد الفروع بالارتفاع، ليبلغ ذورته مع حوالي 83 ألف فرع مصرفي بحلول 2012، بحسب الأرقام الصادرة عن مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية.

بعد الأزمة المالية العالمية، كان وجود فروع المصارف بحد ذاته يثير الغضب في بعض الأنحاء فيما كانت شركات التجزئة الأخرى تنازع. وقد وصفها توماس بيلر في مقال في صحيفة "نيويوركر" عام 2012 بـ"الآفة الحضرية الجديدة". حتى أن مجلس بلدية نيويورك أصدر تعديلاً ذلك العام على سياسة التنظيم العمراني بغية الحد من عدد الفروع المصرفية في منطقة "أبّر ويست سايد" في المدينة.

وبحلول منتصف العقد الثاني من الألفية، بدأت الشركات تعيد النظر باستراتجيتها المتعلقة بخدمات التجزئة. ففي حين ظلت الفروع المصرفية عنصراً أساسياً في العلامة التجارية للمصرف، إلا أنه أعيد تصميم التجربة المصرفية لتركز أكثر على بناء علاقة بين العملاء والاستشاريين. قال كريغ فالورانو، رئيس خدمات التجزئة المصرفية في الولايات المتحدة لدى "سيتي بنك" إنه بات يُنظر اليوم إلى الفروع المصرفية على أنها وسيلة "لبناء علاقات ثم ترقيتها لتمتد إلى مجموعات أوسع من المنتجات التي نقدمها". وتراهن الشركة أن التجربة السارة التي تقدمها ستؤتي ثمارها حين يحتاج العميل إلى قرض سكني أو خدمات إدارة مالية.

التقرب من المجتمع المحلي

بشكل عام، تراجع عدد فروع المصارف في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية. فقد خفّض "سيتي" مثلاً عدد فروعه من ألف في العقد الثاني من الألفية إلى نحو 650 اليوم، ويخطط للحفاظ على استقرار هذا العدد نسبياً. أمّا مصرف "بنك أوف أميركا" فلديه نحو 3800 مركز اليوم، بانخفاض عن 6100 في 2010، في حين بقي عدد فروع "جيه بي مورغان تشيس" مستقراً نسبياً عند حوالي 5 آلاف منذ 2018، على الرغم من أن لديه خططاً لإنشاء مئات الفروع الجديدة في مدن لم يكن لديه حضور واسع فيها، مثل بوسطن ومينابوليس وفيلادلفيا.

تسعى البنوك في بعض المناطق لتعزيز علاقتها مع الأحياء التي تنشط فيها، وليس مع العملاء فحسب. في 2019، أطلق "جيه بي مورغان تشيس" أول فرع لما يسمّيه بـ"البنوك الاجتماعية" في هارلم، حيث تغطي جداريات رسمها فنانون محليون جدران المصرف، ويستضيف البهو عروضاً مؤقتةً للمؤسسات المحلية بين حين وآخر، ومن بينها مثلاً محال الشوكولاتة وصالونات تصفيف الشعر.

يضم المقر غرفة مؤتمرات ضخمة وصالة احتفالات لها باب مرآب مطل على الشارع لدعوة المارة للدخول. خلال فترة الوباء، فتح الفرع أبوابه للطلاب المحليين كي يستعملوا خدمة واي فاي والكمبيوترات بغرض التعلم عن بعد. وقال روكي شودهوري، أحد المسؤولين المجتمعيين في هارلم: "معروف عن (تشيس) أنه بنك الأغنياء، ولم يكن يتمتع بسمعة جيدة في المجتمع المحلي"، لذا يهدف النموذج الجديد لإصلاح وجهة النظر هذه.

التماهي مع المجتمع

يرغب فريق سيغفريد في "بنك أوف أميركا" بتماهي فروع المصرف مع المجتمعات المحلية التي تستضيفها، من حيث التصميم أيضاً. فالمركز المالي التابع للمصرف في حي ويليامسبرغ يقع في منشأة صناعية كانت تضم في السابق شركة لتصنيع المعادن. وهو يعرض داخل الردهة منحوتة من أنابيب وأعمدة وصمامات تجسد ما خلفته الشركة التي كانت قائمة هناك في ما مضى.

في بالم سبرينغز في كاليفورنيا، يقع فرع قيد الإنشاء داخل مبنى حديث يعود إلى منتصف القرن مصمم على شكل حبة فطر. ناقش فريق التصميم أعمال التجديد مع اللجنة المحلية للمحافظة على التراث، حيث ستُصنع أرضية الفرع الجديد من بلاط موشح بكسرات رخامية تستحضر التصميم الأصلي للمبنى. وفي سينسيناتي، الفرع الجديد مصمم بأسلوب أقرب إلى البنوك التقليدية ولكن بلمسات عصرية، حسب وصف سيغفريد، ويطلق عليه الموظفون والعملاء تسمية "المصرف الفاخر".

فيما تتنافس المصارف على استقطاب الزبائن، يتوقع أولسن من "إتش أو كيه" أنها ستستمر بالتركيز على جانب الضيافة وتقديم تجارب مصممة بعناية للعملاء. قال: "أعتقد أننا سنستمر في رؤية هذا لدى مصارف من كل الأحجام، لا نرى أن السوق ستعود إلى ما كانت عليه في السابق".

تصنيفات

قصص قد تهمك