بلومبرغ
بدأت لورا ديمينغ منذ كانت مراهقةً بالاستثمار في تقنية إطالة عمر الإنسان، وعلى مدى عقد مضى صارت أحد ألمع المستثمرين في القطاع الذي يحفل بالأفكار الجامحة والمبالغات.
لكنها انصرفت عن الاستثمار الجريء وأسست شركةً ناشئةً لتخوض عبرها غمار أحد الجوانب الأكثر جدلية في مجال تقنية إطالة العمر.
كشفت ديمينغ هذا الشهر عن شركتها "كراديل هيلث كير" (Cradle Healthcare) التي تديرها سراً منذ ثلاث سنوات، وهي تركز على محاولة تطوير تقنية تجميد أجسام المصابين بأمراض، بغرض إنعاشها بعد اكتشاف علاجات لأمراضهم.
تجاوز التحديات
يعمل الباحثون والشركات على تطوير تقنيات التجميد منذ عقود، ولكن يجب تحقيق خروقات جمّة قبل أن تسنح فرصة انتشار هذه التقنيات. تراهن ديمينغ، 30 عاماً، على إمكانية اكتشاف الكثير حول طريقة تجميد الجسم وإعادة تدفئته، وأن بإمكان "كراديل" أن تحول هذه التقنية إلى واقع.
في أول مقابلة حول شركتها الناشئة، قالت ديمينغ إن الشركات الأخرى تركز على تجميد الجسم أكثر من إنعاشه. وأضافت: "نحن نعمل على التجميد القابل للعكس، ويعني ذلك التوصّل إلى إجراءات يمكنها حفظ الجسم عبر التجميد ثمّ إعادة تدفئته مع الحفاظ على وظائفه... عملنا لسنوات على حلّ هذه المشكلة، وما كنّا لنختار العمل على ذلك ومضاعفة جهودنا في هذا الإطار لو لم نكن على قناعة بأن الأمر قابل للتحقيق".
تُستخدم تقنيات التجميد بشكل محدود حالياً، مثلاً في عمليات الإخصاب في المختبر، حيث تُغمس المضغة، أو الأجنة ما قبل الانغراس، في محلول واق من البرودة ثمّ في النيتروجين السائل لتخزينها إلى أن يحين وقت استخدامها. وكانت مجموعة في جامعة مينيسوتا جمّدت أخيراً كليتَي جرذ لمدة 100 يوم، ثمّ أعادت تدفئتهما وزرعتهما في جرذين آخرين، وقد عادت الأعضاء للعمل بشكل كامل بعد نحو شهر.
تكمن صعوبة تجميد الأعضاء أو الدماغ أو الجسم بكامله في التوصل إلى طريقة لتجنّب التسبب بضرر دائم. حين تتكوّن البلورات الجليدية خلال عملية تجميد الجسم، قد تتسبب في تمزق الخلايا وانفجارها. يمكن التصدي لذلك بقدر ما عبر تجميد الأنسجة بسرعة كبيرة وحمايتها بواسطة واقيات كيميائية تخفف من أثر عملية التبلور. مع ذلك، تصعب معالجة كميات كبيرة من الأنسجة بطريقة موحدة بواسطة هذه التقنيات، فبلوغ البرودة أو المواد الكيميائية لباطن الأعضاء أو الجسم أمر أشدّ تعقيداً.
الوصمة المحيطة بتجميد الأجسام
قال أرييل زيليزنيكوف-جونسون، عالم الأعصاب في جامعة "موناش" في ملبورن ومؤلف كتاب (The Future Loves You: How and Why We Should Abolish Death) الذي سيصدر قريباً: "المشاكل تصبح أكثر تعقيداً كلما كانت عينة النسج أكبر... هناك فوارق كبيرة في التدرج الحراري. لقد حاول الناس التغلب على ذلك بواسطة الواقيات من البرودة ولكنها سامة بحد ذاتها".
غالباً ما يُنظر إلى التجميد على أنه مجال عصيّ على التقدم، فهو مقبول بشكل عام كوسيلة للحفاظ على الأعضاء من أجل إعادة زرعها، ولكن عادةً ما يهزأ الناس من فكرة تجميد الأدمغة أو أجساد بكاملها. قال زيليزنيكوف-جونسون: "غالباً ما يصاحب هذا الأمر كثير من المشاكل... ولا أظنّ أنه يؤخذ على محمل الجد في كثير من الأوقات، كما يطرح أسئلة حول تعريف الحياة وتعريف الموت، وما إذا كان يحق لنا أن نقوم بمثل هذا".
تتحلّى ديمينغ بمصداقية يحتاج هذا القطاع إليها بشكل ماس. كانت في صغرها، طفلة نابغة في مجال التقنية الحيوية، تمكنت من الحصول على وظيفة باحثة مخبرية في جامعة كاليفورنيا-سان فرانسيسكو حين بلغت 12 عاماً من عمرها.
وفي عمر 14 عاماً، قُبلت في معهد ماساتشوستس للتقنية ، ثمّ تركت الجامعة بعد سنتين لتلتحق بأحد أوائل برامج الزمالة في ريادة الأعمال التي قدمها الملياردير بيتر ثيل. أسست في عمر 19 سنة صندوق "إطالة أمد الحياة" (Longevity Fund)، الذي استثمر في أكثر من 12 شركة. واليوم، إلى جانب "كراديل"، ديمينغ هي أيضاً المؤسسة الشريكة للشركة الاستثمارية "إيج 1" (Age1) التي تركز على إطالة أمد الحياة.
لدى ديمينغ قناعة أن الوصمة المحيطة بتقنية التجميد هي التي أعاقت بعض البحوث الواعدة، وتقول إن "كراديل" سبق أن وجدت سبلاً عديدةً تبدو قابلة للتطبيق يمكن استكشافها. فقد تعاملت مع التحديات التقنية بطريقتين: من خلال نوع جديد من آلات التبريد وإعادة التدفئة، ومختبر تُختبر فيه كافة أنواع تركيبات الواقيات من البرودة. جمعت الشركة حتى اليوم استثمارات بقيمة 48 مليون دولار، ولكنها ترفض الكشف عن داعميها.
تجارب مخبرية
ترتكز بحوث "كراديل" على آلة بحجم ثلاجة صغيرة، تقوم مهمتها الأساسية حالياً على إجراء اختبارات على شرائح دقيقة من أدمغة القوارض. توضع شريحة من الدماغ قرب مركز الآلة وتُرش بمادة واقية من البرودة، ثم يُغلق عليها في حجيرة بين طبقات من الياقوت والفولاذ. يصار بعدها إلى ضخ النيتروجين السائل من فوهة وينفخ فوق الحجرة لتجميد الشريحة. ثمّ يمكن لـ"كراديل" إعادة تدفئة شريحة الدماغ داخل نفس الآلة، باستخدام مغناطيس كهربائي يسخّن الطبقة الفولاذية من الحجيرة.
إلى جانب هذه الآلة في المختبر الرئيسي لـ"كراديل"، هناك جهاز آخر لصنع تركيبات المواد الواقية من البرودة، وهو يحتوي على عشرات الأنابيب التي يمكن حقن مواد كيميائية مختلفة فيها، وهي تغطي بدورها عينات شرائح الدماغ.
تضمّ "كراديل" 15 موظفاً، أسهم كثير منهم في تصميم هذه الآلات. وتحمل بعض أهم الابتكارات توقيع المؤسس الشريك وكبير المسؤولين العلميين هانتر ديفيس الذي بلغ 33 سنة من عمره.
قبل الانضمام إلى "كراديل" كان الرجل الذي يحمل شهادات في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد منشغلاً بأمور مثل بناء جهاز ليزر من أجل دراسة الخصائص الكمومية الميكانيكية لعملية التمثيل الضوئي في النبات.
يرى ديفيس أن هذه التجارب المبكرة هي عملية مسرعة من التجريب لاكتشاف الأخطاء. يمكن لـ"كراديل" وضع شريحة من الدماغ في الحجيرة وتبريدها إلى حرارة 150 تحت الصفر خلال ثوان، ثم إعادة تدفئتها حتى تبلغ مستوى الحرارة التي تختارها الشركة خلال بضع ثوان أخرى. تجري الشركة اختبارات على عدّة عينات في اليوم، وتقول إنها نجحت في تبريد شريحة من دماغ القوارض ثمّ أعادت تدفئتها، ووجدت أن الشريحة حافظت على النشاط الكهربائي للخلايا العصبية داخلها.
تعتزم "كراديل" نشر بحوثها قريباً، وهي تعمل على أنظمة أخرى من أجل التعامل مع عينات الأنسجة الأكبر، إلا أنها رفضت الكشف عن التفاصيل.
إنعاش الجسم
يعتبر كلّ من ديفيس وديمينغ أن عملية التجميد المثلى هي التي تنخفض فيها حرارة عينات أكبر إلى دون 130 درجة مئوية، فيما لا تتشكل إلا كمية قليلة من البلورات الجليدية. وإذا ما حصل ذلك بالطريقة المناسبة، يمكن للسوائل أن تتجاوز سريعاً مرحلة تكوّن الجليد، وتتجه مباشرة إلى مرحلة اللزوجة حيث تكون راكدة نسبياً.
قال ديفيس: "عند درجة الحرارة هذه، يتوقف كلّ شيء تماماً... يدخل السائل في حالة غير متبلورة تشبه إلى حد ما الكهرمان أو لوح الزجاج"، ويستدعي ذلك استخدام واقيات برودة غير سامة، وهذا أحد العوائق الأخرى التي يواجهها مجال التجميد.
تعدّ مؤسسة "ألكور لايف إكستنشن" (Alcor Life Extension Foundation) غير الربحية التي تأسست عام 1972 إحدى أشهر المنظمات المعنية بالتجميد، ولديها بضع مئات الأجساد والرؤوس المخزنة في مستوعبات خاصة في أريزونا.
لكن ما يزال على المنظمة أن تثبت قدرتها على إنعاش أي من الأجسام أو الأدمغة. قال ديمينغ: "الأمر أشبه ببناء صاروخ ووضعه على المنصة وتركه هناك... صحيح أننا نكون قد أنجزناه، ولكن السؤال هو هل سيعمل؟ مجرد التجميد لا يكفي".