بايدن لم يتسبب بارتفاع الأسعار لكن الناخبين سيلومونه

استطلاعات الرأي تبين أن الأغلبية الساحقة ليست سعيدة بوضع الاقتصاد وتلقي باللائمة على الرئيس الأميركي

time reading iconدقائق القراءة - 21
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

أسواق الأسهم في الولايات المتحدة مزدهرة وقد درجت على تسجيل أرقام قياسية، ومعدل البطالة أقرب لأدنى مستوياته تاريخياً، فيما أن الاقتصاد ينمو بوتيرة جيدة والتضخم يواصل تراجعه نحو المستويات الطبيعية. إذاً لماذا يعتقد الأميركيون أن اقتصادهم في مأزق؟

تظهر استطلاعات الرأي تباعاً أن أغلب الناس لا يسعدهم حال الاقتصاد، وأنهم يلومون الرئيس جو بايدن، رغم أن الحقائق التي يمكن التحقق من دقتها تدحض بعضاً من انطباعاتهم.

وجد استبيان من "هاريس بول" (Harris Poll) لصالح صحيفة "غارديان" الشهر الماضي أن 55% يعتقدون أن الاقتصاد ينكمش، فيما يعتقد 49% أن البطالة عند أعلى مستوياتها خلال 50 عاماً، ويعتقد 49% أن مؤشر "إس آند بي 500" المعياري للأسهم منخفض هذا العام. الحقيقة هي أن كل هذه قناعات مغلوطة.

كان "إس آند بي 500" مرتفعاً نحو 12% هذا العام إبان الاستبيان، ومرتفعاً بنحو 29% عن مستواه قبل 12 شهراً من ذلك.

لا تظهر هذه الآراء في استطلاعات الرأي فحسب، إذ تُظهر استبيانات جامعة ميشيغان ومؤسسة "كونفرنس بورد" (Conference Board) لمعنويات المستهلكين، أن مستويات التفاؤل أقل مما كانت عليه حتى في 2008، وهو العام الذي شهد الأزمة المالية العالمية. قد تؤدي تلك السلبية بدورها لعزوف الناس عن المخاطر، فترتفع مخاطر وقوع ركود.

دور الاستقطاب

إن المقاييس المعيارية التي تفيد بأن الاقتصاد في حالة جيدة لها عيوبها، لكنها ليست مزيفة، رغم ما قد يقوله أصحاب نظريات المؤامرة. لذا كيف يمكننا أن نفسر أسباب شعور أغلب الناس بضيق كالذي قد يشعرون به في ما لو حلّ الركود؟

لا شك أن الشرور المألوفة لعصرنا هذا تزيد الانقسام اتساعاً. إن الاستقطاب السياسي جعل جانباً كبيراً من الناس عازمين على رؤية الأسوأ فقط في عهد بايدن.

إذا حللنا استبيان جامعة ميشيغان من حيث الهوية الحزبية، يتضح أن الجمهوريين يرون أن الأوضاع الحالية أسوأ مما كانت عليه طيلة حقبة الكساد الكبير. تتضخم تلك المشاعر عبر غرف الإنترنت، كما تتعاظم مشاعر الغضب وعدم الرضا المستمرة التي تلت الجائحة.

صدمة تلو الأخرى

لكن الاستقطاب وحده لا يكفي كتفسير لذلك. إن جذر هذا الانقسام يأتي من الاقتصاد الذي وجّه ضربتين قاسيتين لشعور الناس بالرفاه. جاءت صدمة التضخم التي تلت الجائحة لتضيف إلى شعور متزايد على مدى عشرات السنين بتفاقم عدم المساواة. وأدى ذلك إلى أكبر زيادة في تكاليف الضروريات دفعةً واحدةً خلال عقود. وذلك يجعل فئة كانت أحوالها في تدهور في وضع أسوأ، رغم أن الاقتصاد إجمالاً في وضع جيد.

يسهل تشويه مقاييس التضخم وإساءة فهمها على نطاق واسع. إذا نظرت مثلاً إلى الفارق بين معدلات التضخم ومستويات الأسعار، يتبين أن القول إن التضخم على أساس سنوي يعود إلى المستوى الطبيعي في قطاع كبير من الاقتصاد ليس مغالطة، وأنه صحيح دون أدنى شك.

لكن ذلك لا يعني أن الأسعار تراجعت إلى مستوياتها السابقة. ارتفع سعر البيض إلى مثليه خلال أول عامين من رئاسة بايدن. وقد انخفض منذ ذلك الحين، لكنه ما يزال أعلى 44% مما كان عليه في أوائل 2021.

جليّ أن الكثيرين يعتقدون أن الادعاء بأن التضخم ينحسر ليس صادقاً، وذلك لأن الأسعار ما تزال أعلى كثيراً مما كانت عليه حين تولى بايدن رئاسة البلاد، لكن ذلك ليس فيه غش. يقيس التضخم معدل التغيير، لكن مستوى الأسعار الأعلى المستمر أهم بالنسبة لأغلب الناس.

مشكلة مفاهيم

يولّد مفهوم التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة مزيداً من الغضب، إذ يأخذ عليه كثير من الناس إنكار أهمية تلك الأسعار، ويجدون في ذلك سعياً لتلطيف وقع الأرقام. تلك المعتقدات خاطئة تماماً. تُستثنى أسعار الغذاء والطاقة لأنها متقلبة كما أن أثر السياسة النقدية عليها ضئيل. يحتاج مسؤولو البنك المركزي لتتبع التضخم الأساسي كي يقيسوا فعالية سياساتهم.

كما أنه ليس صحيحاً أن التضخم الأساسي وسيلة لخفض مستويات التضخم العام. تتجه أسعار الغذاء والطاقة للانخفاض حالياً. لذا فإن التضخم الأساسي أعلى من التضخم العام. إن الشعور بالغضب تجاه الاقتصاديين المنفصلين عن الواقع الذين يستثنون تلك الأسعار من حسابهم للتضخم الأساسي ليس له ما يبرره على الإطلاق.

لكن الغضب تجاه التضخم الأساسي يقودنا نحو لُبّ المشكلة، إذ لا يشتري الناس الأشياء ذاتها، كما أن الضروريات الأساسية مثل الغذاء والطاقة تأتي على القدر الأكبر من ميزانيات أصحاب الدخول الأدنى. يبين ذلك سبب أن الأمور تبدو سيئة جداً لكثير من الناس.

أعدّ جيسون دي سينا ترينرت من "ستراتيغاس ريسيرتش بارتنرز" (Strategas Research Partners) مؤشراً يقيس التضخم باعتبارات عامة الناس سماه "كومون مان إنفليشن" (Common Man Inflation)، وهو يقيس ما يشتريه الناس بانتظام، أي الغذاء والطاقة والمأوى والملابس والمرافق والتأمين، من دون أن يشمل أي كماليات.

ارتفع هذا المؤشر في أبريل 3.8% على أساس سنوي، وهو أعلى من المؤشر العام لأسعار المستهلكين للشهر التاسع على التوالي. وتخطى التضخم العام في 34 شهراً من أصل 40 شهراً تمثل حقبة إدارة بايدن حتى الآن. قال ترينرت: "من حيث كونها قضية مطروحة في الانتخابات، ربما لم يعد أمام الرئيس بايدن وقت كافٍ ليغير مفهوم الناخبين للوضع".

نقيض التضخم الأساسي

ثمّة مقياس آخر يمكن أن نسميه "نقيض التضخم الأساسي"، وهو مؤشر لا يشمل سوى أسعار الطاقة والغذاء. ظلّ ذلك المقياس عند مستويات مستقرة لعقود طويلة لكنه ارتفع بحدة فجأة في 2021.

حين تناول كارولين سيلفرمان وجوناثان ليفين من "بلومبرغ" الأرقام من حيث الأوزان النسبية للغذاء والطاقة، وجدا أن مؤشر "نقيض التضخم الأساسي" ارتفع أقل من 5% خلال السنوات الثماني من 2012 إلى 2020، أي بمعدل سنوي يبلغ نحو 0.6%.

خلال فترة حكم بايدن، ارتفع ذلك المؤشر 26% إضافية، وانتهت تلك الزيادة بحلول صيف 2022، وتراجع التضخم غير الأساسي قليلاً لكن الأسعار ما تزال أعلى بأكثر من 25% من مستوياتها في 2021.

لا تتوفر لدينا مقاييس الوزن التي تعود إلى النقطة التي بدأ فيه مؤشرا الغذاء والطاقة في 1959. حين حاولتُ أن أعدّ مقياساً بدائياً للغذاء والطاقة عبر إضافة أرقام المؤشرين مباشرةً، وهو ما ينبغي أن يكون قاعدة عامة جيدة على الأقل، أظهر ذلك المقياس أن التضخم غير الأساسي في 2022 كان أعلى من مستوياته في أوائل السبعينيات ولم يرتفع عن مستوياته الحالية إلا في 1980.

اتجه التضخم غير الأساسي الآن نحو انكماش طفيف أو تراجعات واضحة في الأسعار. يُعتبر ذلك أمر نادر تاريخياً، إذ إن أسعار الغذاء نادراً ما تنخفض. في فترات ارتفاع التضخم سابقاً، كان الناس يعلمون ذلك لأنهم عاصروا موجات ارتفاع الأسعار في الماضي. لكن هذه المرة كانت مختلفة.

كانت زيادات الأسعار معتدلة منذ منتصف الثمانينيات وضئيلة جداً خلال العقد الذي تلا الأزمة المالية العالمية. إن المستهلكين معتادون على ارتفاع أسعار الضروريات الأساسية ببطء شديد، وليس هنالك ذاكرة شعبية بأن تلك الأسعار لا تنخفض. لم تشهد فترة ولاية أي رئيس ما بعد الحرب العالمية الثانية تراجعاً في أسعار الغذاء. لكن تضخم أسعار الغذاء في عهد بايدن، البالغ 6.5%، يحتل المرتبة الثانية بعد حقبة ريتشارد نيكسون. لاحظ الناس ذلك الأمر، وهو ما يحفز سلبيتهم الاقتصادية.

بايدن في ورطة

وجد استطلاع من "كوك بوليتيكال ريبورت" (Cook Political Report) في سبع ولايات متأرجحة أن 6% فحسب من المشاركين قالوا إن سوق الأسهم هي أهم وسيلة لقياس أداء الاقتصاد، فيما قال 13% فقط إن أهم وسيلة لقياسه هي معدل البطالة المنخفض. اعتبر 54% إن أهم وسيلة هي تكلفة المعيشة. كما أنهم لاموا الرئيس، إذ قال 59% من المشاركين إن الإدارة لديها السلطة لتخفض الأسعار.

لا يوجد أمام بايدن مخرج تقريباً لأن التضخم الموجع يؤثر على أسعار تتميز بأن سيطرة الساسة ومسؤولي البنك المركزي عليها ضئيلة، وما من شيء يمكن للرئيس أن يفعله حيال أسعار الغذاء باستثناء استخدام أموال دافعي الضرائب لتقديم الدعم. أما بشأن النفط، الذي ارتفعت أسعاره أخيراً بسبب أحداث جيوسياسية، فقد استخدم بايدن فعلاً أحد أهم ما في جعبته من أسلحة، وهو إتاحة استخدام احتياطيات النفط الاستراتيجية.

في مفارقة أكبر، لقد توقف ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، التي ليس للرئيس سيطرة تُذكر عليها، وعليها يبني الناس رأيهم عنه. ما يزال التضخم في أسعار الخدمات مرتفعاً، وربما يعود ذلك إلى أخطاء في السياسات مثل فرط الإنفاق على المدفوعات التحفيزية، التي بدأت خلال عهد دونالد ترمب واستمرت خلال ولاية بايدن، أو قرار الاحتياطي الفيدرالي بأن يترك الفائدة عند الصفر لمدة عامين كاملين حتى 2022.

لكن ذلك ليس ما يدفع الإحباط الاقتصادي، كما يتعذر تقريباً أن نتصور حدوث أمر قبل موعد الانتخابات من شأنه تخفيف حدة هذا الشعور. إن الاقتصاد بمجمله في وضع جيد ولم يتسبب بايدن بما يعانيه الناس، لكن أياً من ذلك لا يغير حقيقة أن تكاليف المعيشة ارتفعت إلى حد كبير خلال عهده، وأن عديداً من الناخبين سيحكمون عليه بسبب ذلك.

تصنيفات

قصص قد تهمك