بلومبرغ
بدأ جنون أسعار الوجبات السريعة بوجبة برغر مع بطاطا مقلية. نشرالصحفي في "فاينانشال تايمز" سام ليرنر الصيف الماضي قائمة أسعار أحد مطاعم "ماكدونالدز" في كونتيكت، وكان سعر وجبة "بيغ ماك" 17.59 دولار أميركي. كتب ليرنر معلّقاً: "كان ذلك في استراحة على الطريق، لكن أسعار (ماكدونالدز) هذه جنونية، أليس كذلك؟"
اتضح أن الأسعار في تلك الاستراحة كانت مرتفعة بشكل خاص، إذ يبيع فرع "ماكدونالدز" القريب من مكاتب "بلومبرغ" اليوم الوجبة ذاتها بنحو ثلثي ذلك السعر، لكن ذلك يعني أيضاً أن سعرها بلغ 12 دولاراً. مطاعم "ماكدونالدز" ليست وحدها الذي ترتفع أسعارها هكذا.
ارتفع متوسط الأسعار في سلاسل مطاعم الوجبات السريعة 47% منذ 2019، وفقاً لمارك كالينويسكي، الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات للاستثمار في المطاعم "كالينوويسكي إكويتي ريسيرش" (Kalinowski Equity Research). يعزو كالينويسكي الزيادة إلى الطلبات الأكبر وطبعاً للتضخم.
يضع ذلك الوجبات السريعة في فئة أسعار المطاعم السريعة العادية، التي تقدم وجبات عادةً ما تكون أغلى وأعلى وأفضل صحياً، كما أنها رائجة بين جمهور العاملين في المكاتب.
بإمكانك اليوم أن تشتري وجبة "بيغ ماك" دسمة، أو أن تدفع بضعة دولارات إضافية لقاء وجبة من شريحة لحم مشوي بالثوم المكرمل فوق سلطة سيزر بالكرنب الأجعد، أضافتها حديثاً سلسلة مطاعم السلطات "سويت غرين" (Sweetgreen)، وسعراتها أقل بكثير، وخضراواتها أكثر بكثير، كما أن البروتين فيها من مصدر جيد.
في عالم خيارات الغداء المكلفة المقلوب رأساً على عقب، صارت المطاعم السريعة العادية بشكل ما هي الخيار الأفضل من حيث السعر مقابل القيمة.
المألوف الأميركي
يمكننا جميعاً أن نصنع طبق سلطة الكرنب الأجعد في المنزل بتكلفة أقل كثيراً، لكن حب الأميركيين للراحة نزعة لا تتغير، وقد أتقنت المطاعم السريعة العادية توفيرها للزبائن. قال ستيف إيلز، مؤسس سلسلة مطاعم "تشيبوتلي" (Chipotle) وأبرز رواد هذه الفئة: "حين افتتحت المطعم، كانت قائمة الوجبات السريعة تعكس قيمة جيدة مقابل السعر، وكانت هناك مأكولات يمكن شراؤها مقابل 99 سنتاً، كما كان مطعم (تاكو بِل) يقدم أطعمة بسعر 59 و79 و99 سنتاً في قوائمه".
أضاف إيلز: "كان الناس يقولون لي: يا ستيف، إن ما تفعله خطأ بيّن، فلن يدفع أحد الأسعار التي تطلبها". كم كان السعر الذي اشتكوا منه في 1993؟ كان 3.95 دولار مقابل شطيرة بوريتو بالدجاج طازجة تقدم حسب الطلب.
كم كان هؤلاء مخطئون. سرعان ما تحول "تشيبوتلي" من سلسلة مطاعم صغيرة للبوريتو إلى سلسلة تدعمها شركة "ماكدونالدز"، ثم إلى ظاهرةً منتشرةً على نطاق البلاد وشركة متداولة. كان "تشيبوتلي" يضيف باستمرار فروعاً جديدةَ ليُقدّم لحم الخنزير من مزرعة "نيمان رانش" (Niman Ranch) مع شرائح الطماطم الطازجة، أو أي مزيج يرغب فيه الزبون في ذلك اليوم، مقابل 5.50 دولار للوجبة.
انضم كل من "شيك شاك" (Shake Shack) و"سويت غرين" إلى تلك السوق، إلى جانب "سويت فين" (Sweetfin) الذي يقدم أطباق بوكي في جنوب كاليفورنيا وشطائر "سوفلا" (Souvla) اليونانية في فروعه الأبعد شمالاً، و"تاكوديلي" (Tacodeli) في تكساس، و"جَست سالاد" (Just Salad) في الشمال الشرقي وفلوريدا وإلينوي.
انتعاش بعد الجائحة
لكن حين حلّت الجائحة وأغلّقت المكاتب، بات مستقبل أطباق السلطة أو البوريتو التي يتناولها الموظفون بلا حماسة في مكاتبهم على المحك. ثم في تطور غير متوقع، لم يستمر وجود أطباق السلطة والبوكي على الساحة فحسب، بل إنها انتعشت وتبعت زبائنها إلى الضواحي. منذ يناير 2020 وحتى فبراير 2024، قفز عدد مواقع المطاعم السريعة العادية 10%، أي أكثر من مثلي الزيادة في مطاعم الوجبات السريعة التي ارتفعت 4.4%، وفقاً لشركة "داتاسنشيال" (Datassential) لأبحاث السوق.
كما قفزت الأسعار أيضاً بشكل ملحوظ إلى حد ما. ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الشهر الماضي أن "تشيبوتلي"، الذي لم يعد يديره إيلز بعد أن افتتح لتوّه أول فرع من سلسلة "كيرنل" (Kernel) للمطاعم السريعة العادية التي تديرها الروبوتات، رفع الأسعار ست مرات منذ 2021.
كما قال كالينويسكي إن الأسعار في تلك المواقع ارتفعت أيضاً نحو 34% منذ 2019. أصبح سعر وجبات الغداء تلك بشكل أو بآخر 14 دولاراً بعدما كان 12 دولاراً، ويبلغ سعرها ما بين 15 و17 دولاراً عند احتساب الضريبة، ويرتفع إذا أضفت مشروباً أو تركت بقشيشاً. يبدو بشكل أكيد أننا بلغنا ذروةً في قطاع المطاعم السريعة العادية.
مكاسب متواصلة
لكن بدلاً من أن يبتعد من اعتادوا وجبات الغداء الجاهزة عن "ديغز" (Digs) و"سويت غرين"، فهم ما يزالون يرتادون تلك المطاعم، كما أن بعض رواد مطاعم الوجبات السريعة على الأقل يتجهون إلى تناول الطعام في المطاعم السريعة العادية.
نتيجة استمرار ارتفاع أسعار الوجبات السريعة، بلغ فارق سعر وجبة غداء من المطاعم السريعة العادية مقابل وجبة سريعة 2.64 دولار فقط في الربع الأول من 2024، وفقاً لشركة أبحاث السوق "سيركانا" (Circana).
لذا وجدت المطاعم السريعة العادية نفسها فجأة في موقع مثالي جديد، بالضبط مثلما توقعت شركة "مينتل" (Mintel) لأبحاث السوق في تقرير نشرته في يونيو، إذ قالت: "ستدفع الأسعار المتقاربة الزبائن نحو المطاعم السريعة العادية حيث يمكنهم أن يحصلوا على جودة طعام أعلى وحصص أكبر وقيمة أفضل مقابل ما يدفعون".
قال ماثيو شناير، كبير نقاد المطاعم في مجلة نيويورك حديثاً إن الأسعار في المطاعم التي تخدم زبائنها على الطاولات تواصل ارتفاعها. كتب: "طرأ تغير على المطاعم التي تُقدّم وجبات فاخرة في أجواء مريحة، بدأ الأمر ببطء ثم تغير بسرعة هائلة. بات الآن يصعب، بل ربما يستحيل، أن تتناول الطعام في أحد تلك المطاعم دون أن تنفق أقل من 100 دولار للفرد". يتحدث شناير طبعاً عن مدينة نيويورك، وهي ليست موقعاً معروفاً بمطاعم أسعارها بمتناول الجميع.
لكن الظاهرة الأكبر تحدث في كل مكان، ما يعني أن المطاعم السريعة العادية أمامها فرصة للاستفادة من شريحة الوجبات الأفضل والأغلى، فيما أصبحت تكلفة وجبة لأسرة من أربعة أشخاص خارج المنزل توازي ما كان يوماً يُعتبر إنفاقاً سخياً على سهرة ليلة سبت.
منافسة متنامية
تدرك سلاسل المطاعم الذكية مثل "سويت غرين" و"كافا" (Cava)، وهي سلسلة مطاعم تقدم أطباق المطبخ المتوسطي أُدرجت بالبورصة في يونيو، هذا الأمر وسط اهتمام كبير. قال رئيس "سويت غرين" التنفيذي جوناثان نيمان خلال مكالمة حديثة لإعلان الأرباح إن إضافة شريحة اللحم المشوي كانت تهدف جزئياً لأن تكون وجبة عشاء. وأخبر رئيس "كافا" التنفيذي بريت شولمان زميلتي دانييلا سيرتوري حديثاً أن تركيز "كافا" على الضواحي كان أيضاً بهدف تقديم وجبات عشاء، وأكد أن الشركة أرادت أن تتواجد في مواقع يمكن فيها تقديم وجبة غداء بسعر 12 دولاراً وكذلك "وجبات عشاء يومياً".
يتابع المسثمرون الوضع عن كثب، وهم أيضاً زبائن مستهدفون. ارتفع سعر سهم "كافا" نحو 90% منذ بداية العام، كما قفز سهم "سويت غرين"، التي لا تحقق أرباحاً، بنحو 200% خلال الفترة نفسها.
تستطيع "تشيبوتلي"، التي ارتفع سعر سهمها قرابة 40% لهذا العام، الآن أن تجذب الزبائن بسهولة أكبر بكثير من مستثمرها السابق "ماكدونالدز". قد تظل إيرادات سلسلة مطاعم البرغر أكبر من مثلي إيرادات "تشيبوتلي"، لكن أسهمها تراجعت نحو 10% هذا العام، وقد بدأت تقاوم ذلك الوضع أخيراً. كما نقلت "بلومبرغ" حديثاً أن الشركة تعتزم أن تقدم وجبة قيمة لقاء خمسة دولارات.
تُعتبر تلك الوجبة حلاً معقولاً، إذ إنها لا تستهدف الفئة التي اتجهت لتناول الطعام في "سويت غرين" بل فئة الزبائن ممن باتوا غير قادرين كليةً على تناول الطعام خارج المنزل. رغم ذلك، يجدر بعملاقة الوجبات السريعة، التي ينبغي ألا ننسى أنها واصلت نموها جنباً إلى جنب مع تحول المستهلكين إلى تناول طعام صحي أكثر، أن تتوخى الحذر. فقد بدأت الآن "سالاد آند غو" (Salad and Go)، وهي شركة ناشئة أخرى للوجبات السريعة العادية تستهدف النمو على مستوى البلاد، بتقديم أنواع مختلفة من السلطات مع خيار شريحة اللحم المشوي لقاء 7.99 دولار أو أقل.