بلومبرغ
أعلنت شركة "إنترجي " (Entergy) في 2016 نيتها إغلاق إحدى محطاتها النووية في ميشيغان، فلم تعد محطة "باليساديس" التي كانت تمدّ الولاية بنحو 6% من استهلاكها للكهرباء، مجديةً اقتصادياً في ظل انخفاض تكلفة الغاز الطبيعي والموارد المتجددة.
حين أغلقت المحطة أبوابها في مايو 2022، بدا أنها ستكون المحطة الأخيرة من سلسلة مفاعلات غلّقت أبوابها مع تخلي أميركا عن توليد الطاقة بواسطة الانشطار النووي. إلا أن ما حصل خالف التوقعات. قبل إقفال منشأة "باليساديس" رسمياً، دعت حاكمة ميشيغان غريتشن ويتمر المنتمية للحزب الديمقراطي لاستمرارها في الخدمة، وكتبت لوزيرة الطاقة جنيفر غرانهولم في أبريل 2022 لتقول: "أعتزم بذل كل جهدي لإبقاء المحطة عاملةً وحماية الوظائف وتوسيع إنتاج الطاقة النظيفة".
أوفت ويتمر بوعدها، فقد وافقت وزارة الطاقة في 27 مارس على تقديم قرض قدره 1.5 مليار دولار لإعادة تشغيل "باليساديس". إن سار كل شيء حسب المخطط، ستستأنف إن الولاية الاعتماد ولو جزئياً على مفاعل المحطة الذي تبلغ طاقته 800 ميغاواط، وهو مقام على ساحل بحيرة ميشيغان على بعد نحو ساعتين إلى الشمال الشرقي من شيكاغو.
اتساع تأييد الطاقة النووية
أعرب مسؤولون في وزارة الطاقة الأميركية في الآونة الأخيرة عن دعمهم لإعادة تشغيل مفاعلات أخرى بخلاف "باليساديس"، وبرأي العدد المتزايد من مؤيدي الطاقة النووية، ذلك خير طيب ليس للولايات المتحدة فحسب، بل للكوكب برمته. يوفر 440 مفاعلاً حول العالم 10% من إجمالي الكهرباء على الأرض، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، وهي نسبة لا بد أن تتضاعف ثلاث مرات بحلول 2030 لتفادي بعض التبعات الأخطر للتغير المناخي.
يبدو أن عدداً متنامياً من الأميركيين يتفقون مع هذا الرأي، ففي استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث مشره عام 2023، أيّد 57% من المشاركين زيادة الاعتماد على الطاقة النووية في الولايات المتحدة، مقارنةً مع 43% عام 2020. رغم أن المعارضة الشرسة للطاقة النووية لم تتلاش، وأن ذكرى حادث جزيرة الأميال الثلاثة لم تغادر الذاكرة، إلا أن تأثيرها بدأ ينحسر.
تحمل هذه التحولات بشرى سارة لقطاع الطاقة النووية، ولشركة على وجه الخصوص هي "هولتيك إنترناشونال" (Holtec International).
تأسست الشركة غير المدرجة في 1986، وهي أكبر منتجة لمعدات تخزين النفايات النووية في الولايات المتحدة، بالأخص ما تُسمى البراميل، وهي مستوعبات ضخمة من الصلب والخرسانة تتيح تخزين المواد المشعة بأمان بداخلها في العراء. إذ أسهمت البراميل والخدمات المتصلة بها بنصف مبيعات "هولتيك" التي بلغت 800 مليون دولار في 2023.
تنامت طموحات الشركة في الآونة الأخيرة، فقد اشترت منذ 2019 أربع منشآت نووية أُخرجت عن الخدمة، وكان الهدف الأولي تفكيكها، وهي معمل "إنديان بوينت" شمال مدينة نيويورك و"أويستر كريك" قرب ساحل نيوجرسي و"بيلغريم" في خليج كايب كود في ماساتشوستس و"باليساديس" في ميشيغان". إذ إن تفكيك المفاعلات النووية عمل مربح نظراً للصناديق الائتمانية المخصصة لتغطية تكاليف تنظيف الآثار النووية. وسرعان ما أصبحت "هولتيك" رائدة تفكيك المحطات النووية في البلاد.
تفكيك أم تشغيل؟
برغم أن الشركة اشترت مفاعل "باليساديس" بهدف هدمه، إلا أنها أخذت تستعد لإعادة تشغيله بعدما تلقت قرض وزارة الطاقة الذي بلغ قدره 1.5 مليار دولار، وتلك سابقة فريدة إذ لم يسبق تشغيل مفاعل متوقف عن العمل في الولايات المتحدة قط. حين تعود محطة "باليساديس" للعمل، ستجد "هولتيك" مجموعة جديدة من التحديات تواجهها نظراً لافتقارها للخبرة في إدارة المحطات النووية.
إذا بدت لكم فكرة تحوّل شركة صناعة براميل نفايات إشعاعية إلى مشغّلة للمفاعلات النووية أشبه بمطلع حلقة من مسلسل "عائلة سيمسون" الكارتوني، فإن قلقكم في محله إلى حدّ ما. على مدى السنوات الأربع التي عملت فيها "هولتيك" على تفكيك المعامل النووية، ارتكبت عدة مخالفات وأثارت قلق بعض المراقبين في القطاع حيال إجراءات السلامة التي تعتمدها، في حين يرى آخرون أن ارتكاب بعض المخالفات أمر متوقع، بل طبيعي في قطاع يخضع لقيود بالغة التشدد.
لكن الأكيد أنه مع ازياد حدّة تبعات التغير المناخي وتواترها، بات يُنظر إلى الطاقة النووية أكثر فأكثر على أنها الحل للحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة، ولا يقتصر طموح "هولتيك" على إعادة تشغيل " باليساديس"، بل تعتزم أيضاً تشغيل مفاعلات نمطية صغيرة خاصة بها بحلول نهاية العقد، وهي عبارة عن مفاعلات تُصنع في المعامل وتُجمّع في الموقع. وهذه مهمة معقدة أخرى، وإلى حد كبير لم يُثبت نجاحها بعد سواء على صعيد "هولتيك" أو القطاع عموماً.
تقول الشركة إن معارفها وخبرتها الممتدة لعقود في مجال الأنظمة الإشعاعية تؤهلها لقيادة الولايات المتحدة نحو عصرها النووي المقبل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أميركا جاهزة لعصر "هولتيك"؟
يقع مقرّ "هولتيك" في مدينة جوبيتر في فلوريدا، إلا أن موقع جلّ أعمالها هو مجمعها ومعملها في مدينة كامدن في نيوجرسي.
يطلّ مكتب مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي كريشنا سينغ على نهر دالوير وتقع فيلادلفيا التي جاءها مهاجراً من الهند وراء ضفته الأخرى، وهناك حصل على دكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة بنسلفانيا في 1972. تخصص سينغ خلال دراسته الجامعية في أنظمة المبادلات الحرارية، وكان ذلك تدريباً نافعاً لأن أساس تصميم المفاعلات هو إدارة درجات الحرارة المرتفعة الناجمة عن الانشطار، التي تغلي الماء لينتج البخار المستخدم لتوليد الكهرباء.
براءات اختراع
تزدان أروقة "هولتيك" في كامدن بلوحات تذكارية تخلّد أكثر من 180 براءة اختراع حصدها سينغ، يرتبط معظمها بتصاميم المفاعلات وطرق إدارة النفايات المشعة بسلامة. يحوي إطار معلّق خلف مكتبه مفتاح تشغيل مفاعل "بيلغريم"، وقد استُخدم للمرة الأخيرة عام 2019 عند إيقاف المنشأة وتسليمها إلى "هولتيك" لتفكيكها.
الابتكار الأساسي الذي منح "هولتيك" شهرتها هو نظام التخزين الخاص بقضبان اليورانيوم المستنفد، أي النفايات الإشعاعية الخطيرة الناتجة عن المفاعلات. إذ كان قطاع الطاقة النووية الأميركي واجه مشكلة في ثمانينيات القرن الماضي هي استنفاد مساحات أحواض التبريد الداخلية المستخدمة في التخزين فتراكمت النفايات. الحل الذي أوجده سينغ هو صنع رفوف أدوم تحدّ من حركة قضبان الوقود خلال الزلازل، ما يتيح للمعامل تخزين مزيد منها في الأحواض.
أسس سينغ شركة "هوليتك" متسلحاً ببراءة اختراعه، وما هي إلا سنوات حتى اكتسحت رفوف التخزين التي ابتكرها على السوق.
لكن كان هذا حلاً مؤقتاً، إذ تحتاج المفاعلات إلى قضبان يورانيوم جديدة كل 18 إلى 24 شهراً، بالتالي استمرّ الوقود المستنفد بالتراكم.
صمّم سينغ بعدها برميلاً من الصلب والخرسانة لتخزين النفايات الإشعاعية تقول الشركة إن بإمكانه البقاء في العراء لقرن أو أكثر. لكن بعد القرن لا إجابة حتى الآن حول الطريقة التي ستتخلص الولايات المتحدة عبرها من النفايات النووية على المدى الطويل. فخطة بناء مستودع دائم لكافة النفايات النووية في البلاد في جبل يوكا في نيفادا سقطت في وجه معارضة محلية، كما أن مساعي على نطاق أضيق في هذا المجال، ومنها ما بذلته "هولتيك"، قوبلت بالرفض.
قال سينغ، 77 عاماً: "يتطلب جزء من وظيفتي فهم الحاجة، وأعني بذلك الحاجة الراهنة.. الجزء الآخر هو فهم ما الذي سيحدث لاحقاً أي ما يلوح في الأفق، وإذا قمت بذلك بشكل صحيح، ستواكب التقنية زمنها".
البراميل العملاقة
تبني "هولتيك" معظم حاوياتها في كامدن، حيث يطوي نحو 150 عاملاً صفائح الصلب لتشكيل أسطوانات قد يصل ارتفاعها إلى 6 أمتار وعرضها 3 أمتار. تُدوّن وجهة كل برميل على جانبه خلال التصنيع، مثل محطة "ديابلو كانيون" في كاليفورنيا ومعمل "أنغارا" للطاقة في البرازيل ومعمل "لاسال" قرب شيكاغو و"باليساديس" في ميشيغان.
تأتي تلك البراميل بتركيبات مختلفة، إلا أن كلاً منها يضم حاوية داخلية تُخزن فيها النفايات الخطرة، بالإضافة إلى قشرة خارجية، وكلتاهما مصنوعة من الصلب. حين يبلغ البرميل وجهته النهائية، تُوضع قضبان الوقود المستنفد إلى البرميل الداخلي ويُصب الإسمنت في الحيّز ما بين الحاوية الداخلية والقشرة فيصل إجمالي وزن البرميل إلى 180 طنّاً بعد امتلائه. ثم يُغطى البرميل بغطاء من الصلب بصل وزنه إلى 550 كيلوغراماً، وقال ألان هيكمان، نائب رئيس "هولتيك" لشؤون الصناعة وسلاسل الامداد إن "سعره يوازي سعر سيارة ليكزوس".
عملت الشركة طوال سنوات في التصنيع حصرياً، ملبيةً حاجة تكاد تكون لا متناهية مع استمرار المفاعلات حول العالم بمراكمة الوقود المستنفد. لكن مع اتساع الاعتماد على الموارد المتجددة في العقد الماضي وإسهام التصديع المائي في خفض أسعار الغاز الطبيعي، أدارت السوق ظهرها للانشطار النووي. كما أن الناشطين البيئيين التقليديين لطالما شيطنوا المفاعلات النووية، بالتالي لم تكن تلك المنشآت محبوبة، وبدأت شركات إدارة المرافق بإغلاقها، حيث أُغلق 13 مفاعلاً على امتداد الولايات المتحدة منذ 2013.
قد لا يبدو أن مثل هذا التوجه يخدم مصلحة "هولتيك"، إلا أن الشركة استغلت الفرصة، فوجدت أن بإمكانها الاستفادة من خبرتها في تخزين النفايات الإشعاعية ونقلها، من أجل التوسع نحو هدم المنشآت النووية القديمة. وزعمت أنه بإمكانها تحقق أرباح جيدة من خلال أداء هذه المهمة بسرعة وبتكلفة أقل من المعتاد تاريخياً.
تسريع تفكيك المفاعلات
في الماضي، كانت الاستراتيجية المتبعة لإحالة مفاعل على التقاعد هي إيقاف عمله وتركه كذلك لعقود. إذ تُمهل لجنة الرقابة النووية المسؤولة عن إصدار اللوائح وتنفيذها في الولايات المتحدة، المشغلين ما يصل إلى 60 عاماً لإزالة المعدات وإعادة تأهيل الموقع. وتُغطى هذه التكاليف من خلال صندوق ائتماني ضخم يساهم المستهلكون المستفيدون من المعمل بتمويله خلال فترة عمل المفاعل. كانت قيمة الصندوق الائتماني لـ"باليساديس" تبلغ 552 مليون دولار لدى إغلاقه. إن مدة التفكيك الطويلة للمفاعلات صُمّمت لمنح الأموال ما يكفي من الوقت لتتزايد عبر استثمارها فيما تحلل بعض الإشاعات الخطرة التي امتصها أنظمة المفاعلات.
إلا أن "هولتيك" توصلت مع عدد من الشركات الأميركية الأخرى، ومنها "نورث ستار غروب سيرفيسز" (NorthStar Group Services) و"إنيرجي سولوشينز" (EnergySolutions) إلى استراتيجية أخرى مع تزايد عدد المفاعلات التي غلّقت أبوابها. فقد باشرت تفكيك المحطات النووية في وقت أبكر بكثير، معتمدة على خبراتها في التعامل مع المواد الإشعاعية ونقلها من أجل إنجاز المهمة في غضون سنوات، لا عقود. وإلى جانب تقاضي الشركات الأموال من الصندوق الائتماني، يمكنها أيضاً الاحتفاظ بجزء من الأموال المتبقية في الصندوق عند انتهاء مهمتها.
إلا أن عمليات التفكيك "المسرّعة" كما وصفتها "هولتيك" عمل لم تثبت ربحيته بعد. في العام الماضي، حققت "هولتيك" إيرادات بـ150 مليون دولار من عمليات تفكيك المعامل النووية، ولكن لم يتضح بعد حجم الأموال التي ستحققها الشركة في نهاية المطاف، وإذا ما كانت الأرباح ستتجاوز قيمة التكاليف عند إنجاز عملية تفكيك المحطات. فقيمة الصندوق الائتماني المخصص لتفكيك معمل "أويستر كريك" في نيوجرسي الذي أغلق عام 2018 بلغت 890 مليون دولار عند نهاية ذلك العام. وكانت "هولتيك" قد استحوذت على الموقع في 2019 وأظهرت التقارير المقدمة أخيراً أن الأموال المتوفرة انخفضت إلى 407 ملايين دولار بحلول نهاية ديسمبر 2023، فيما تتوقع "هولتيك" أن تستغرق الأعمال عقداً إضافياً.
مخالفات السلامة
في غضون ذلك، واجهت الشركة مشكلات تتعلق بالسلامة. ففي محطة "أويستر كريك"، ارتكبت 12 مخالفة على الأقل للوائح الاتحادية منذ بدء عملها هناك، ودفعت غرامات بنحو 250 ألف دولار إلى هيئة التنظيم النووية. وتضمنت هذه المخالفات حادثة سوء تعامل مع مواد إشعاعية "ما أمكن أن يعرّض الأشخاص الذين تعاملوا مع الشحنة أو كانوا على مقربة منها إلى فائض من الإشعاعات عن غير قصد"، حسب تقرير اللجنة.
كما وافقت الشركة أخيراً على دفع 200 ألف دولار كغرامة على خلفية سوء تعاملها المزعوم مع الأسبستوس. وسجلت اللجنة مخالفات أقل شدة بحق "هولتيك" تتعلق بعملها في محطة "إنديان بوينت".
قال نجم الدين مشكاتي، أستاذ الهندسة في جامعة جنوب كاليفورنيا الذي يقوم على عمليات تحقق من محطات الطاقة النووية حول العالم كجزء من بحوثه، إن سجل "هولتيك" يطرح أسئلة حيال مقاربتها لمسألة السلامة. لكنه يشدد على أن تقارير لجنة الرقابة النووية ليس فيها معلومات تكفي لتكوين خلاصات واضحة حول الأسباب الأساسية لهذه الحوادث. نظراً لمدى تعقيد تفكيك المحطات النووية، يقترح أن تنشئ ميشيغان لجنة مستقلة مسؤولة عن السلامة من أجل مراقبة "هولتيك" حين تعيد تشغيل "باليساديس"، وقال: "نحتاج إلى مؤسسة أخرى تكون مستقلة عن لجنة الرقابة النووية".
يرى محللون آخرون في القطاع أن مثل هذه المخالفات ليست مستغربةً في مشاريع ضخمة مثل تفكيك محطة نووية. وكانت لجنة الرقابة النووية قد وجهت إنذارين إلى شركة "سَذرن كاليفورنيا إديسون" (Southern California Edison) في مايو 2023 عن عملها الحالي على تفكيك محطة "سان أونوفري" النووية قرب سان دييغو على خلفية أعمال التلحيم وخططها لمواجهة الأعاصير. كما رصدت اللجنة حصول مخالفة لشروطها في مشروع تفكيك محطة "فيرمونت يانكي". علّق كريس غادومسكي، محلل الشؤون النووية الرئيسي لدى بلومبرغ إن إي إف على مخالفات "هولتيك" قائلاً: "هذا جزء من عمليات تفكيك المحطات، بالتأكيد لا يجلب ذلك صورة إعلامية جيدة، لكنه جزء من العمل".
تحوّل الرأي العام
واجهت "هولتيك" مشكلات أخرى، منها شكاوى من ناشطين محليين حيال خططها لتصريف مياه محطة "إنديان بوينت" في نهر هدسون ومحطة "بلغيريم" في خليج كايب كود. ووافقت الشركة في يناير على دفع غرامة قدرها 5 ملايين دولار لتجنب المحاكمة في نيوجرسي بعد اتهامها بتزوير سجلات حول استثمارها في 2018 بشركة لتخزين الطاقة. فقد توصل تحقيق جنائي للولاية إلى أن "هولتيك" حاولت تحايلاً أن تضاعف ائتمانها الضريبي الذي حصلت عليه عن الاستثمار. وقد نفت الشركة في اتفاق التسوية ارتكاب أي مخالفة.
قال باتريك أوبراين، مدير "هولتيك" للشؤون الحكومية والتواصل في رسالة إلكترونية إن الشركة تتعامل جدياً مع كافة انتهاكات السلامة واتخذت خطوات مناسبة لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث. كما أشار إلى بحوث من لجنة الرقابة النووية فندت الادعاءات بأن تصريف المياه يشكل خطراً.
يصعب تقييم سجل "هولتيك" الخاص بالسلامة لأن تفكيك المحطات النووية أمر جديد نسبياً، ولا تتوفر سوابق كثيرة للمقارنة. برغم أن العالم يحتضن مفاعلات نووية تجارية منذ 70 عاماً، ما تزال المخاطر الصحية الناجمة عن التعرض للإشعاعات غير واضحة. معروف أن التعرض لكميات عالية من الإشعاعات يسبب الموت، لكن ما تزال الأسئلة مطروحة حول تأثير التعرض لكميات منخفضة من الإشعاعات على المدى الطويل. ما يزال الكثير من الأميركيين ينظرون إلى الطاقة النووية على أنها غير آمنة، وهي وجهة نظر متأثرة لحدّ بعيد بصور تشرنوبيل وجزيرة الأميال الثلاثة وفوكوشيما، رغم ندرة مثل هذه الكوارث.
لكن لا لبس في أن مخاطر التغير المناخي تتنامى، وأدت إلى انقلاب حاد في مستوى التأييد الشعبي والسياسي للطاقة النووية. فقد حصلت تقنية الانشطار النووي على جرعة دعم هائلة بفضل قانون الحدّ من التضخم الذي يُعد تشريع الرئيس جو بايدن المناخي الرئيسي، الذي منح إعفاء ضريبياً مهماً للمرافق التي تعتمد الطاقة النووية.
قالت ماريا كورسنيك، الرئيسة التنفيذية لـ"معهد الطاقة النووية" الذي يمثل شركات الطاقة النووية إن ذلك "بعث برسالة إلى القطاع بأن علينا التوقف عن إغلاق المعامل.. وأننا مهمون". أمّا في الكونغرس، الذي يشهد انقساماً حاداً حيال قضايا المناخ والوقود الأحفوري، تلقى الطاقة النووية تأييد الحزبين. زد على ذلك أن الارتفاع الكبير في استخدام مراكز البيانات لتطوير الذكاء الاصطناعي رفع من الطلب على الكهرباء ويدفع بالقادة السياسيين نحو تأييد الطاقة النووية.
عراقيل إعادة التشغيل
لعل المثال الأبرز على هذا التغيير كان تعامل الحاكمة ويتمر مع قرار إغلاق محطة "باليساديس". فقد تخوفت من أن إغلاق المعمل وتوقف ما ينتجه من كهرباء خالية من الكربون سيعرقل مسعى ميشيغان لتحقيق أهدافها المناخية ويتسبب في فقدان مئات الوظائف، فعملت على إعادة تشغيله سريعاً. وقال آدم ستاين، مدير الابتكار في مجال الطاقة النووية في معهد "بريكثرو" البحثي المؤيد للطاقة النووية "لقد أدركت قيمة المحطة".
مثلما تلقفت "هولتيك" فرصة تفكيك المحطة، عادت وغيرت توجهها لتستغل فرصة إعادة تشغيل "باليساديس" وعملت على تأمين تمويل حكومي وشركة كهرباء لتشتري معظم الكهرباء التي ستنتجها المحطة بحلول 2025 حين تعود للخدمة.
إضافة لقرض وزارة الطاقة، ستحصل "هولتيك" على 300 مليون دولار من الولاية لإعادة تشغيل معمل الطاقة.
إلا أن الشركة تواجه صعوبات قبل استئناف عمل "باليساديس"، فهي ما تزال بحاجة لإذن لجنة الرقابة النووية لتعيد تشغيل المفاعل المغلق، كما يتعين عليها إجراء فحوصات سلامة دقيقة لكافة الأجهزة وطلب وقود جديد وتجهيزه، وتوظيف عمّال جدد والاستحصال على تراخيص من لجنة الرقابة النووية. كما سيتعين على الهيئات الناظمة المصادقة على أن كافة التجهيزات تلبي معايير السلامة.
كما أن هنالك معارضين لفكرة إعادة إحياء المعمل من أساسه. إذ يعمل ناشطون بيئيون على إقناع لجنة الرقابة النووية برفض إعادة تشغيل المعمل، بحجة أن إغلاقه عام 2022 ربما فاقم بعض المشكلات الميكانيكية، منها بعض الأعطال التي تهدد وعاء ضغط المفاعل. كانت لجنة الرقابة النووية قد وجدت في 2013 أن الوعاء، أي الوحدة المعدنية الضخمة التي تحتوي على قلب المفاعل، تعتريه "هشاشة"و هذا قد يزيد من إمكانية وقوع إخفاق كارثي.
لقد قالت اللجنة إن الوعاء يوافق جميع معايير السلامة، لكن بعض المجموعات البيئية ما تزال غير مقتنعة أن "هولتيك" جهة تؤتمن على مستقبل الكوكب. قال كيفن كامبس، اختصاصي النفايات الإشعاعية لدى مؤسسة "بيوند نوكليير" (Beyond Nuclear) المناهضة للطاقة النووية: "ما يعبثون به مخاطر هائلة تهدد السلامة".
منافسة الطاقة المتجددة
بشكل عام، لا ترى "بيوند نوكليير" وغيرها من المنظمات، بما فيها "سييرا كلوب" (Sierra Club) و"غرين بيس" أي حكمة في الاندفاعة نحو بناء ترسانة عالمية من المفاعلات. واعتبرت أن الأجدى إنفاق الأموال المخصصة للمفاعلات النووية على تعزيز منشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي يمكن تطويرها بشكل أسرع بكثير ولا تخلّف نفايات تبقى فتّاكة لآلاف السنين، حيث تتمسك هذه المنظمات بمكافحة توسع الطاقة النووية.
ردّت "هولتيك" على الإصرار بأن إعادة إطلاق "باليساديس" تُشكل خطراً، بتأكيد التزامها بكافة شروط السلامة التي تفرضها لجنة الرقابة النووية. وقالت إنها ستجري ما يلزم من أعمال صيانة وتحديثات في المعمل وستخضع كافة التجهيزات والأنظمة إلى فحوصات دقيقة قبل إعادة تشغيل المفاعل.
يؤكد سينغ على أهمية الموارد المتجددة، إلا أنه لا يعتقد أنها ستتمكن من إنتاج طاقة كهربائية خالية من الكربون بمفردها، وقال: "للمرة الأولى منذ 250 عاماً، يمرّ قطاع الطاقة العالمي بنقطة تحوّل لم يشهدها من قبل... أنا أريد توفير المفاعلات لكل أصقاع العالم".
هذه خطة "هولتيك" المستقبلية، إذ تسعى لتطوير مفاعلات يمكن بناؤها بسرعة وتكلفة أقل من المفاعلات القديمة.
في السنوات الماضية، بُذلت جهود جدية ضئيلة لزيادة طاقة المنشآت النووية في البلاد، وقد تخطت جميعها ميزانياتها المحددة. من الأمثلة على ذلك، خطة لبناء مفاعلين نوويين بسعة 1100 ميغاواط في محطة "فوغتل" النووية في جورجيا التابعة لشركة "سَثرن كو" (Southern Co). فقد دخل أحد المفاعلين الخدمة في 2023 والثاني في أبريل، إلا أن المشروع بالإجمال تأخر سبع سنوات عن نهاية مدة الإنجاز، وتخطت تكلفته النهائية 30 مليار دولار، أي ضعفي التقديرات الأولية.
مفاعلات نمطية صغيرة
تهذه التحديات الاقتصادية من الأسباب الرئيسية التي دفعت بعشرات الشركات لتطوير مفاعلات نمطية صغيرة، ومنها شركات "تيرا باور" (TerraPower) التي يدعمها بيل غيتس، و"أوكلو" (Oklo) التي يرأس سام ألتمان مجلس إدارتها، و"كايروس باور" (Kairos Power) التي حصلت على موافقة لجنة الرقابة النووية في ديسمبر لبناء نظام تجريبي.
تُصمم المفاعلات النمطية الصغيرة بطريقة تمكّنها من استخدام عناصر يمكن إنتاجها على نطاق واسع داخل المعامل، وقادرة على توليد 300 ميغاواط أو أقل، أي نحو ثلث سعة المفاعلات النووية التقليدية القائمة. تأتي المفاعلات النمطية الصغيرة بتركيبات وأحجام مختلفة، حيث يمكن للصغيرة منها أن تمدّ موقعاً صناعياً أو قاعدة عسكرية بالكهرباء، فيما أن الأكبر حجماً أفضل لتستخدم كمحطات كهرباء. حتى يمكن لبعض المشغلين ربط مفاعلين نمطيين صغيرين أو أكثر.
قالت "هولتيك" إن تصميم المفاعل النمطي الصغير لديها، الذي خضع لمراجعة لجنة الرقابة النووية، بسيط نسبياً. فهو عموماً نسخة مصغّرة عن المفاعلات القائمة حالياً، بمعنى أنه يستخدم الحرارة الناجمة عن الانشطار لغلي المياه وتوليد البخار من أجل إنتاج الكهرباء. وتخطط الشركة لتركيب مفاعلين من هذا النوع بسعة 300 ميغاواط في محطة "باليساديس" بحلول 2030، ثمّ اعتماد هذه التقنية في محطة "أويستر كريك" في نيوجرسي.
ستُبنى كل هذه المفاعلات في كامدن، إذ تزمع الشركة أن تستخدم عناصر تملك "هولتيك" براءة اختراعها حصرياً أو أخرى متوفرة أصلاُ للاستخدام التجاري. كما تعتزم أن تستخدم أنظمة تلحيم روبوتية وغيرها من وسائل الأتمتة، ما يعني أن عدد العمال اللازم لصنع هذه المفاعلات النمطية الصغيرة أقل بكثير من جيوش العمال الماهرين الذي بنوا الأجيال السابقة من المفاعلات.
سعي للريادة
يمكن لخبرة "هولتيك" في صناعة البراميل أن تعطيها أفضليةً في سباق المفاعلات النمطية الصغيرة، حسب غادومسكي من بلومبرغ إن إي إف، الذي قال: "لقد أظهروا براعة على صعيد التصنيع وهذا أمر سيحتاجه الجيل المقبل من الشركات النووية".
شرح أن ما يحتاجه القطاع هو تنفيذ بناء مفاعل نمطي صغير من أجل إثبات أن شركة أميركية قادرة على تخطي كافة العراقيل التنظيمية والتحديات الصناعية والبدء بمدّ الشبكة بالكهرباء. حتى الآن لم تُصنع إلا حفنة قليلة من المفاعلات النمطية الصغيرة، كلّها في آسيا، ولا تتوفر تفاصيل كثيرة حول أدائها.
في الولايات المتحدة، لم تحصل إلا شركة واحدة هي "نوسكايل باور" (NuScale Power) على موافقة لجنة الرقابة النووية لتصميم مفاعل نمطي صغير، وهي تواجه صعوبات في ذلك. فقد تخلت عن مشروعها الأساسي وهو معمل لإنتاج الكهرباء في إيداهو بعدما ارتفعت التكاليف المتوقعة قياساً لسعر بيع المنتج بأكثر من 50% مقارنةً مع التقديرات الأولية التي كانت تبلغ 58 دولاراً لكل ميغاواط/ساعة.
إلى جانب تعهدها ببناء المفاعلات النمطية الصغيرة بسرعة أكبر وتكلفة أقل، تقول "هولتيك" إن منتجها سيكون أكثر أماناً أيضاً، إذ تتضمن بعض التعديلات التي أدخلتها على للنماذج التقليدية وضع قلب المفاعل تحت الأرض واستخدام نظام تبريد لا يحتاج مضخات كهربائية في حال إيقاف المحطة في حالات الطوارئ.
يحب سينغ أن يروي حكاية حصلت معه، فيقول إنه كان في مارس 2011 في اجتماع مع مجموعة مصرفيين حاولوا إقناعه بإدراج "هولتيك" في البورصة حين تلقى اتصالاً عن زلزال تلته موجات تسوناني تسبب بحادث في محطة فوكوشيما النووية في اليابان. غادر المصرفيون مكتبه وقد تبادر لهم وجوب الحذر حيال عقد أي صفقة تتضمن شركات خدمات نووية. قرر سينغ حينها أن يباشر العمل على مفاعل قادر على الصمود في وجه أي كارثة مقبلة.
من جهته، قال أوبراين، مدير التواصل في "هولتيك" إن الشركة جاهزة لإثبات نفسها، مشيراً إلى أن صانعي المفاعلات النمطية الصغيرة الآخرين "يفضلون أن يأتوا ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً، ولا يحبذون أن يكونوا في طليعة الركب... سبق أن قلنا إننا سنكون الأوائل، وسنريكم أننا قادرون على ذلك".