بلومبرغ
قبل عقد تقريباً، استأجرت "أمازون" متجراً بالدور الأرضي من مبنى سكني فاخر في حي "كابيتول هيل" بمدينة سياتل، لتقيم ما كان يفترض أن يكون أول متاجرها للبيع بالتجزئة. زودت الشركة المتجر الجديد بتقنية قالت إنها ستسمح للناس بشراء السلع بعد تناولها عن الرفوف من دون التوقف عند نقطة للدفع. أطلقت "أمازون" على هذا النظام اسم "جست ووك أوت" (Just Walk Out).
ان افتتاح المتجر، المقام على مساحة 970 متراً مربعاً، عشية تفشي جائحة فيروس "كورونا" بمثابة استعراض لبراعتها التقنية وطموحها لإعادة صياغة تجربة التسوق خارج الإنترنت.
لكن "أمازون" أغلقت ذلك المتجر بصمت في أبريل. كما تخطط لتجريد نحو 24 متجر بقالة تابع لسلسلة "أمازون فريش" في الولايات المتحدة من تقنية "جست ووك أوت"، تمهيداً لاستبدالها بما يسمى بعربات التسوق الذكية، التي تعمل كآلات دفع متحركة.
بعد أن أشارت تقارير إعلامية إلى تراجعها عن استخدام التقنية التي ساهم مؤسسها جيف بيزوس في تطويرها، تقول "أمازون" إنها تخطط لتثبيت النظام نفسه الذي تعكف على إزالته من بعض متاجرها، في ما لا يقل عن 120 متجراً تديرها شركات أخرى في قطاع البيع بالتجزئة بحلول نهاية العام.
قال جون جينكينز، نائب مدير مطوري "جست ووك أوت" إن "التقنية ستنتشر في مزيد من المتاجر، وستكون هناك إطلاقات أكثر نجاحاً بكثير". كما أخبرت الشركة موظفيها بأن التقنية تسير نحو تحقيق الربحية، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر طلبوا عدم كشف هوياتهم فيما يتطرقون لمراسلات داخلية.
تؤكد هذه التحركات شكوكاً ساورت المحللين والمنافسين في قطاع البيع بالتجزئة لمدة طويلة حول تخلي "أمازون" عن استخدام التقنية داخل متاجرها، والتحول نحو التركيز على ترخيصها لتجار التجزئة الآخرين.
أعجوبة تقنية
بعدما تولى آندي جاسي رئاستها خلفاً لبيزوس، تبنت "أمازون" حزمة إصلاحات ضمت خفضاً للنفقات، وتدقيقاً في جدوى استثماراتها، وتسريحات لموظفين، حتى من العاملين في الأبحاث المكلفة طويلة المدى ومبادرات التطوير القوية مثل المساعد الرقمي "أليكسا" والمسيّرات لبرنامج التوصيل المستقبلي.
اقرأ أيضاً: "أمازون" تباشر أكبر تطوير لنشاط البقالة منذ اشترت "هول فودز"
نجح جاسي في استمالة "وول ستريت" من خلال التركيز على الربحية وتوصيل الطرود إلى الزبائن. كما بدأت "أمازون"، ببيع خدماتها في بعض المجالات على غرار الإعلانات وأدوات أخرى، لشركات مستقلة، بدلاً من أن تتحمل المخاطر الكاملة لإدارتها بنفسها.
باشرت "أمازون" تطوير تقنية "جست ووك أوت" في مطلع 2010، عندما كانت تتجه بسلاسة نحو الهيمنة على قطاع عملها الأساسي، وشجع بيزوس مساعديه على استغلال أسواق جديدة. رأت الشركة فرصة في تطوير نظام حاسوبي متطور يمكنه التعلم من سلوك الزبائن، فرصة للدخول إلى عالم سوق التجزئة خارج الإنترنت.
كان للتقنية الجديدة إمكانات مغرية من وجهة نظر بيزوس وغيره من المديرين التنفيذيين، الذين كانوا يشاهدون العاملين لدى الشركة يتجمعون في مواقع الغداء القليلة المحيطة بمقر الشركة المكتظ في سياتل، خاصة أنها قد تتمكن من تنحية طوابير الدفع تماماً.
كان أول متاجر سلسلة "أمازون غو" (Amazon Go) عام 2018، على مساحة 167 متراً مربعاً في قاعدة المقر الجديد للشركة في سياتل، فأعلنت الشركة عن المتجر الذي يستخدم التقنية الجديدة باعتباره أعجوبة في عالم البيع بالتجزئة. كما درست "أمازون" خططاً لإنشاء آلاف المتاجر، وتوقع المسؤولون التنفيذيون للسلسلة الجديدة انتشاراً سريعاً يضاهي انتشار "ستاربكس".
ثم افتتحت عملاقة البيع بالتجزئة أخيراً متجرها المقام على مساحة 929 متراً مربعاً داخل مبنى سكني بمنطقة "كابيتول هيل"، مطلع 2020، معلنةً أن التقنية الواعدة يمكنها التعرف على المنتجات الطازجة وغيرها من السلع غير المعبأة، ما يؤهل "أمازون" لتجهيز متجر في الضواحي على مساحات تبلغ خمسة آلاف متر مربع يوماً ما.
جدوى الاستثمار
قال ديليب كومار، أحد المديرين التنفيذيين المؤسسين للفريق القائم على تطوير "جست ووك أوت"، في معرض تجاري لشركة "أمازون" آنذاك إنه مع النظام الجديد: "لا توجد قيود على الحجم".
ساعد سحر التقنية الواعدة على إخفاء حقيقة أثارت مخاوف بعض مهندسيها الأوائل، ألا وهي أن تكاليف إضافة كاميرات استشعار للمسافات، وأجهزة الاستشعار، إلى الأعمال التجارية ذات هامش الربح المنخفض القائم على بيع وجبات خفيفة وشطائر، لا يمكن تبريرها إلا في متاجر تجتذب أعداد متسوقين كبيرة.
كانت أعداد الزبائن قد تراجعت بشدة خلال الوباء في المدن التي شهدت إطلاق سلسلة "أمازون غو"، بما في ذلك المناطق التجارية الحيوية في شيكاغو ونيويورك وسان فرانسيسكو وسياتل، فدفع ذلك "أمازون" لإغلاق ثمانية متاجر في 2023.
حالياً، تدير "أمازون" 20 متجراً صغيراً تحت علامة "أمازون غو" في الولايات المتحدة، و20 متجراً آخر في لندن الكبرى تحت علامة "أمازون فريش". شكلت الافتتاحات القليلة خلال السنوات الأخيرة نمطاً جديداً في أسواق الضواحي حول لوس أنجلوس وسياتل، وهي متاجر أكبر بعض الشيء تقدم شطائر حسب الطلب ولبن مجمد.
كان هنالك جانب آخر خفي هو كيف وظفت "أمازون" عاملين ليراقبوا النظام بغرض تحسين أدائه من جهة، والبت في الحالات التي لم تتمكن فيها الخوارزميات من تأكيد طبيعة المنتج الذي أخذه الزبون من جهةٍ أخرى.
لكن هذه الوظيفة استحدثت في الهند، حيث عكف موظفون على مراجعة مقاطع مصورة لأناس يتسوقون، كي يدخلوا إلى نظام الموقع من الرف الذي دخلته يد المتسوق أو لتحديد نوع المشروب الغازي الذي أخذه زبون ما، كما يقول أحد الذين تولوا هذه الوظيفة.
قرارات استراتيجية
تعد تلك ممارسة شائعة في إطار تطوير التقنية، أو سر مكشوف ينطبق على معظم المنتجات التي يسوقها منتجوها باعتبارها مدعومة بتقنية الذكاء الاصطناعي. قال ذلك الشخص: "إنها ليست سحراً. لكنهم يعملون على جعلها كذلك". تقول "أمازون" إنها تستخدم المراجعين في الغالب لتدريب نظامها، وأن نسبة صغيرة فقط من رحلات التسوق الفردية تخضع للمراجعة للتأكد من دقتها.
يصف موظفون حاليون وسابقون طلبوا عدم كشف هوياتهم عند تطرقهم للشؤون الداخلية للشركة، العمل في فريق "جست ووك أوت" بأنه بمثابة "بناء الطائرة أثناء التحليق بها"، إذ يسعى المهندسون لمواكبة طموحات المديرين التنفيذيين، فيما يعكفون على خفض التكاليف. على سبيل المثال، شكلت الشركة فريقاً، في إحدى المراحل، لمعرفة ما إذا كان بإمكانها ابتكار نسخة من النظام من الصفر باستخدام جزء صغير من أجهزة الاستشعار في النظام الأكبر.
كما نجح فريق آخر في إنشاء بنية تحتية للشبكات محلية الصنع لتجنب شراء المكونات الجاهزة باهظة التكلفة من موردين آخرين، فيما سعى مهندسو المعدات إلى تحقيق وفورات الحجم التي لم تنجح لأن طلبيات "أمازون" كانت متواضعة جداًِ حتى مع تجاوز عدد المتاجر حاجز المئة.
اقرأ أيضاً: أرباح "أمازون" تفوق التقديرات بسبب خفض النفقات
لذلك، تحوطت "أمازون" في رهاناتها بحلول الوقت الذي بدأت فيه افتتاح متاجر بقالة تقليدية كبيرة في 2020، حيث قررت تزويد بعض المتاجر الجديدة بكاميرات وأجهزة استشعار لتفعيل نظام "جست ووك أوت"، بينما سيكون لبعضها الآخر عربات تسوق ذكية تسمى "داش كارت" طورتها "أمازون".
نقلت "أمازون" الفرق، التي عكفت على تطوير "جست ووك أوت" من قسم البيع بالتجزئة لديها، وخصصتهم للعمل في "أمازون ويب سيرفيسز"، الوحدة السحابية التي تبيع خدمات الحوسبة لشركات أخرى، في إطار عملية إعادة تنظيم مرت دون أن يلحظها إلا قليل من الناس في 2022.
أكد التغيير سالف الذكر لمنافسيها في قطاع البيع بالتجزئة أن "جست ووك أوت" كان شريكاً محتملاً وليس منافساً، كما أعطى انطباعاً بأن جاسي وغيره من مديري "أمازون" التنفيذيين يعتبرون التقنية خدمة يمكن بيعها خارجياً في المقام الأول، ولا يقتصر الأمر على طرحها في سلسلة واحدة مثل "أمازون غو".
داخلياً، علم الموظفون العاملون في المشروع منذ أكثر من عام أن أيام "جست ووك أوت" باتت معدودة في أكبر متاجر"أمازون".
امتيازات مربحة
أكد توني هوغيت، رئيس قطاع البقالة لدى "أمازون"، في مقابلة مع مجلة "إنفورميشن" (Information) نُشرت في أبريل أن متاجر "أمازون فريش" الجديدة والمحدثة سيكون بها عربات ذكية ونظام مدفوعات ذاتي تقليدي، وليس كاميرات ثابتة. ثم سرحت عملاقة البيع بالتجزئة مئات من موظفي فريق تقنيات البيع بالتجزئة في المتاجر في نفس أسبوع نشر تلك الأخبار.
قال أحد موظفي "جست ووك أوت" إن التسريحات ستؤدي إلى تأجيل معظم عمليات البحث والتطوير في وحدتهم. مع ذلك، نجت بعض الفرق التي تعمل على تطوير تقنية عربات "داش" والمبادرة الأحدث لتطوير بطاقات تعمل بالترددات اللاسلكية بغية التعرف على سلع مثل الملابس، من مقصلة التسريحات. قالت "أمازون" إن مئات المهندسين ما زالوا مخصصين للمشروع، فيما دحض جينكينز فكرة أن الشركة كانت تتخلى عن مبادرات البحث والتطوير.
لم تجد الفرق التي تحاول بيع "جست ووك أوت" لشركات البيع بالتجزئة الأخرى إلا عدداً قليلاً من الشراة في قطاع البقالة، لكنها فتحت سوقاً تتسع باطراد من خلال بيع حقوق امتياز استخدام التقنية الواعدة لشركات التجزئة التي لديها متاجر في مواقع يكون وقت المتسوقين بها ضيقاً، مثل ملاعب كرة السلة وصالات المطارات.
يساعد في الأمر أن زبائن تلك الأماكن يتوقعون أن تكون الأسعار أعلى. أكبر مستخدم لهذه التقنية هو مجموعة "كومباس" (Compass Group)، التي تدير أكثر من 40 متجراً مجهزاً بتقنية "جست ووك أوت" في الملاعب وامتيازات الترفيه والمطاعم الجامعية ومتاجر أخرى لها مواقع حيوية.
قال جينكينز، الذي يضطلع بمهمته الثانية في "أمازون" بعدما قاد فرق التقنية لديها في بدايات العقد الأول من هذا القرن، إن "جست ووك أوت" اتبعت نمطاً نموذجياً في الشركة، وفيه يسعى المهندسون لمباشرة مفهوم عمل أساسي، ثم يترقبون إلى أي مدى يمكنهم تطويره. تابع نائب مدير مبيعات تقنية "جست ووك أوت": "الأمر أشبه بالقول: نحن نعرف مدى قدرات تقنية ما. لكن، ما هي قدراتها من وجهة نظر تجارية؟".