بلومبرغ
تردد الشركات في أرجاء الولايات المتحدة منذ سنوات نداءات بأن تستقبل البلاد مزيداً من المهاجرين لتخفيف وطأة أزمة نقص العمالة الشديدة، ولإشغال الوظائف التي لا يرغب الأميركيون بتوليها.
لذا حين توافد مهاجرون عبر الحدود الجنوبية خلال فوضى حقبة الجائحة، بدا ذلك التدفق كحل ممكن لمشكلة بإمكانها أن تؤدي في نهاية هذا العقد إلى عدم تحقيق ناتج اقتصادي قدره 1.75 تريليون دولار. إذ اكتظت المدن الكبرى فجأة بأعداد كبيرة من أناس مستعدين للعمل وللشروع في تحقيق الحلم الأميركي كما يتصورونه. لكن لم تسر الأمور كذلك.
كثيراً ما واجه المؤهلون لتصاريح العمل من الوافدون الجدد صعوبات في الحصول عليها، لأن البيروقراطية الحكومية كانت مثقلة بالطلبات. قالت مجموعات الشركات إن العملية يعتريها خلل، وإنها تكثف دعواتها لإحداث تغييرات بهدف جذب مزيد من العاملين عبر القنوات القانونية.
لكن ساسة واشنطن لا يلتفتون لتلك الدعوات، فاهتمامهم منصب على تأجّج المشاعر المعادية للمهاجرين بين ناخبيهم جراء هذا الارتفاع الكبير في أعداد المهاجرين غير الشرعيين.
لقد عرقلت هذه الأجواء المسمومة، قبيل الانتخابات التي ستعقد في نوفمبر، مشروع قانون توافقي يهدف للسيطرة على الوضع الفوضوي على الحدود الأميركية المكسيكية، كما أنها قضت على أي فرصة لتمرير قانون لتعزيز الهجرة الشرعية بغية تخفيف وطأة أزمة نقص العمالة. ولا يوجد مسار واضح راهناً للتوصل إلى اتفاق شامل بين الحزبين على قضية الهجرة، وهو ما يضع الشركات في مأزق.
ضغط من الشركات
قال جيه تيمونز، الرئيس التنفيذي للرابطة الوطنية للمصنعين: "لا يمكنني أن أتحدث مع أي صاحب عمل دون أن يكون الموضوع هو حقيقة أنه لا يستطيع أن يعثر على العمالة الماهرة التي يحتاجها".
هنالك نحو تسعة ملايين وظيفة متاحة في مختلف قطاعات الاقتصاد، أي ما يوازي 1.4 وظيفة شاغرة مقابل كل عاطل عن العمل. وتسعى القطاعات الأشد تضرراً لإيجاد أفضل وسيلة كي تُسمع صوتها.
من ذلك، تشتري جمعية لشركات قطاع البناء إعلانات رقمية بهدف الضغط سعياً لإصلاح سياسات الهجرة. كما تجلب رابطة تمثل صنّاع المعدات الثقيلة بعض أعضائها من مناطق مثل داكوتا الشمالية إلى واشنطن لالتماس المساعدة من المشرعين. كما تتلقى مجموعة تمثل الشركات الصغيرة تمويلاً قياسياً للضغط نحو تسهيل الهجرة.
كما يقول ممثلون لدور رعاية المسنين للمشرعين إن القطاع يتجه نحو أزمة شاملة في ظل عدم وجود مزيد من المهاجرين يتولون مهام مثل إعداد الوجبات وتفريغ أوعية تبول المقعدين.
تنصح مجموعة "كريتيكال ليبر كواليشن" (Critical Labor Coalition)، التي تضم شركة المطاعم "تشيبوتلي مكسيكان غريل" (Chipotle Mexican Grill) وشركة "يَم براندز" (Yum Brands)، أعضاءها بأن يتجنبوا استخدام كلمة "هجرة" وأن يتحدثوا عن "حلول قوة العمل" عوضاً عن ذلك.
الحاجة للعمالة
للتوضيح، تحرص مجموعات في مختلف القطاعات على التمييز بين الهجرة المشروعة وغير المشروعة، وتقول أغلب المجموعات، التي تركز على القضايا السياسية، إن الاستثمار في تطوير مهارات وتدريب الموجودين في قوة العمل الأميركية ينبغي أن يكون جزءاً من الحل. إلى جانب المطالبة بتجديد نظام الحصص العتيق لمنح تأشيرات العمل، ترغب هذه المجموعات في فرض إجراءات لتنظيم أوضاع العمال غير الموثقين.
ورغم أن الولايات المتحدة وافقت على عدد قياسي من تصاريح العمل في السنة المالية المنتهية في 30 سبتمبر 2023، قال أصحاب الأعمال إنهم بحاجة لأعداد أكبر بكثير. سجلت الشركات نحو 780 ألف موظف مكتبي في برنامج القرعة للتأشيرة من نوع (H-1B) العام الماضي، لكن 25% فقط منهم حصلوا على تأشيرة عمل، وهي أقل نسبة خلال أربع سنوات على الأقل.
أعلنت الحكومة الأميركية في منتصف أكتوبر أنها وصلت إلى الحد الأقصى المقرر من إصدار التأشيرات من نوع (H-2B)، وهو 33 ألف تأشيرة، للنصف الأول من العام المالي 2024 خلال أقل من أسبوعين. تعتمد قطاعات مثل التصنيع والضيافة بشكل كبير على التأشيرات المؤقتة.
بيّن دانييل فيشر، الذي يرأس وحدة الشؤون الحكومية في "أسوشيتد إكويبمنت دستريبيوترز" (Associated Equipment Distributors)، أن رابطته تسعى لرفع مستوى الوعي بأزمات نقص العمالة عبر جلب أعضائها إلى واشنطن للضغط من أجل رفع أعداد المهاجرين الشرعيين. وقال: "لا يوجد عضو كونغرس لم ير لافتات لطلب العمال على أبواب المطاعم وغيرها من الأعمال، ونحن نحاول فقط أن نوضح أننا أيضاً بحاجة لعمال".
محاولات المشرعين
المشكلة ليست كما لو أن المشرعين توقفوا عن محاولة تقديم المساعدة، فمنذ العام الماضي، قدّم المشرعون أكثر من 360 مشروع قانون مرتبطاً بقضية الهجرة، وفق موقع (GovTrack.us). تتضمن القائمة الطويلة مقترحاً من الحزبين بزيادة عدد تصاريح العمل المؤقتة وعدداً من مشروعات القوانين التي تهدف لتقليص قوائم طلبات التأشيرات، ناهيك عن مشروع قانون الأمن الحدودي الذي جاء الاتفاق عليه بشق الأنفس، وقد فشل في الحصول على موافقة مجلس الشيوخ الشهر الماضي.
وقال إدوين إيغي، نائب الرئيس للعلاقات الحكومية وتنمية القوى العاملة في الاتحاد الوطني للبيع بالتجزئة: "مخجل حقاً أن السياسة تعيق مسعى قضية يتفق الجميع على أنها تمثل مشكلة".
كما أن تأثير الهجرة على مداخيل العمال الأميركيين قضية تثير جدلاً. يحاجج بعض الاقتصاديين أن تدفق المهاجرين يهدد بخفض الأجور وبأن تسوء أوضاع العمل في بعض القطاعات. حذر مكتب الميزانية في الكونغرس في تقرير نشره في 7 فبراير من أن زيادة أعداد المهاجرين تعني أن الأجور سترتفع بوتيرة أبطأ، وهذا قد يكون جزئياً بسبب ارتفاع عديد العاملين ذوي المهارات الأدنى.
رغم ذلك، وجد تقرير مكتب الميزانية في الكونغرس أن الهجرة ستضيف سبعة تريليونات دولار إلى الاقتصاد على مدى العقد المقبل عبر توسيع قوة العمل وزيادة حجم الطلب. سيعزز ذلك بدوره الإيرادات الضريبية للحكومة الاتحادية بواقع تريليون دولار.
لم الولايات المتحدة من قبل إلى هذه الدرجة من الاعتماد على المهاجرين لتحقيق النمو الاقتصادي. وجد تحليل من مركز دراسات الهجرة، وهو مؤسسة بحثية تنتمي للتيار المحافظ، أن المهاجرين الذين يعيشون في البلاد وعددهم 49.5 مليون، ما بين مسجل وغير مسجل، يمثلون 15% من تعداد السكان، وهو رقم قياسي في البيانات التي بدأ تسجيلها منذ نحو قرنين.
نتاج التركيبة السكانية
شكّل العمال المولودون خارج البلاد نسبة قياسية بلغت 18.6% من قوة العمل المدنية في 2023. إن ذلك ليس استثناءً لعام واحد، ولكنه نتاج اتجاهات التركيبة السكانية الأميركية التي ستستمر لسنوات. في ظل تقاعد جيل طفرة المواليد بأعداد كبيرة وتراجع الإنجاب، سيضحي أصحاب الأعمال الأميركيين أكثر اعتماداً من أي وقت مضى على المهاجرين.
يخطط اتحاد المقاولين العامين في الولايات المتحدة لأولى حملاته الإعلانية الموجهة عن الهجرة خلال حملات انتخابات الكونغرس لهذا العام، وفقاً لبراين ترميل، نائب الرئيس للشؤون العامة والمبادرات الاستراتيجية. قال: "لدينا هذا الفصام في السياسات حالياً في الولايات المتحدة. لا نود أن يعمل أبناؤنا في قطاع البناء، لكننا لا نريد السماح لآخرين بأن يأتوا إلى البلاد للعمل فيه، رغم أننا نريد بناء الكثير".
وقال ائتلاف "أميركان بيزنس إميغريشن كواليشن" (American Business Immigration Coalition)، الذي يضم أكثر من 1400 شركة، إن التبرعات من الشركات الصغيرة ارتفعت 20% في 2023. وتشير التوقعات إلى أن الوتيرة ستزداد خلال عام الانتخابات هذا.
وبيّنت ميستي تشالي، رئيسة "كريتيكال ليبر كواليشن" التنفيذية، أن النقاش حول الهجرة بات انقسامياً إلى حد كبير، وقالت: "حتى استخدام كلمة (هجرة) في الكونغرس أصبح أمراً غير مرغوب، وذلك لأنها مسألة مسيسة جداً في الوقت الحالي... أقوم بهذه المهمة من 25 عاماً، ولم أر هذا القدر من الاستقطاب الحزبي بشأنها قبلاً".