هل يكشف الذكاء الاصطناعي أسرار العالم القديم؟

حفظت ثورة بركان لفائف هركولانيوم لألفَيْ سنة واليوم يسعى معنيون بالذكاء الاصطناعي لكشف أسرارها

time reading iconدقائق القراءة - 24
لفافة رومانية متحجرة يحاول الذكاء الإصطناعي سبر أغوارها  - المصدر: بلومبرغ
لفافة رومانية متحجرة يحاول الذكاء الإصطناعي سبر أغوارها - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

أتت النيران على منزل عائلة نات فريدمان قبل بضع سنوات خلال موجة من حرائق أحراش كاليفورنيا التي تزداد سوءاً، ولم تمض سوى بضعة أشهر على ذلك حتى تملكه القلق والضجر مع بدء الحجر الصحي في منطقة خليج سان فرانسيسكو مع تفشي جائحة كورونا.

حاله حال كثير من الآباء الذين بلغوا منتصف العمر، لجأ فريدمان إلى روما القديمة بحثاً عن راحة البال والإرشاد. وفيما كان بعضنا يمضي يومه بمشاهدة مسلسل "Tiger King" أو يتسلى بقطع الليغو التي يلعب بها الأطفال، كان فريدمان يقرأ عن الإمبراطورية الرومانية، ويساعد ابنته على صنع مجسّمات ورقية عن فيلات روما القديمة. وبدل أن يخبز العجين المخمر، تعلّم إعداد رغيف "باني كوادراتوس" الذي ظهر في رسومات جدارية في مدينة بومبي البائدة.

كما راح يغالب أرق ليالي الجائحة الطويلة بتصفح الإنترنت ليعمق معرفته عن روما، فوقع على مخطوطات هركولانيوم التي شكّلت نقطة تحوّل اتجه بعدها إلى هوس أعمق. يستذكر كيف تساءل في خلده: "كيف لم يخبرني أحد عن هذا من قبل؟"

مخطوطات أسطورية

مخطوطات هركولانيوم هي مجموعة لفائف ذات مكانة أسطورية في أوساط الباحثين في التاريخ الكلاسيكي، وقد دُفنت داخل فيلا ريفية إيطالية نتيجة ثورة بركان في عام 79 أدت لتحجر مدينة بومبي عن بكرة أبيها، وكأنما توقف فيها الزمن.

حتى اليوم، لم يُعثر إلا على 800 لفافة في جزء صغير من الفيلا نبشه المنقبون عن الآثار، ولكن يُرجّح أن هذا المكان الذي يظنّ المؤرخون أنه يعود إلى رجل ثري كان يوليوس قيصر صهره، يضمّ مكتبة ضخمة ربما تحتوي آلاف أو حتى عشرات آلاف من هذه اللفائف.

سيشكل هذا العدد الضخم إن صحّ، أكبر مجموعة نصوص قديمة يُعثر عليها في التاريخ، ويعتقد الباحثون أنها ستفوق ما بلغنا من شعر وأعمال مسرحية وفلسفية من العصور الإغريقية والرومانية القديمة بأضعاف. ويمنّي الباحثون أنفسهم بأن يقعوا على بعض نتاج كتّاب من أمثال إسخيلوس وصافو وسوفوكليس، في حين يرجح بعضهم أن تجلب هذه النصوص إضاءات جديدة على العصور المسيحية الأولى.

قال روبرت فولير، الباحث في التاريخ الكلاسيكي ورئيس "جمعية هركولانيوم" غير الربحية التي تسعى للتعريف بالمخطوطات وبالفيلا: "يمكن لبعض هذه النصوص أن تعيد تماماً كتابة مراحل أساسية من تاريخ العالم القديم، إن هذا هو المجتمع الذي تحدّر منه العالم الغربي المعاصر".

اقرأ أيضاً: ملك البحث عن الكنوز في أعماق البحار

ما يزال محتوى مخطوطات هركولانيوم مجهولاً حتى اليوم نتيجة ثورة بركان جبل فيزوف. في حين حفظ كمّ هائل من الطين بالغ السخونة والردم اللفائف بعد أن غمرها، إلا أنها تفحمت بفعل الثوران البركاني، إذ تبدو المخطوطات المستخرجة أشبه ببقايا حطب من نار مخيم بعد إخمادها.

كانت هنالك محاولات عدة على مدى مئات السنين لفكّ اللفائف، منها ما اتسم بحرص شديد، ومنها ما افتقر لأدنى اكتراث. بما أن اللفائف هشّة جداً، حتى أدق المحاولات كانت نهايتها وخيمة، فقد أدّت إلى تفتّت المخطوطات إلى قطع صغيرة متفحمة.

في السنوات الماضية، بُذلت جهود لإجراء مسح ضوئي ثلاثي الأبعاد عالي الدقة لمحتوى اللفائف، ما يعني فض ثناياها افتراضياً. إلا أن نتيجة هذه المحاولات كانت إثارة الحماسة أكثر من أن تسهم فعلياً في كشف محتوى المخطوطات، فبالكاد تمكّن الباحثون من أن يلمحوا باطن اللفائف وشيء من حبر على ورق البردي.

في حين أقسم بعض الخبراء أنهم تمكنوا من رؤية أحرف في الصور المسحية، إلا أنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على ذلك. كما أن مسح كافة اللفائف صعب لوجستياً، ولا يستطيع أغلب الرعاة تغطية تكلفته، إلا أكثرهم ثراء. وهكذا بقي كلّ المحتوى من كلمات وفقرات لغزاً لفترة طويلة.

جائزة للتحفيز

لكن فريدمان لم يكن مجرد أب عادي معجب بالإمبراطورية الرومانية، إذ أنه كان فيما مضى رئيساً تنفيذياً لشركة "غيت هَب" (GitHub) الضخمة لتطوير البرامج الإلكترونية، التي استحوذت عليها شركة "مايكروسوفت" عام 2018.

عمل في "غيت هَب" على تطوير أحد أوائل برامج المساعدة على التشفير باستخدام الذكاء الاصطناعي، وكان شاهداً عن قرب على نهضة الذكاء الاصطناعي. فقد ألهمه حدسه أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ربما تكون قادرة على إيجاد أنماط في صور اللفائف لم يلحظها البشر.

كان فريدمان قد ترك عمله في "غيت هَب" ليركز على الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي. وبعدما تعمق في مشكلة اللفائف لفترة من الوقت، وتقرّب من مجتمع الباحثين في التاريخ الكلاسيكي، قرر إطلاق مسابقة "تحدّي فيزوف"، وعرض مليون دولار جائزة لمن يطوّر برنامج ذكاء اصطناعي قادراً على قراءة أربع فقرات من لفافة واحدة. ويتذكر أن لسان حاله في حينها كان يقول: "ربما هنالك أشياء بديهية لم يجربها أحد من قبل... لقد ثبت لي هذا الأمر في حياتي مرات عديدة".

مع مرور الأشهر، اتضح أن حدس فريدمان في محله، فقد طور متسابقون من حول العالم، أغلبهم شباب في العشرينات ذوو دراية بهندسة الكمبيوتر، تقنيات جديدة لمسح ضوئي ثلاثي الأبعاد ثمّ تسطيح الصورة على شكل صفحات قابلة للقراءة. هكذا، بدا للبعض أنهم عثروا على أحرف، ثمّ كلمات. فراحوا يتبادلون الرسائل عن عملهم وعن التقدم الذي حققوه من خلال خدمة الدردشة ضمن تطبيق "ديسكورد"، كلّ ذلك تحت إشراف باحثين أكبر سناً مختصين بالتاريخ الكلاسيكي، وكان أولئك يُذهلون أحياناً بعمل المؤرخين الهواة، ويوجهون لهم انتقادات في أحيان أخرى.

أعلن فريدمان مع شريكه الباحث الأكاديمي برينت سيلز، أستاذ علوم الكمبيوتر والخبير في اللفائف، أن مجموعة من المتسابقين تمكنوا من نسخ محتوى أكثر بكثير من مجرد أربع فقرات من إحدى اللفائف. وفي حين ما يزال مبكراً استخلاص أي استنتاجات عريضة من هذا العمل، أعرب فريدمان عن ثقته بأن هذه التقنيات ستساعد على كشف مزيد من محتوى اللفائف. وقال "هدفي فكّها جميعاً".

بداية الحكاية

قبل ثورة بركان فيزوف، كانت هركولانيوم بلدة تشاطئ خليج نابولي، وكانت في زمنها متنفساً لأثرياء روما للاسترخاء والتأمل. بعد أن أصيبت بومبي مباشرة بالحمم البركانية، دُفنت هركولانيوم تدريجياً تحت الرماد والخفان وما حواه من غازات. وعلى الرغم من فظاعة الكارثة التي ألمّت بها، تسنّى لمعظم سكانها الهرب، وحُفِظ جزء كبير من المدينة سالماً تحت الصخور البركانية المتصلّبة.

اكتشف مزارعون محليون المدينة للمرّة الأولى في القرن الثامن عشر، حين عثر بعض حَفرة الآبار على تماثيل رخامية تحت الأرض، إذ بلغ أحد أولئك المزارعين في عام 1750 الأرضية الرخامية للفيلا التي يُعتقد أنها تعود إلى السيناتور لوسيوس كالبورنيوس بيزو كيسونينوس، والد إحدى زوجات يوليوس قيصر، ويسميه المؤرخون المعاصرون بيزو.

كان معظم المنقبين الأوائل، الذين حفروا أنفاقاً ليتبينوا منها شكل الفيلا، يبحثون عن التحف القيّمة بديهياً، مثل التماثيل واللوحات وغيرها من الأواني المنزلية. في البداية، ظن من رأوا اللفائف المبعثرة على امتداد الأرضية المزينة بالفسيفساء الملونة أنها مجرد حطب، فألقوا بها في النار. لكن لاحظ أحدهم لاحقاً أن هذا الحطب غالباً ما كان يُعثر عليه في أماكن تبدو أشبه بمكتبات أو غرف مطالعة، فأدركوا أنها أوراق بردي محترقة، ولكن كلمّا حاولوا فض واحدة، كانت تتفتت في أيديهم.

مرّت على هذه اللفائف ويلات في العقود التالية، فقد تضمنّت المحاولات العلمية المزعومة لفضها سكب الزئبق عليها (لا تحاولوا ذلك) وتعريضها لمزيج من الغازات (لا تحاولوا ذلك أيضاً)، حتى أن بعض اللفائف نُشرت إلى نصفين وجُوفّت، وتعرضت بشكل عام لإساءات ما تزال تدمع لها أعين المؤرخين.

كان الكاهن أنتونيو بياغيو أكثر من دانى فض مخطوطة، فقد بنى في نهاية القرن الثامن عشر أداةً خشبيةً لشدّ خيطان حريرية تتصل بطرف اللفائف ويمكن تعديلها بسهولة بغرض فتح المخطوطة برفق، بمعدل إنش واحد في اليوم. خلافاً للتوقعات، نجحت هذه الآلية نوعاً ما بفتح بعض اللفائف، ولكنها كانت غالباً ما تلحق بها ضرراً أو تمزقها. وخلال القرون التالية، تمكّنت فرق نظمتها قوى أوروبية متعددة، بينها فريق أنشأه نابوليون بونابرت من جمع الفتات الممزق من نصوص غير قابلة للقراءة كانت مبعثرة هنا وهناك.

كنز تاريخي

ما تزال الفيلا مدفونة بمعظمها إلى اليوم، فأجزاء واسعة منها لم تنبشها أعمال التنقيب وهي محظورة حتى على العلماء. أمّا أغلب النصوص القابلة للقراءة التي عثر عليها هناك، فنُسبت إلى الفيلسوف والشاعر الأبيقوري فيلوديموس، ما أعطى المؤرخين بارقة أمل بوجود مكتبة ضخمة مدفونة في مكان آخر في الموقع. فهم يرجحون أن رجلاً ثرياً ومثقفاً من وزن بيزو يُقدّر أنه كان يمتلك أعمالاً كلاسيكيةً، وكذلك أعمالاً معاصرة تتناول موضوعات التاريخ والقانون والفلسفة.

قال ريتشارد جانكو، الأستاذ المتخصص بالدراسات الكلاسيكية في جامعة ميشيغان، الذي اعتاد قضاء ساعات طويلة في جمع فتات اللفائف يدوياً كما لو كانت قطع أحجية: "أؤمن حقاً أن ثمة مكتبة أكبر بكثير هنا، ولا أرى سبباً يمنع أن تكون ما تزال محفوظة بالطريقة نفسها".

قال جانكو، إنه كان بإمكان أي مواطن عادي من ذلك الزمن أن يملك مجموعات من عشرات آلاف اللفائف. ويُعرف عن بيزو تبادله الرسائل مع السياسي الروماني شيشرون، كما أن القديس بولس الطرسوسي مرّ بالمنطقة قبل بضعة عقود من ثورة البركان، فربما كان في ذلك الموقع كتابات عن زيارته تتطرق إلى المسيح والديانة المسيحية.

قال جانكو: "لدينا حوالي 800 لفافة من الفيلا اليوم، ولكن قد يكون هناك آلاف أو عشرات الآلاف".

في العصر الحديث، لمع نجم أستاذ علم الكمبيوتر برينت سيلز في جامعة كنتاكي كواحد من أبرز الباحثين في مجال المخطوطات، فقد استخدم على مرّ العقدين الماضيين تقنيات التصوير الطبية المتطورة المصممة للتصوير المقطعي وصور الأشعة فوق الصوتية من أجل تحليل النصوص القديمة التي تعذرت قراءتها، مركزاً على مخطوطات هركولانيوم. قال: "كنت مضطراً لذلك، فلم يكن أحد آخر يعمل عليها، ولم يكن أحد يظن أن الأمر ممكن".

إلا أن التقدم كان بطيئاً. أنشأ سيلز برنامجاً إلكترونياً يستطيع نظرياً إجراء مسح للفائف وفتحها افتراضياً، إلا أن البرنامج أخفق بالتعامل مع لفافة هركولانيوم حقيقية حين أخضعها للاختبار عام 2009. وقال: "كان ما رأيناه معقداً لدرجة أنه فاق كلّ برمجياتي، لم تكن الطبقات داخل اللفائف متماثلة، كانت متشابكة ومتداخلة فيما بينها، ولم تقدر برمجيتي على تتبعها بموثوقية".

دخول الذكاء الاصطناعي

في عام 2016، تمكّن سيلز مع طلابه من قراءة لفافة عين جدي المتفحمة التي تحتوي نصاً قديماً باللغة العبرية، وذلك من خلال إعادة ضبط برنامجهم الإلكتروني المتخصص، ليكشف عن تغيرات في الكثافة بين المخطوطة المحترقة والحبر المحترق على سطحها، فأتاح البرنامج إضاءة الأحرف لتبرز على الخلفية الداكنة.

أمل فريق سيلز أن يتمكن من تطبيق هذه التقنية على مخطوطات هركولانيوم، ولكن اتضح أنها مكتوبة بحبر مختلف مستند إلى الكربون، فلم تقدر معدات المسح الضوئي من إبراز الأحرف بالطريقة نفسها.

خلال السنوات الماضية، بدأ سيلز تجاربه باستخدام الذكاء الاصطناعي. فأجرى وفريقه مسحاً للفائف باستخدام ماكينات مسح ضوئي أكثر فعالية، وتفحصوا أجزاء ورق البردي حيث كان الحبر ظاهراً، ودربوا الخوارزميات على ما تبدو عليه تلك الأنماط. وأملوا أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من رصد تفاصيل لم تلحظها العين البشرية، وتطبيق ما تعلمه على الأجزاء الأكثر إبهاماً من اللفائف. أتى هذا النهج ثماره، ولكن التقدم ظلّ بطيئاً جداً. فقد كشفت تقنية سيلز عن أجزاء من اللفائف، ولكن قراءتها بقيت مستحيلة تقريباً. لقد كان بحاجة إلى طريقة جديدة.

شغّل فريدمان خدمة "تنبيهات غوغل" عام 2020 ليتلقى آخر المستجدات حول سيلز والمخطوطات، حين كان ما يزال في بدايات هوسه بروما. مرّت سنة ولم يتلق أي خبر، فراح يشاهد مقاطع فيديو على "يوتيوب" لسيلز وهو يناقش التحديات التي يواجهها، ومنها حاجته إلى المال.

بحلول 2022، كان فريدمان قد اقتنع بقدرته على المساعدة. دعا سيلز لحضور فعالية في كاليفورنيا يجتمع فيها بعض روّاد وادي السيليكون لمناقشة أهم الأفكار. قدم سيلز عرضاً مقتضباً عن المخطوطات أمام المجموعة، لكنه لم يحظَ بأي تجاوب. قال فريدمان "شعرت بالكثير من الذنب والإحراج لأنه أتى إلى كاليفورنيا، ولكنها خيبته".

خطر لفريدمان فجأة أن يقترح على سيلز إقامة مسابقة، وعرض أن يستخدم بعضاً من ماله الخاص لتمويلها، كما عرض شريكه الاستثماري دانيل غروس تقديم مبلغ مماثل.

جوائز مليونية

كان سيلز مدركاً للتنازلات التي سيضطر لتقديمها، فقد كرّس حياته للعمل على مخطوطات هركولانيوم، وكان يرغب بأن يكون هو من يحلّ لغزها، كما كرّس عدد من طلابه كثيراً من وقتهم وجهدهم للمشروع، وكانوا يعتزمون أن ينشروا أعمالاً بحثية عن عملهم. والآن من حيث لا يدري، اقتحم ثريان من وادي السيليكون ملعبه، معتقدين أن أشخاصاً اعتباطيين على الإنترنت سيقدرون على تحقيق إنجازات حيث عجز الخبراء قبلهم.

إلا أن رغبته بقراءة ما في تلك اللفائف غلبت سعيه للمجد، فوافق على أن يستمع إلى فريدمان وأن يساعد في إعداد مسابقة الذكاء الاصطناعي. هكذا، أطلقا "تحدي فيزوف" في 15 مارس من العام الماضي، وقد أعلن فريدمان عن المسابقة عبر المنصة التي نحنّ لاسمها القديم "تويتر". كما وافق كثير من أصدقائه في مجال التقنية على دعم هذا الجهد بأموالهم الخاصة أيضاً، فيما بدأت مجموعة مبتدئين في عالم المخطوطات العمل على هذه المهمة. وفي غضون أيام، كان فريدمان قد جمع ما يكفي من المال لتقديم جوائز قدرها مليون دولار، بالإضافة إلى بعض المبالغ الإضافية مخصصة للعمل على بعض الأساسيات المستهلكة للوقت.

وظّف فريدمان أشخاصاً عبر الإنترنت من أجل جمع الصور المسحية المتوفرة للفائف وتصنيفها وإنشاء أدوات برمجية تسهّل تقسيمها إلى أجزاء وتسطيح الصور بما يتيح قراءتها على شاشة كمبيوتر. وبعد أن وجد بعض الأشخاص الذين يجيدون ذلك، ضمّهم إلى فريق العمل الخاص بالمسابقة، مقابل 40 دولاراً في الساعة. هكذا، بدأت هوايته في التحول إلى أسلوب حياة.

ساعدت الموجة الأولى من الاهتمام الذي حصدته المسابقة على فتح أبواب جديدة. كان سيلز قد ضغط في السابق لسنوات على بعض جامعي التحف الإيطاليين والبريطانيين ليسمحوا له بإجراء مسح ضوئي لأولى اللفائف. فجأة، عرض الإيطاليون عليه لفافتين جديدتين لمسحهما من أجل توفير مزيد من البيانات لتدريب الذكاء الاصطناعي. وبدعم من فريدمان، انكب فريق العمل على صنع حافظات بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد ذات قياسات دقيقة لحماية المخطوطات الجديدة في رحلتها على متن طائرة خاصة من إيطاليا إلى مسرّع جسيمات في إنجلترا، حيث خضعت لعمليات مسح ضوئي لثلاثة أيام متتالية بتكلفة تقدر بنحو 70 ألف دولار.

عملية معقدة

تبلور رؤية عملية المسح الضوئي على أرض الواقع سحر وصعوبات هذا العمل. مثلاً، حجم إحدى بقايا لفافة وُضعت في جهاز الماسح الضوئي ليس أكبر من إصبع سمين. غُمرت اللفافة بأشعة سينية عالية الطاقة، كما الإنسان حين يخضع لصورة أشعة مقطعية، إلا أن الصور التي نتجت عن ذلك كانت بدقة عالية جداً. (حوالي 8 ميكروميتر إذا كنت من المهووسين بذلك وتريد أن تعرف الرقم بالضبط).

ثم قُطعت الصور تقطيعاً افتراضياً لتصبح حزمة شرائح لا يمكن للإنسان عدها من دون أن يستعين بأجهزة، وفي كل قطعة، رصد جهاز المسح الضوئي تباينات متناهية الدقة في الكثافة والسماكة. استُخدم بعدها برنامج إلكتروني من أجل فتح هذه القطع وتسطيحها، فبدت الصور التي نتجت عن ذلك أشبه بأوراق بردي اختفت الكتابة عنها.

بما أن الملفات الناتجة عن مثل هذه العملية ضخمة جداً وتصعب معالجتها عبر كمبيوتر عادي، لم يستطع فريدمان أن يطلب من المتسابقين العمل على لفافة كاملة. لذا من أجل التأهل للفوز بالجائزة الكبرى وقدرها 700 ألف دولار، تعيّن على المتسابقين قراءة فقط أربعة مقاطع من نص متواصل تشمل 140 حرفاً على الأقل بحلول نهاية 2023.

وقد خُصّصت جوائز أصغر تتراوح بين ألف و100 ألف دولار لبعض الإنجازات المرحلية التي تقود نحو هذا الهدف، مثل أول شخص يقرأ أحرفاً من لفافة أو يبتكر برنامجاً إلكترونياً قادراً على تبسيط عملية المسح الضوئي. وقد أصرّ فريدمان الذي عمل سابقاً في الأنظمة مفتوحة المصدر أنه ينبغي على المتسابقين ليفوزوا بالجوائز أن يوافقوا على إخبار العالم عن كيفية توصلهم لاكتشافاتهم.

اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر مجاني ومفتوح حقاً؟

جذبت المسابقة لوك فاريتور، 22 عاماً، منذ اللحظة الأولى، فهذا الشاب الجامعي المتحمس من نيبراسكا الذي غالباً ما يردد عبارة "يا إلهي"، كان قد سمع فريدمان يتحدث عن المسابقة في بودكاست في مارس، حين قال "أعتقد أن ثمة احتمال بنسبة 50% أن يصادف شخص ما هذه الفرصة، ويطّلع على البيانات ويتحمّس لها، بما يتيح لنا حل اللغز هذا العام". وفكّر فاريتور بينه وبين نفسه "قد أكون أنا هذا الشخص".

لم ترد خلال الأشهر الأولى إلا بضع صور ملطخة غير مجدية، ثمّ سجّل عالم الرياضيات والفيزياء الأسترالي متعدد المواهب كايسي هاندمير نقطة لصالح العنصر البشري، بأن سبق الكمبيوترات في تحقيق الإنجاز الأول.

حاول هاندمير في البداية كتابة شيفرة برمجية لقراءة اللفائف، إلا أنه ارتأى أن حظه قد يكون أوفر إذا ما اكتفى ببساطة بالتحديق بالصور لفترة طويلة. وفي نهاية المطاف، بدأ يلاحظ ما سمّاه لاحقاً مع المتسابقين الآخرين بـ"الانسلاخات"، وهي عبارة عن أنماط متناهية الدقة من التشققات والخطوط على الصفحة، تبدو أشبه بما قد يبدو عليه الطين في قاع بحيرة جفّت. بدا لهاندمير أن هذه الانسلاخات تتخذ شكل أحرف يونانية ولطخات وخطوط كالتي تبدو عند الكتابة بالحبر يدوياً، فخلص إلى أنها حبر جاف انسلخ عن سطح الورقة.

دفع اكتشاف الانسلاخات هاندمير ليحاول تحديد أجزاء أحرف في صورة لفافة واحدة. وانسجاماً مع روح المسابقة، نشر ما توصل إليه على قناة "تحدي فيزوف" على "ديسكورد" في يونيو.

في ذلك الوقت، كان فاريتور متدرباً صيفياً لدى شركة "سبيس أكس" (SpaceX). كان في غرفة الاستراحة يشرب "كوكا كولا دايت" حين قرأ ذلك ولم يصدق ما رأى، لكن ذهوله لم يطل، فانكب خلال الشهر التالي على البحث عن الانسلاخات في ملفات الصور الأخرى، فكان يجد حرفاً هنا وحرفين هناك. لم تكن الأحرف ظاهرة للعين المجردة ولكن 1% إلى 2% منها كانت بها انسلاخات. استخدم بعدها الأحرف القليلة التي وجدها من أجل تدريب نموذج برمجي على التعرّف على الحبر المخفي، ما ساعد على اكتشاف بعض الأحرف الإضافية.

أضاف بعدها فاريتور هذه الأحرف إلى البيانات المستخدمة في تدريب النموذج، مكرراً عمليته عدّة مرّات. فكان النموذج يبدأ بأمر يمكن للبشر فقط رؤيته، أي نمط الانسلاخ، ثمّ يتعلم أن يرى الحبر الذي لا نستطيع أن نراه.

تحالف ثلاثي

على عكس النماذج اللغوية من الذكاء الاصطناعي السائدة اليوم والملتهمة للبينات، كان يكفي برنامج فاريتور أن يعمل على فتات البيانات. فلكلّ صورة حجمها 64 بيكسل طولاً ومثل ذلك عرضاً، كان يُطرح سؤال بسيط على النموذج هو: هلى تحتوي على حبر أم لا؟ كان مفيداً أن ما ستجده معروف لدينا، وهو أحرف يونانية مكتوبة ابتداء من الجانب الأيمن لألياف البردي المتقاطعة.

حصل فاريتور على الفرصة لاختبار برمجيته في بداية أغسطس. كان قد عاد إلى نيبراسكا ليمضي ما تبقى من فصل الصيف، وذهب إلى حفلة في منزل صديق، حين ظهرت صورة جديدة مليئة بالانسلاخات على قناة المسابقة على "ديسكورد".

وفيما كان الناس حوله يرقصون ويشربون، اتصل فاريتور عبر هاتفه عن بعد بالكومبيوتر في مهجعه، وأدخل الصورة إلى نظام تعلم الآلة لديه، ثمّ وضع هاتفه جانباً. قال: "بعد حوالي ساعة، نقلت أصدقائي المترنحين إلى منازلهم، وفيما كنت أخرج من المرآب، ألقيت نظرة على هاتفي، ولم أكن أتوقع أن أجد شيئاً، لكن حين فتحته كانت هناك ثلاثة أحرف يونانية على الشاشة".

بعث فاريتور رسالة إلى أمه وإلى فريدمان والمشتركين الآخرين عند الثانية فجراً ليخبرهم عن اكتشافه، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، ويستذكر قائلاً: "في تلك اللحظة شعرت يا إلهي، سننجح، سنتمكن من قراءة اللفائف".

بعدها بوقت قصير، وجد فاريتور 10 أحرف وفاز بجائزة 40 ألف دولار عن التقدم الذي أحرزه في إطار المسابقة. اطّلع الباحثون في التاريخ الكلاسيكي على عمله، وقالوا إنه عثر على كلمة يونانية تعني "أرجواني".

واصل فاريتور تدريب نموذج تعلّم الآلة الخاص به على بيانات الانسلاخات ونشر ما يعثر عليه على "ديسكورد" و"تويتر" (إكس حالياً). وقد جددت اكتشافاته وكذلك تلك التي توصل إليها هاندمير حماسة المتسابقين، وبدأ بعضهم باستخدام تقنيات مشابهة. في النصف الثاني من العام الماضي، تحالف فاريتور مع متسابقين آخرين، هما يوسف نادر وجوليان شيليجير، حيث اتفقوا على دمج التقنيات التي توصلوا إليها وتقاسم أموال الجوائز.

اختيار الفائز

في نهاية المطاف، شارك 18 عرضاً في مسابقة "تحدي فيزوف" للحصول على الجائزة الكبرى. وفيما كانت بعض العروض بلا فائدة، إلا أن بعضها الآخر أثبت أن رهان فريدمان ناجح. إن صور اللفائف التي كانت في السابق مجرد لطخات مبهمة، ظهرت فيها فقرات من أحرف كاملة مضاءة.

لقد نجحت أنظمة الذكاء الاصطناعي في إحياء الماضي. تعليقاً على ذلك، قال توبياس رينهاردت، أستاذ الفلسفة القديمة والأدب اللاتيني في جامعة أوكسفورد إنه "كباحثين في التاريخ الكلاسيكي، لا نواجه عادةً مثل هذه الحالات، ففي أغلب الأحيان النصوص التي نطلع عليها يكون أحد ما قد اطلع عليها قبلنا. فكرة أن تقرأ نصاً من لفافة كانت مفتوحة على مكتب أحدهم قبل 1900 سنة أمر لا يصدق".

قيّمت مجموعة باحثين في التاريخ الكلاسيكي كافة العروض المشتركة، واختارت فريق فاريتور للفوز في المسابقة. فقد تمكّنوا من تركيب أكثر من 12 عموداً من النصوص مع فقرات كاملة. ما يزال العلماء بصدد ترجمة النص، وهم يعتقدون أنه ينتمي إلى أحد أعمال فيلوديموس يتناول فيه ملذات الموسيقى والطعام وتأثيرها على الحواس.

قال جانكو وهو أحد الخبراء الذين يعملون على مراجعة النص: "كانت رؤية الصور الأولى القابلة للقراءة إلى حد ما، ومباشرة العمل لترجمتها تجربة استثنائية مفعمة بالمشاعر". وفي حين لم تكشف هذه الفقرات عن معلومات عظيمة عن روما القديمة، إلا أن معظم الباحثين في التاريخ الكلاسيكي يعلّقون آمالهم على ما سيأتي لاحقاً.

هنالك بالطبع احتمال أن يكون هذا كل ما ستقدمه الفيلا، فقد لا تحوي على مكتبات فيها آلاف المخطوطات التي تنتظر من يكتشفها، أو قد لا تحتوي المخطوطات المتبقية على أي معلومات مثيرة. ولكن هناك احتمال أيضاً أن تحتوي على دروس قيّمة تحمل فائدة لعالمنا المعاصر.

بلدة فوق بلدة

هذا العالم المعاصر يضم بالطبع بلدة إيركولانو التي يسكنها نحو 50 ألف نسمة، وقد شُيدت فوق هركولانيوم القديمة، حيث يملك عدد من السكان أراضي ومباني فوق موقع الفيلا. قالت فديريكا نيكولاردي، خبيرة ورق البردي في جامعة نابولي فديريكو الثاني: "سيضطرون لطرد السكان من إيركولانو وتدميرها بالكامل من أجل اكتشاف المدينة القديمة".

بعيداً عن إجلاء السكان، يعمل فريدمان على صقل كل الموارد المتوفرة لديه، فما يزال هناك كثير من العمل. لقد أثمرت المسابقة الأولى عن كشف 5% من لفافة واحدة، ويتوقع أن تتمكن مجموعة جديدة من المتسابقين من الكشف عن 85%.

كما يرغب فريدمان في تمويل ابتكار أنظمة مؤتمتة أكثر من شأنها أن تسرع عملية المسح الضوئي وتسهلها رقمياً. وهو واحد من الأشخاص القلائل الذين زاروا أنفاق الفيلا، ويدرس أيضاً شراء أجهزة مسح ضوئي تُركب مباشرة في الفيلا، ويمكن استخدامها بشكل مواز لمسح أطنان من اللفائف في اليوم.

قال: "حتى لو لم يُعثر هناك إلا على حوار واحد لأرسطو أو قصيدة هومرية جميلة أو رسالة من جنرال روماني يتحدث فيها عن يسوع المسيح... كل ما تحتاجه هو أحد هذه الأشياء ليكون الأمر يستحق العناء".

تصنيفات

قصص قد تهمك