بلومبرغ
في منتصف يناير، بدأت "جينينتِك" (Genentech) البحث عن 200 مريض لتختبر ما إذا كان أحد عقاقيرها التجريبية يفلح في تثبيط التهاب القولون التقرحي، وهو نوع عضال ومؤلم من التهابات الأمعاء. حتى ذلك الحين، كان ذاك المُركّب يُعطى فقط في تجارب لعلاج أمراض الرئة والجلد.
عادةً ما يتطلب البتّ في تحويل عقار للاستخدام في علاج مرض مختلف عن غرضه الأصلي سنوات من العمل المضني في المختبرات، لكن شركة التقنية الحيوية، ومقرها كاليفورنيا، حققت ذلك خلال تسعة أشهر فحسب.
ما اختلف هو إعمال الذكاء الاصطناعي، الذي قالت الشركة إنه ساعد باحثيها في تمحيص ملايين الاحتمالات، للتأكد من أن العقار قد يفيد في علاج الأمراض التي تؤثر على خلايا القولون.
قالت أفيف ريغيف، عالمة الأحياء الحاسوبية في "جامعة هارفرد" و"معهد ماساتشوستس للتقنية" التي أخذت إجازة من عملها الأكاديمي لتدير وحدة الأبحاث والتطوير لدى "جينينتِك": "ليس الأمر وكأن الحاجة للعنصر البشري انعدمت... بل كأن العنصر البشري حظي فجأة بقوة خارقة".
تحفيز التطوير
هذا المشروع مثال واحد فقط على تبني قطاع صناعة المستحضرات الصيدلانية للذكاء الاصطناعي بغية دفع تطوير العقاقير بقوة بالغة.
لدى "روش" (Roche)، الشركة السويسرية التي تملك "جينينتِك"، بعض أكثر الخطط طموحاً، بما يشمل تصميم أداة ذكاء اصطناعي توليدي لها اسمها "روش جي بي تي" (RocheGPT). قالت ريغيف إن الهدف ليس تسريع الخطى فحسب، بل الإجابة على أسئلة لم يكن ممكناً الإجابة عنها قبلاً.
تصف ريغيف الدفعة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي بأنها تشبه تعاطي عالِم للمنشطات.
لكن الاختبار الحقيقي لقطاع التقنية الحيوية هو ما إذا كان يرجح أن تنجح العقاقير المطوَّرة بمساعدة الذكاء الاصطناعي في علاج المرضى أكثر من تلك التي طورها البشر من دون مساعدة. رغم أن هذا غير مؤكد إطلاقاً، فإن المال يتدفق إلى القطاع.
اقرأ أيضاً: تطوير الذكاء الاصطناعي للعقاقير قد يُدر 50 مليار دولار
وجدت "بوسطن كونسلتينغ غروب" (Boston Consulting Group) أن مستثمرين ضخوا على مدى العقد الماضي، نحو 18 مليار دولار في شركات التقنية الحيوية التي تعطي الذكاء الاصطناعي الأولوية، أي أن عمل وحدات الأبحاث والتطوير لديها يتمحور على أدوات الذكاء الاصطناعي. لقد ذكر أغلب الرؤساء التنفيذيين الذكاء الاصطناعي في عروضهم التقديمية في مؤتمر "جيه بي مورغان" للرعاية الصحية، الذي عُقد في سان فرانسيسكو في يناير، وهو أكبر محافل القطاع.
دور التقنية
جذب التهافت على الذكاء الاصطناعي في قطاعي المستحضرات الصيدلانية والتقنية الحيوية، الذي يشابه حمّى الذهب، أيضاً اهتمام "إنفيديا"، وهي أكبر شركات تصنيع الرقائق من حيث القيمة عالمياً. شهدت الشركة المفضلة في وادي السيليكون ارتفاعاً في قيمتها السوقية لأكثر من ثلاثة أضعاف خلال الأشهر الـ12 الماضية إلى 1.56 تريليون دولار، أي أكثر من ضعفي قيمة "إيلي ليلي"، أكبر شركات تصنيع الأدوية قيمةً، وذلك بدفع من الاهتمام الذي يلقاه "تشات جي بي تي" وغيره من تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تعتمد على قوة حاسوبية تحوزها رقائق "إنفيديا".
تسعى "إنفيديا" منذ أكثر من عقد لإقناع قطاع تصنيع الدواء بتبني رقائقها، التي قد تُباع بأسعار تبلغ 50 ألف دولار للرقاقة الواحدة. الآن، تعتقد الشركة أنها قد دخلت هذا المجال، إذ لديها بعض التعامل على الأقل مع أكبر عشرين شركة لتصنيع الدواء، وأكثر من 2500 شركة ناشئة. كما أبرمت صفقات أبحاث أكثر تعمقاً مع بعض كبريات شركات تصنيع الدواء، ومنها "روش".
قال جنسن هوانغ، رئيس "إنفيديا" التنفيذي، إن ما تحقق حتى الآن يمثل نسبة ضئيلة مما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي لتطوير العقاقير.
اقرأ أيضاً: "إنفيديا" تصبح عقل "Chat GPT" وتنضم لنادي "التريليون دولار"
خلال لجنة في مؤتمر "جيه بي مورغان"، قال هوانغ للجمهور في قاعة تغص بالحاضرين إن العقاقير قد تصبح خلال العقد المقبل مصممة كلياً تقريباً عبر عمليات محاكاة في منصات حاسوبية مثل التي تقدمها شركته. أضاف: "نحن عازمون على العمل معكم لدفع التقدم في هذا المجال".
تحول جذري
ستمثّل تلك الخطوة تحولاً جذرياً في عالم تطوير العقاقير. يستغرق طرح عقار جديد في الأسواق عادةً بين 12 و15 عاماً، وفقاً لـ"بي سي جي" (BCG)، وقالت شركة الاستشارات إن البحث والتطوير المدفوعين بالذكاء الاصطناعي قد يساهمان في خفض 25% إلى 50% من الوقت والتكلفة اللازمين للوصول بالعقاقير المرشحة إلى مرحلة التجارب على البشر، لكنه سيظل يتطلب دراسات لإثبات ما إذا كانت العقاقير التي يساهم الذكاء الاصطناعي في ابتكارها تحظى بنسب نجاح أعلى في التجارب السريرية.
اقرأ أيضاً: رئيس "بيوجين" يريد عقاقير ريادية لكن ليس على حساب الربحية
رغم ذلك، قالت كيمبرلي باول، مديرة وحدة الرعاية الصحية في "إنفيديا"، إن نشاط صناعة المستحضرات الصيدلانية يتغير سريعاً استجابةً للذكاء الاصطناعي، إذ تُعتبر شركات ناشئة عديدة نفسها شركات "لتقنيات العلوم الحيوية " وليست شركات تقنية حيوية، إذ تستخدم البيانات "لتحديد الجوانب المرتبطة بعلم الأحياء التي تسعى للعمل عليها، بدلاً من أن يؤثر علم الأحياء على تحديد التقنيات التي تحتاج لاستخدامها".
أوضحت باول أن الفكرة الرئيسية هي قدرة الذكاء الاصطناعي على استيعاب كميات هائلة من مختلف أنواع البيانات. قالت: "ها نحن هنا في عهد (تشات جي بي تي) الذي يكشف لنا بوضوح أن المستقبل هو في التفاعل مع البيانات التي نملكها. المستقبل هو أن نتمكن من وضع بيانات معقدة جداً في نماذج تتيح لنا البحث بطرق لا تبلغها قدرات البشر إطلاقاً. بإمكانك أن تقول صوتياً أو كتابةً: أرجو توليد جزيئات جديدة تشبه هذه لكن لها هذه الخصائص. ما الذي ستفعله الأداة حينئذ؟ ستشرع بالعمل لتأتيك بأفضل عشرة اقتراحات تعتقد أن تبحث عنها".
سؤال المليون دولار
لم ترتق صناعة الرقائق دوماً إلى مستوى التوقعات المتفائلة كهذه. على سبيل المثال، كانت "إنفيديا" إحدى الشركات التي توقعت أن ذكاء الآلة سيجعل المركبات بحلول 2020 تتولى القيادة، وهي إحدى أعقد وأخطر الأنشطة التي يؤديها الناس. رغم أن قطاع السيارات رفع بشكل هائل من قدر التقنية الذي يجعله في كل مركبة، فإن سيارات الأجرة بلا سائق وأمثالها من المركبات ما تزال بعيدة جداً عن أن تكون جزءاً من الحياة اليومية.
تساءل أندرس روماريه، كبير مسؤولي المعلومات والتقنية الرقمية في "نوفو نورديسك"، الشركة الدنماركية التي تصنع عقار "أوزمبك" (Ozempic) لداء السكري وحقن خفض الوزن "ويغوفي" (Wegovy): "هل سنشهد خلال خمس سنوات عملية متكاملة الأركان مبنية على الذكاء الاصطناعي لاكتشاف أدوية؟ أعتقد أن هذا هو سؤال المليون دولار".
بدأت "نوفو نورديسك" فعلاً بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مختلف قطاعات الشركة، إذ تستخدمه في كل الأمور بدءاً من تسريع الإفصاحات للجهات التنظيمية، وحتى الإشراف على جودة الإنتاج.
قال روماريه إن العاملين يستخدمون "تشات جي بي تي" ضمن جدار الحماية في نظام الشركة أكثر من 50 ألف مرة شهرياً. لكنه أضاف أنه رغم قدرة الذكاء الاصطناعي على تسريع وتيرة العمل، "فإن طرح دواء للمرضى لا بد أن يكون قراراً للعنصر البشري، مشدداً على علم البشر وفهمهم في نهاية المطاف".
اقرأ أيضاً: شركات الأدوية تجرب التصدي لألزهايمر قبل استحكامه
في "روش"، تمثل جهود الذكاء الاصطناعي جانباً من مسعى الشركة لاستعادة الريادة في تطوير العقاقير بعد سلسلة إخفاقات في تجارب سريرية ضمت مرضى في حالات متأخرة، بما فيها عقاقير لعلاج مرضى السرطان وألزهايمر.
تُعد "جينينتِك" رائدة في قطاع التقنية الحيوية ومسؤولة عن بعض أفضل عقاقير مرض السرطان مبيعاً في التاريخ، لكنها واجهت صعوبات في تطوير عقاقير تحقق نجاحاً خارقاً خلال السنوات الأخيرة.
تجارب جديدة
في مشروع تطوير عقار لعلاج التهاب القولون التقرحي، كان لدى الباحثين أساس علمي يشير إلى أن عقاراً تجريبياً استحوذت "جينينتِك" عليه في أغسطس 2022 من "كينيكسا فارماسيوتيكالز" (Kiniksa Pharmaceuticals) قد يفلح بعلاج أمراض القولون.
استخدم الباحثون تقنية تعلّم الآلة لتحليل الخلايا المفردة، ثم لجأوا لأداة رقمية أخرى لإجراء ما يُعتبر بالأساس بحثاً عكسياً عن الصور لنوع محدد من الخلايا في القولون يمكن أن يتأثر بالعقار.
تُشبّه "جينينتِك" الأمر بتدريب خوارزمية على اكتشاف التوت الأزرق في سلطة فواكه، أي تدريبها على اكتشاف خلايا تظهر عليها إحدى خصائص مرض ما، ثم استخدام الذكاء الاصطناعي للعثور على خلايا لها خصائص مشابهة في مناطق أخرى من الجسم. لكن التجارب السريرية فقط هي التي ستكشف إلى أي مدى قد يكون العقار الذي ساهمت الخوارزميات في ابتكاره مفيداً.
اقرأ أيضاً: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي تخفيف معاناة من فشل الطب بعلاجهم؟
قال ألفا لي، الفيزيائي في جامعة كامبريدج الذي أخذ إجازة أكاديمية حتى 2027 ليشارك في تأسيس "بوست إيرا" (PostEra)، وهي شركة تقنية حيوية لتعليم الآلة، إن العلماء قد بيّنوا أن الخوارزميات بإمكانها أن تسرّع بشكل هائل الفترة المطلوبة للعثور على مركّب كيميائي يصيب هدفاً محدداً في الخلية، أي ما يشبه العثور على المفتاح المناسب لفتح قفل.
قال لي إن ما لم يتضح بعد هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي بإمكانه أن يكون أكثر فاعلية من البشر في العثور على القفل الصحيح لفتحه. أضاف لي أن لهذا السبب لن يثبت الذكاء الاصطناعي نفسه على أكمل وجه في مجال علم الأحياء إلى أن تثبت صحة نتائج الدراسات مثل تلك تعمل عليها "جينينتِك" عبر التحليل البشري.
قال لي: "أحياناً حين تفتح الباب، تكتشف أن لا شيء وراءه"، مضيفاً أن الذكاء الاصطناعي "ليس حلاً لجميع العلل" في مجال تطوير العقاقير. قال: "ربما آن الأوان لأن ننظر لكامل المشهد ونتيقن تماماً بشأن أي المشكلات يمكننا حلها (بالذكاء الاصطناعي) الآن، وأن نستشرف خارطة طريق المستقبل".