بلومبرغ
تناولت المسؤولة السابقة بوكالة الاستخبارات المركزية جامي ميستشيك "الأيباد" حين استيقظت عند فجر 7 أكتوبر في منزلها بولاية كاليفورنيا لتطالع الأخبار، فصدمتها أنباء عن هجوم حماس على إسرائيل، وبادرت من توّها بالاتصال بزميلين، أحدهما قائد متقاعد للقيادة المركزية الأميركية، والآخر أدميرال متقاعد في البحرية الأميركية. بدأ الثلاثة بإعداد تقرير عن الأزمة المتصاعدة، واضعين سيناريوهات مختلفة للرد الإسرائيلي المرتقب، والتأثيرات الأوسع التي رجحوا وقوعها.
لم يفعلوا ذلك لصالح وكالة المخابرات المركزية أو أي وكالة حكومية. بل كانت مشورتهم موجهة لموظفي وعملاء شركة "لازارد" (Lazard) للاستشارات المالية وإدارة الأصول، وسارعوا لعقد لقاءات عبر الإنترنت مع مئات من موظفي الشركة لإحاطتهم بالمستجدات، فضلاً عن إعداد بحث لتوضيح كيفية تأثير الوضع المتقلب على الأسواق.
اقرأ أيضاً: غزة تتعرض للقصف بعد هجوم غير مسبوق على إسرائيل
قالت ميستشيك: "لقد كانت مبادرة فورية للعمل. إنه مفهوم أساسي، إذ ينبغي مراقبة أمور مثل: هل سيتسع الصراع؟ هل سيتفاعل حزب الله؟ حين تنخرط في مجال عملي، تخرج بغرائز مصقولة للتمييز بين ما هو مهم وما سواه".
زحف أمني
التحقت ميستشيك وزملاؤها بعدد متنامٍ ممن سبق أن عملوا جواسيساً ودبلوماسيين وجنوداً واتجهوا نحو العمل لدى مصارف. أفادت "إس إس آر بيرسونل" (SSR Personnel)، وهي شركة توظيف مقرها في بريطانيا تساعد الموظفين الحكوميين في العثور على وظائف في القطاع الخاص، أن عدد الوظائف المالية التي تتطلب خلفية في الاستخبارات ارتفع بنسبة 30% خلال العام الماضي.
يغذي هذا التوجه اعترافٌ متزايدٌ بأن المخاطر التي يواجهها المستثمرون تمتد إلى ما هو أبعد من أسعار الفائدة والتضخم وخسائر القروض، وأن تجاهل العوامل الجيوسياسية في أي استثمار ليس من الحكمة في شيء، خاصة هذا العام مع إجراء انتخابات في عشرات الدول.
كان استبيان حديث لآراء 500 مستثمر مؤسسي أجرته شركة إدارة الصناديق "ناتيكسيس" (Natixis) قد أشار إلى احتمالية أن تقلب جهة سياسية مارقة بتدخل واحد توقعات السوق، باعتباره أكبر خطر يحدق بالاقتصاد العالمي.
أعلنت شركة "ماستركارد" في أكتوبر تعيين جيريمي فليمنغ، الرئيس السابق لوكالات الاستخبارات والأمن والإنترنت في المملكة المتحدة. كما بات ديفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، شريكاً في شركة الاستثمار "كولبرغ كرافيس روبرتس آند كو" (Kohlberg Kravis Roberts & Co)، فيما يشغل نيك كارتر، القائد السابق للقوات المسلحة البريطانية، منصب المستشار الخاص لشركة "شرودرز" (Schroders) لإدارة الأصول، التي استقطبت أيضاً السفير البريطاني السابق لدى الصين سيباستيان وود ليقود أعمالها هناك.
هجرة الأدمغة
قال فيل ميدلتون، الرئيس التنفيذي لشركة "شرودرز" في الأميركتين، إن وود وكارتر قدما عشرات الإيجازات والخطابات وسجلا كثيراً من ساعات البث عبر الإنترنت، حيث قدما درايةً لا يستطيع مديرو صناديق "شرودرز" تقديمها.
اقرأ أيضاً: حسابات السوق المعقدة هي سر إخفاق منتقي الأسهم
أضاف ميدلتون أن خبرة وود في الصين عززت فهم العملاء لهذا البلد، كما تساعد آراء كارتر حول الشرق الأوسط المستثمرين على فهم كيف يمكن أن تتفاعل الأحداث بطرق غير متوقعة في هذه المنطقة: "لقد عايش هذا النوع من الأحداث لسنوات عديدة، وهذا يجلب خبرة لم تكن لدينا داخلياً".
بالطبع، تتمثل معظم جاذبية التحول إلى قطاع التمويل في التعويضات المالية. يقول أحد كبار ضباط المخابرات البريطانية السابقين إن راتبه تضاعف ثلاث مرات عندما انتقل للعمل بأحد البنوك، وهي زيادة من شأنها إثارة المخاوف بشأن هجرة الأدمغة على جانبي الأطلسي.
يتفق جيمس بتلر، المؤسس المشارك لشركة "إنتليس سيرش" (Enteles Search) في لندن، مع ذلك وقال إنه لاحظ "ارتفاعاً لافتاً" في عدد محترفي الأمن الباحثين عن وظائف في قطاع التمويل، "هذا بالضبط ما نشهده، معركة حقيقية لاستقطاب صفوة العاملين في المجال الأمني".
تقول هيئة الاتصالات الحكومية البريطانية إن التوظيف المتبادل من القطاع الخاص وإليه، لطالما كان مفيداً للطرفين، بينما رفضت وكالات الاستخبارات الأميركية الرائدة التعليق على الأمر أو الرد على رسائل عبر البريد الإلكتروني.
رواتب ضخمة
تبدأ رواتب ضباط جهاز الاستخبارات العسكرية البريطاني (MI6) من نحو 37 ألف جنيه إسترليني (47 ألف دولار) تقريباً، وبلغ راتب مدير الجهاز ريتشارد مور 160 ألف جنيه إسترليني في سبتمبر 2022. وتقارب رواتب الضباط الجدد في وكالة المخابرات المركزية 67 ألف دولار، فيما يتقاضى ويليام بيرنز 200 ألف دولار تقريباً.
بينما تقول شركة "إس إس آر بيرسونل" إنها تفاوضت على رواتب مصرفية لضباط مخابرات سابقين تصل إلى 500 ألف جنيه إسترليني، مع حوافز طويلة الأجل من شأنها زيادة إجمالي الرواتب بشكل كبير. قال بيتر فرينش، الرئيس التنفيذي لشركة التوظيف: "يبحث مزيد من منسوبي مجال الاستخبارات عن فرص توظيف في قطاع التمويل، الذي له جاذبية كبيرة من حيث ارتفاع الرواتب الأساسية والمكافآت".
هذا لا يعني أن الجواسيس يمكنهم حل جميع مشاكلك. على سبيل المثال، يفقد المحترفون الأمنيون القدرة على الوصول إلى أحدث التقييمات الاستخباراتية بمجرد مغادرة القطاع العام، وغالباً ما يعجزون عن تزويد العملاء بالتفاصيل التي يسعون جاهدين للحصول عليها من دون أن يخالفوا القانون. بالتالي، ينتهي الأمر بالبعض أن يفقدوا ارتباطهم بمهامهم التي كانت لهم في وظائفهم السابقة أو أن يخفقوا في استيعاب تركيز قطاع التمويل على الأرباح بشكل كامل.
قال مايك بلوستون، من سجل محترفي الأمن المعتمدين، وهي هيئة مهنية بريطانية تساعد الجواسيس ورجال الشرطة والعسكريين على الانتقال للعمل بالقطاع الخاص: "تبني نهج مرن هو بالتأكيد سر النجاح في قطاع الشركات. لكن للأسف، لا ينجح الجميع".
اقرأ أيضاً: المرشحون المحتملون للرئاسة الأميركية.. من يواجه ترمب؟
هناك العديد من القضايا الشائكة التي يتعين على الجواسيس السابقين العمل عليها، حيث يساور المستثمرين قلق متزايد حيال التأهب لكل شيء بدءاً من فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة وحتى تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين. بالتأكيد يأتي الصراع بين إسرائيل وحماس على رأس أولويات المستثمرين، وكذلك مدى استمرارية الدعم الغربي لأوكرانيا، وما إذا كانت أوروبا ستقدم مزيداً من التمويل إن انسحبت الولايات المتحدة.
مهمة صعبة
مع ذلك، لا يتعلق العمل اليومي بجمع المعلومات بقدر ما يتعلق بمساعدة العملاء على فهم الحسابات البشرية المؤثرة في الصراعات، والتنبؤ بما قد يحدث لاحقاً. سعى أليكس يونغر، خلال السنوات التي قضاها رئيساً لجهاز الاستخبارات البريطاني، إلى كف يد الإرهاب وزعزعة استقرار الدول المعادية وكثيراً ما كان يزور بؤر التوتر مثل أفغانستان أو الصومال.
غير أن عمله تمحور حول السفر إلى زيوريخ أو نيويورك لعقد اجتماعات مع العملاء والموظفين منذ انضمامه إلى "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) في لندن قبل عامين. قال يونغر: "الأمر يتعلق حقاً بالعلاقات والمعلومات، وهذا عالم مألوف جداً بالنسبة لي".
إلى ذلك، يتزايد الطلب على استقطاب الجواسيس السابقين لمساعدة البنوك على تكثيف مراقبتها الداخلية في ضوء ما تكبده قطاع التمويل من غرامات بمليارات الدولارات على خلفية جرائم مثل استخدام خدمات التراسل غير المصرح بها، والإخفاق في منع غسيل الأموال، وإفشاء معلومات تتعلق بمبيعات أسهم العملاء بشكل غير قانوني.
قال آلان لوفيل، الذي ترأس قطاع الرقابة العالمي في "إتش إس بي سي" بعدما أمضى 26 عاماً في العمل لدى المخابرات البريطانية ووكالة الأمن القومي، ويعمل حالياً في شركة "تريدنغ هاب غروب" (TradingHub Group) للاستشارات المالية: "التحقت بالعمل لدى أحد المصارف بغية الكشف عن الأنماط المشبوهة والمتداولين المحتالين والمطلعين المتلاعبين بالسوق لحماية الأسواق المالية وسمعة البنك".
تتطلع الشركات إلى استقطاب هؤلاء الموظفين الجدد لمساعدتها على تجنب العملاء المشبوهين، وهي مهمة تزداد صعوبتها في ظل التعامل مع أنظمة العقوبات المعقدة التي فرضت في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
قال مايك هيرست، مدير شركة "إتش جيه إيه كونسلت" (HJA Consult) للتوظيف في لندن: "كان رجل الأمن هو من يقول: لا يمكنك أن تفعل ذلك. أما المحترفون الأمنيون الأكفاء فيقولون: علينا أن نكون عناصر تمكين من خلال مواءمة الحماية الأمنية مع احتياجات المؤسسة. عليهم أن يفهموا طبيعة العمل".