بلومبرغ
سيكون هذا العام حاراً لدرجة أن بعض الخبراء يتوقعون أن ينتزع من 2023 صفة أشد الأعوام حرارة في التاريخ المعروف. ولا شك بأن تغير المناخ هو السبب الرئيسي في ذلك، إذ يزيد حرق الوقود الأحفوري كميات غازات الدفيئة في الجو، فيرفع متوسط درجة الحرارة العالمي. في 2023، كان المتوسط أعلى بنحو 1.4 درجة مئوية عما كان عليه قبل الثورة الصناعية. تشير التوقعات الأولية أن هذا العام سيشهد ارتفاع هذين المتوسطين 1.3 و1.6 درجة مئوية.
لكن ما يزيد العلماء يقيناً بتنبؤاتهم لعام 2024 هو ظاهرة إل نينيو، وهي واحدة من ثلاث مراحل لدورة مناخية تستمر لعدة سنوات وتُسمى إل نينيو- التذبذب الجنوبي. أبرز ملامح ظاهرة إل نينيو هو ارتفاع حرارة مياه المحيط الهادئ في قطاعه الاستوائي، فيما تُعد ظاهرة إل نينيا نظيرتها الأبرد. ثمة مرحلة محايدة أيضاً. حين ترتفع درجة حرارة سطح البحر خلال إل نينيو، تزداد معها درجات حرارة الهواء فوق المياه أيضاً نظراً للتغيرات في تيارات المحيط وأنماط الطقس.
ظاهرة إل نينيو
تشبّه أولا هيد، وهي عالِمة تعمل على نمذجة قاع المحيط في منظمة "سي ورذي" (C Worthy) غير الربحية، الأمر بقدر به ماء على سطح موقد، وتقول إن سكبت ماءً بارداً في القدر، "ستشعر بتغير بسيط فحسب في درجة حرارة القدر". هذا فعلياً ما يحدث خلال إل نينيا، حين يرتفع الماء البارد من عمق المحيط إلى سطحه.
لكن إذا توقفت عن سكب الماء البارد، فجأة سترتفع حرارة الماء في القدر بسرعة أكبر، وبيّنت هيد إن هذا هو حال تأثير إل نينيو، وكلما طال أمد ذلك، ازدادت حرارة المحيط الهادئ والهواء فوقه.
قال مايكل ماكفادن، أحد كباء العلماء في الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، إنه نظراً لأن ظاهرة إل نينيو تأخذ عادةً شهوراً لتبلغ ذروتها، فهناك أيضاً "تأخير في الفترة بين ارتفاع درجة حرارة المحيط الهادئ الاستوائي وارتفاع درجة حرارة السطح على مستوى العالم".
بعبارة أخرى، عادةً ما يكون العام الثاني في ظاهرة إل نينيو أكثر دفئاً من الأول.
على مدى العقود القليلة الماضية، نتج عن اقتران تغير المناخ بظاهرة إل نينيو سلسلة من السنوات الأشد حرارة. وفقاً لإحدى الدراسات، ازدادت حدة الظواهر المتطرفة في الفترات بين إل نينيو وإل نينيا بنحو 30% منذ 1960 مقارنة بالعقود الستة السابقة، ويُرجّح أن يكون الاحتباس الحراري عاملاً مساهماً بنسبة الثلث في حدوث ذلك. قد لا تبدو هذه النسبة مرتفعة، لكنها تعني أن "الأحداث المناخية القوية تزداد قوة، وتلك هي الأشد تدميراً"، وفقاً لماكفادن.
ارتفاع صادم
رغم ذلك، فقد كانت درجات الحرارة في العام الماضي صادمة على نحو خاص، فقد كانت كل أشهر 2023 أدفأ من متوسطات الفترة بين 1991 و2020، كما أن النصف الثاني من العام، بعد أن بدأت ظاهرة إل نينيو، حطم الأرقام القياسية المسجلة. كانت درجات الحرارة في الأشهر من يونيو وحتى نوفمبر هي الأعلى على الإطلاق مقارنة بنظيراتها في الأشهر ذاتها على مدى تاريخها المدوّن.
شهد يوليو أعلى درجات الحرارة المسجلة على الإطلاق، وكان 6 يوليو هو الأشد حرارة. كما كان سبتمبر شديد الحرارة بشكل شاذ لدرجة أن زيك هاوسفاذر، عالِم المناخ في "بيركلي إيرث" (Berkeley Earth)، وصف درجات الحرارة القياسية لهذا الشهر بأنها "جنونية بشكل مذهل".
كان جانب من هذا الحر خارج نطاق الأنماط المعتادة لظاهرة إل نينيو. على سبيل المثال، حققت درجات الحرارة في المحيط الأطلسي رقماً قياسياً في أواخر يوليو، وهو أمر لا تتسبب فيه إل نينيو عادةً.
تزيد الطفرات التي حدثت خلال 2023 أهمية دراسة درجات الحرارة في 2024. ثمة تخمينات راجحة بشأن ما سيأتي به الحر هذا العام، نظراً لأن ظاهرة إل نينيو تميل لأن ترفع احتمالات حدوث أنماط جوية معينة في مناطق معينة.
الجفاف والفيضانات
قالت هيد إنه فيما تصبح أدفأ مناطق المحيط الهادئ في شرقه، يمكن أن نتوقع "إعادة انتظام" للرياح والحمل الحراري في المحيطات وهطول الأمطار حول الكوكب. يُرجّح أن يعني ذلك اتجاهاً نحو الجفاف في المناطق المعتادة على قدر أكبر من هطول الأمطار، وعكس ذلك فيما سواها.
لكل من هذين التغيرين تداعيات على الزراعة، إذ أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة تبدي قلقاً خاصاً إزاء انحسار الأمن الغذائي هذا العام بسبب الجفاف في شرق آسيا وجنوب أفريقيا وأميركا الوسطى.
قال ماكفادن إن ظاهرة إل نينيو أيضاً تأتي بطقس جاف إلى منطقة الأمازون، التي تشهد موجة جفاف شديد، وقد تؤدي لمزيد من هطول الأمطار في جنوب شرق البرازيل والأوروغواي المجاورة. في تلك الأثناء، توقع ماكفادن أن يشهد جنوب الولايات المتحدة "طقساً أكثر مطراً وبرداً عن المعتاد" هذا العام.
حرائق الغابات
إن تحويل ظاهرة إل نينيو لمسار المياه الأدفأ ولهطول الأمطار في أنحاء المحيط الهادئ سيقلل من الغيوم في أنحاء جنوب شرق آسيا، خصوصاً في المناطق التي تطل على المحيط. يعني ذلك أن تتسبب الشمس بقدر أكبر من جفاف الأرض والغطاء النباتي، فيزيد خطر إندلاع الحرائق في الغابات.
قال توماس سميث، الأستاذ المشارك للجغرافيا البيئية في كلية لندن للاقتصاد، إن إندونيسيا تواجه منذ 2019 بعض أسوأ حرائق الغابات في تاريخها. ويُرجّح أن ترفع الأشهر القليلة الأولى من هذا العام من خطر نشوب حرائق في تلك المناطق وكذلك في شرق أستراليا.
في الولايات المتحدة وكندا، تشير توقعات إلى أن ظاهرة إل نينيو ستسبب احتراراً في شمال غرب ساحل المحيط الهادئ في فصل الربيع، ما يعني أن تلك المناطق قد تشهد موسم حرائق قاسياً خلال الصيف. قال سميث إن ثمة خطراً كبيراً بشكل خاص بوقوع "سلوك شديد للحرائق" في ألاسكا.
عواصف أشد
أوضحت فيكي تومسون، عالِمة المناخ في المعهد الملكي الهولندي للأرصاد الجوية، أن الانخفاض القياسي في مستوى جليد البحار والارتفاع القياسي في درجات حرارة سطحها خلال العام الماضي قد يؤديان أيضاً إلى تداعيات غير متوقعة في أوروبا. قالت: "يُرجّح أن يؤثر التغير في الجليد البحري على تيار النفث في أنحاء شمال المحيط الأطلسي، وقد يغير موقعه بقدر أكبر، ما قد يؤدي لعواصف أقوى في أنحاء أوروبا. أو أن العواصف قد تسلك مسارات مختلفة وتؤثر على مناطق غير المناطق التي كانت أحرى بالتأثر بها في الماضي".
تبييض الشعاب المرجانية
في ديسمبر، حذرت ورقة بحثية نشرتها دورية "ساينس" المتخصصة من احتمال حدوث ابيضاض للشعاب المرجانية يدمرها على نطاق واسع بسبب ارتفاع حرارة المحيطات. قال آدم سكيف، رئيس وحدة التوقعات طويلة الأجل في مكتب الأرصاد الجوية البريطاني، إنه ليس لديه "أي شك على الإطلاق في أن المحيط الهادئ سيشهد ابيضاض الشعاب المرجانية على نحو غير مسبوق خلال الأشهر المقبلة". في 2016، ثاني أعوام ظاهرة إل نينيو القوية، عانى الحيد المرجاني العظيم من أسوأ موجة ابيضاض له على الإطلاق.
قلق ومخاوف
إن كانت الحكمة التقليدية تفيد بأن العام الثاني من ظاهرة إل نينيو يكون أحر من الأول، فهي تشير أيضاً إلى أن ظاهرة إل نينيو الحالية ستختفي بحلول منتصف 2024. في تلك المرحلة، ينبغي أن تعود درجات الحرارة إلى مستواها الطبيعي، أي إنها ستظل ترتفع لكن دون أن تخرج بشدة عن مألوفها.
لكن حر 2023 يوحي بآليات لتغير المناخ لم نستوعبها بشكل كامل، ومعنى ذلك أنه ليس هناك ضمان بشأن اتباع الحكمة التقليدية.
قال كارلو بونتمبو، مدير "كوبرنيكوس كلايمت تشينج سيرفس" (Copernicus Climate Change Service) في المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى: "لا نعلم ما إذا كان أمر آخر قد حدث في نظام المناخ، وربما نكون قد تخطينا نقطة تحول ما... ليس لدينا دليل على ذلك، وليس لدينا دليل على ضده".