بلومبرغ
كان مايكل يحلم بأن ينضم لسلاح الجو الأميركي، بعدما أتمّ دراسته الثانوية، اتباعاً لتقليد عائلي بالانخراط في القوات المسلحة. لكن بعدما بدأ يعيش مستقلاً عن أسرته، بات يواجه صعوبات في تحقيق أهداف قصيرة المدى مثل سداد فاتورة الكهرباء. عمل مايكل في مخزن تابع لشركة "أمازون"، حيث كان بعض أصحابه يترزقون، لكن ساعات العمل العشر استنزفته، فازداد تغيبه عن العمل بداعي المرض.
فيما كان مايكل يمكث في مسكنه ذات يوم ليلعب ألعاب الفيديو، أضافه أحد الغرباء على تطبيق "سناب تشات" وسأله عما إذا كان يود أن يكسب بضعة آلاف من الدولارات لقاء مهمة تتطلب ساعتي عمل فقط. تجاهل مايكل العرض ظناً بأنه من ضروب الاحتيال، لكنه لم يستطع أن ينساه تماماً، فقد كان يفوق أجره من العمل في المخزن وهو 15.5 دولار في الساعة. أبدى مايكل اهتمامه بالأمر، فسأله الغريب عما إذا كانت لديه سيارة، ثم أوضح له تدريجياً أنه يهدف لتشغيل سائقين.
نقل الشخص الساعي لاستئجار سائقين المحادثة إلى تطبيق "واتساب" الذي يتميز بتشفير الرسائل، واستخدم كلمة "بوليتوس" الإسبانية التي تعني "كتاكيت"، للإشارة إلى الركاب الذين ينبغي أن يقلّهم مايكل من مكان إلى آخر. اختلط الأمر على مايكل في البداية، فبرغم أنه نشأ في منطقة لا تبعد إلا ساعات قليلة بالسيارة عن حدود الولايات المتحدة والمكسيك، إلا أنه لم يعر بالاً لذلك من قبل. لكن الأمر لم يتطلب سوى بحث بسيط على الإنترنت ليكتشف أن "بوليتوس" تُرمز إلى "المهاجرين". وصف الشخص المختص بتشغيل السائقين مايكل أيضاً بأنه سيكون قيوطاً، وهي كلمة شائعة ترمز إلى سائقي مركبات نقل المهاجرين. فاتضحت الصورة بعد ذلك.
إغراء الشباب
تزاحمت الأفكار في رأس مايكل، وسأل الشخص الساعي لتشغيل السائقين عن هوية من سيقلّهم، فقد سمع أن نساءً وأطفالاً يُهرَّبون إلى الولايات المتحدة رغماً عنهم، ولم يكن يرغب بدورٍ في ذلك. أجابه أنه سيوكل إليه نقل رجال آتين للبحث عن عمل في الولايات المتحدة.
ساهم ذلك بتهدئة مخاوف مايكل، كما كان للمبلغ الذين سيحصل عليه، وهو 20 ألف دولار نظير ثلاث رحلات، أثر مشابه. قال مايكل، الذي تحدث مستخدماً اسماً مستعاراً بسبب الخشية على سلامته: "كان المال هو كل ما كنت أفكر فيه. كنت أريد المال فقط".
استعداداً لأولى الرحلات التي كان سيقوم بها، طلب مايكل من أصدقائه أن يعتنوا بكلابه، فحاولوا دفعه لأن يخبرهم عن سبب سفره إلى خارج البلدة، وحين أخبرهم بالحقيقة، أدرك أنه لم يكن هو وحده من تواصل معه الشخص الساعي لتشغيل سائقين. حظر أحد أصدقائه الحساب الذي تواصل معه، ووافق آخر على العرض قبل أن يتراجع عن قراره.
بدأ مايكل يتشكك بصواب قراره بعدما سمع أن التعقل غلب في قرارات أصدقائه. لم يبد له أن تلقي مبلغ كبير من المال يستحق مخاطرةً بدخول السجن، كما أن كايتلين، وهو اسم مستعار لصديقة مايكل، عارضت الفكرة منذ البداية. لكن حين أبلغ مايكل الشخص المختص بتشغيل السائقين تراجعه عن قراره، كان جوابه بأنه سجل اسم مايكل بالكامل وعنوان منزله، رغم أن مايكل لم يشارك قط تلك المعلومات، فاعتبر تلك الرسالة على سبيل التهديد.
بعد أيام قليلة، استيقظ مايكل ليبدأ الاستعداد لرحلته من أقصى الطرف الجنوبي لولاية أريزونا. قرر مايكل أن يصطحب مسدسين، إذ كان عادةً ما يحمل مسدساً أغلب الوقت لكنه قرر أن يُبقي مسدسين بمتناوله على نحو خاص ذلك اليوم. حين بدأ مايكل يتحرك بسيارته مغادراً منزله، ركضت كايتلين لتلحق به ورفضت أن تدعه يذهب وحيداً، فانطلقا معاً.
استرجع مايكل ما حدث قائلاً: "كنا نفكر في الأمور السيئة التي قد تحدث، كما كنا نفكر فيما سنفعله إن نجحنا".
نشاط في الظل
دفعت أزمات إنسانية واقتصادية وبيئية في بقاع تمتد بين فنزويلا غرباً وأوكرانيا شرقاً، بمهاجرين ولاجئين إلى الولايات المتحدة بأعداد قياسية. ويطلب آلاف منهم اللجوء على الحدود الجنوبية. كما يدفع كثير منهم مقابل خدمات مهربي البشر ليساعدوهم في جزء من رحلتهم على الأقل.
في جانب كبير من جنوب كاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو وتكساس، تعمل دوريات الحدود الأميركية والسلطات المحلية لإنفاذ القانون بصرامة لتحديد أماكن المهاجرين الذين دخلوا البلاد دون إذن لترحيلهم. أدت جهودهم إلى ظهور نشاط في الظل لسائقين أميركيين ينقلون المهاجرين سراً إلى مقاصدهم النهائية.
لأن ذلك يجلب آلاف الدولارات عن كل راكب، فإن شبكات التهريب، التي تتكون عادةً من خلايا غير متصلة ببعضها البعض تعمل بإيعاز من عصابات التهريب المكسيكية، تتطلب إمداداً متواصلاً من السائقين لتواكب تدفق المهاجرين الذين يعبرون الحدود لتجديد منسوبيها كلما قبضت الشرطة على بعض من سائقيها. تسعى تلك الشبكات منذ فترة طويلة للاستعانة بأميركيين رقيقي الحال لتستخدمهم، إذ يعتقدون أن تلك الفئة هي الأكثر ميلاً للمخاطرة بالتعرض لاتهامات جنائية مقابل الحصول على مبالغ مالية كبيرة في وقت قصير.
في مدن مثل توسان وكوربوس كريستي في تكساس، يبحث القائمون على تشغيل السائقين في ملاجئ المشردين ومكاتب الرعاية ومتاجر بيع الهواتف المحمولة المستعملة عن سائقين جدد. لكن العاملين سابقاً في تشغيل السائقين يقولون إن التواصل مع أشخاص قد يوافقون على العمل كسائقين على أرض الواقع يتطلب وقتاً طويلاً ومجهود كبيراً، لذا فإن وسائل التواصل الاجتماعي عامل تسريع قوي.
التشغيل عبر الإنترنت
ظهر التشغيل عبر الإنترنت خلال الجائحة ولم يتوقف عن النمو منذئذ. قال ضباط إنفاذ القانون على امتداد الحدود إنهم يواجهون سائقين يقولون إنهم سمعوا عن هذه الوظيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تبدو تلك الممارسة منتشرة بشدة في أريزونا على نحو خاص. تشير تقديرات جاستن دي لا توري، نائب رئيس وحدة دوريات الحدود الأميركية في توسان، إلى أن 90% من السائقين الذين ضبطتهم الوحدة انخرطوا عبر هذه الطريقة. تلك المنشورات ذائعة جداً، حتى أن أبناء دي لا توري رأوها.
دعاوى قضائية تسعى لحماية الأطفال على منصات التواصل
قال ضباط إنفاذ القانون إن "سناب تشات"، الذي يضم قاعدة مستخدمين جلّها من الشباب ويعتمد على الرسائل وخاصية "ستوريز" (stories)، وهي المنشورات التي تختفي بعد فترة قصيرة، أداة مفضلة على نحو خاص. بعد التواصل مع سائقين مهتمين بالعمل، يحوّل القائم على تشغيلهم مسار المحادثة إلى تطبيق مشفر مثل "واتساب"، بالضبط كما حدث مع مايكل.
ثم يشارك إحداثيات الموقع لتوجيه السائقين إلى الطرق الريفية التي يسلكها المهاجرون، الذين يرتدون عادةً ملابس مموّهة ليختفوا عن أنظار ضباط دوريات الحدود، حيث يستوقفون السيارات بعد أن يسيروا لأيام عبر أراضٍ وعرة. في بعض الحالات، تشارك شبكات التهريب المواقع بالتدريج لأن كثيراً من الأدلة التي يحتاجها المدعون العامون قد يمكن العثور عليها في هواتفهم إن ضُبطوا.
البغال العمياء
رغم وجود تقارير مفادها أن هناك سائقين تعرضوا للتضليل بشأن ماهية المهمة التي كُلِّفوا بها، ويُطلق عليهم البغال العمياء، أي أنهم لا يدركون أنهم يُهرّبون، فإن العروض الخادعة ليست منتشرة عادةً. تستدرج شبكات التهريب على "سناب تشات" و"تيك توك" و"إنستغرام" و"فيسبوك" من قد يُغريهم العمل كسائقين لمهام مضمونة الدخل.
تحتل صورة أوراق نقدية من فئة 100 دولار على شكل مروحة خلفية المنشورات، كما يوضح رمز تعبيري يشير للمهاجرين، وهو عبارة عن فرخ يفقس من بيضة أو يقف فيما يفرد جناحيه، طبيعة العمل لذوي الاطّلاع، ويتفادون بذلك أنظمة الإشراف على المحتوى لدى شركات التقنية.
تزداد إمكانية تعرض الناس لعروض التشغيل هذه دون قصد كلما ازدادت منشوراتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قال كريستيان سالتر، وهو محامي دفاع في توسان يُمثّل بانتظام السائقين في قضايا تهريب البشر: "إنهم يعبرون عن حياتهم عبر الإنترنت... تلك المعلومات عنهم هي ما ينتظره المعنيون بتشغيل السائقين".
الشبان مثل مايكل مطلوبون على نحو خاص، إذ يرى المهربون أنهم مندفعون ولا يُرجّح أن يتخاذلوا إن طاردهم ضباط دوريات الحدود. قالت غوينيفير نيلسون-ميلبي، وهي أيضاً محامية دفاع أخرى تعمل في توسان: "الكثير منهم فتية لم يكتمل نمو الفص الأمامي من أدمغتهم بعد". كما قال محامو الدفاع إنهم شهدوا قدراً أكبر من استقطاب الأمهات الشابات من ذوي البشرة السوداء خلال الأشهر الأخيرة، وهذا يدل على استهداف مدروس لمن يُرجّح أنه أحوج للمال.
فئة مستضعفة
كانت جينيفر، وهي من سكان مدينة فينكس وتحدثت باسمٍ مستعارٍ خوفاً من رد فعل انتقامي، من بين أولئك. تواصل أحد معارف جينيفر معها عبر "فيسبوك" ذات يوم سائلاً عمّا إذا كانت تود أن تجني بعض المال، وكانت جينيفر قد واجهت صعوبة بالكسب لكونها أم عزباء تربي طفلاً صغيراً. بعد أشهر قليلة من التواصل معها، تولت جينيفر مهمة انتهت بمطاردة عالية السرعة وتلقت تهمة على المستوى الاتحادي. انتهى الحال بجينيفر بأن أقرّت بأنها مذنبة. لقد شعرت جينيفر أن لا خيار أمامها إلا أن تقبل بالوظيفة. قالت: "لم أكن أملك المال. كان ابني بحاجة للحفاضات، وقد سئمت من طلب مساعدات من الناس".
رغم أن عديداً من السائقين يأتون من فينكس، التي تقع على مسافة ثلاث ساعات بالسيارة تقريباً من الحدود مع المكسيك، قال ضباط إنفاذ القانون في أريزونا إن المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي جذبت أشخاصاً يعيشون في مناطق بعيدة، وصولاً إلى ولاية ماين شمالاً.
إذا كان "تيك توك" و"سناب" لا يضران الأطفال.. فليثبتا ذلك
في بلدة سييرا فيستا الجنوبية، التي تقع في مقاطعة كوتشاي، يلمح نائبو المأمور أحياناً سائقي سيارات ذات لوحات من خارج الولاية يتلكؤون عند علامات التوقف، انتظاراً لإشارة بأن مجموعة مهاجرين جاهزة لنقلها. يحاول السائقون عادةً أن يسابقوا سلطات إنفاذ القانون تفادياً لضبطهم. قال براين ماكنتاير، المدعي العام الرئيسي في المقاطعة، إن 12 شخصاً لقوا حتفهم في حوادث سيارات ناتجة عن تلك المطاردات في العامين الماضيين.
في محكمة مقاطعة كوتشايز، وهي مبنى مزخرف يبدو وكأنه قد نُحت على سفح جبل من جبال ميول، تعج جداول القضاة بانتظام بقضايا لسائقين متهمين بتهريب البشر أو الهروب من السلطات. يحاكَم المتهمون في قضايا تهريب البشر عادةً على المستوى الاتحادي، لكن ولاية أريزونا اعتمدت تهمة على مستوى الولاية العام الماضي. في صبيحة اثنين من سبتمبر، دلف ستة متهمين إلى قاعة محكمة جدرانها مكسوة بألواح خشبية وقد ارتدوا ملابساً مخططةً. كان أحد من أقرّوا بأنهم مذنبون في قضية تهريب، فتى في أواخر سن المراهقة يظهر على خديه حَبّ الشباب.
قبل أسابيع قليلة، أنهت أم شابة من فينكس ذات شعر طويل يتدلى حتى خصرها، حكماً بالسجن، وذلك بعد أن كانت قد تورطت في تهريب البشر عبر "تيك توك". بعد أن تقرر وضعها تحت المراقبة، قالت المرأة خلال مقابلة تلفزيونية إنها تأمل أن تردع الآخرين عن نقل المهاجرين، مضيفة أن الدعاية التي حصلت عليها لن تؤثر سلباً على طموحها بأن تصبح عارضة أزياء.
دور للمؤثرين
تسعى شبكات التهريب أيضاً للاستفادة من المؤثرين. في الربيع الماضي، أقرّ تايلر مايرز، وهو مغني راب يبلغ من العمر 26 عاماً من جنوب أريزونا لديه عدد لا بأس به من المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، بأنه مذنب في تنظيم عملية نقل عشرات المهاجرين. قالت باربارا كاتريلو، محامية مايرز، إن جمهوره عبر الإنترنت اجتذب اهتمام شبكات التهريب.
اتجه مايرز للاستعانة بسائقين ونظم رحلاتهم عبر "سناب تشات" وتطبيق الرسائل "تليغرام". وفقاً لكاتريلو، كان مايرز يعتقد أنه سيتحمل مسؤولية جنائية أقل مما لو كان ينقل المهاجرين بنفسه. قالت: "لقد استُهدف مثل أي شخص آخر. لقد سعوا لاستمالته بالتركيز على شبابه وغروره".
تلقى مايرز حكماً بالسجن لثلاثة أعوام في سجن اتحادي. وتطلب اتفاق لتخفيف العقوبة أن يعترف بأنه عمل مديراً للعصابة. يؤدي ذلك التصنيف إلى حكم أشد بموجب التوجيهات الاتحادية. قالت كاتريلو إنها وجدت نفسها خلال جلسة النطق بالحكم "مضطرة لأن تحاجج في المحكمة أن هناك أنواعاً مختلفة من المديرين"، مضيفة أن مايرز لم يكن له أي سلطة لاتخاذ قرارات داخل المنظمة. قالت: "لم يكن دور تايلر إدارياً بأكثر ممّا يكون لمدير أحد فروع (ماكدونالدز)".
عملية النقل
اقترب مايكل وكايتلين أخيراً من الموقع الذي أرسله الشخص الذي يُشغل السائقين عند الغروب. بلغا منطقة على مقربة من سيلز، عاصمة أمّة توهونو أودهام، التي تقع أراضيها على طرف الحدود الأميركية-المكسيكية.
فيما كانا على الطريق السريع، لمحت كايتلين، التي كانت تقود السيارة، مركبةً تابعة لدوريات الحدود. فضباط دوريات الحدود لهم حضور دائم في سيلز، التي يساهم سكانها عادةً في تهريب المخدرات والبشر في ضوء غياب فرص اقتصادية أخرى. توقف مايكل وكايتلين على جانب الطريق وسمحا للمركبة بأن تمر.
بعد كيلومترات قليلة، وصلا إلى نقطة اللقاء، وهي طريق ممتدة تصطف على جانبيها أشجار توفر غطاءً بدرجة ما. توقفا وانتظرا، وكان مايكل ما يزال يتساءل عما إذا كانت قد فاتته فرصة التراجع. فجأة دخل ثلاثة رجال السيارة عبر بابها الخلفي من ناحية اليمين. كانوا يرتدون أزياء مموّهة وقد كسى الغبار وجوههم. لم ينبس أي منهم ببنت شفة، لكن أنفاسهم كانت متسارعة.
التفت مايكل لينظر إليهم، وكانوا يحاولون أن يتخفوا وقد التصقوا بالمقعد وغطوا أنفسهم بالمعاطف وحقائب الظهر. لاحظ مايكل أن عيني أحدهم كانتا محمرتين جداً، وبدا جائعاً وظمآناً ومرهقاً. حاول مايكل أن يقدم لهم زجاجات المياه وشطائر برغر بالجبن كان قد اشتراها لهم فيما كان متجهاً ليقلهم، لكن لم يبد أنهم أدركوا قصده. طلب مايكل من كايتلين أن تقود السيارة.
كانت أضواء السيارات الساطعة التي تدنو خلفهم أول علامة على بدء المتاعب.
اشتباه الشرطة
تبحث الدوريات الحدودية عن علامات معينة للمركبات التي تشارك في تهريب البشر، مثل لوحة أرقام مؤقتة أو أن تبدو أنها مثقلةً الحمولة في الخلف، أو أن سائقها يتجنب التواصل البصري. كل ما يحتاج إليه ضباط دوريات الحدود لكي يستوقفوا سيارة هو اشتباه منطقي بجريمة تدخل في نطاق اختصاصهم. حين لمح ضباط الدورية سيارة مايكل سابقاً، رأوا سائقاً وراكباً واحداً دون ما يدل على حمولة زائدة. أما الآن، فقد كانت تظهر على السيارة علامات حمولة ثقيلة في الخلف.
مع اقتراب سيارة دورية الحدود، تملك الخوف ركاب السيارة، فصرخوا: "الشرطةّ!" وتوسلوا إلى كايتلين أن تسرع وقد دنوا من مقاعد السيارة الأمامية. مدّ مايكل يده ليتناول أحد مسدسيه، فتراجع الرجال الثلاث إلى الخلف.
لم تمر سوى خمس دقائق منذ أن ركب الرجال السيارة حين توقفت كايتلين على جانب الطريق. ترجّل مايكل وكايتلين من السيارة وقد رفعا أيديهما. فتّش أفراد الدورية السيارة ووجدا مسدسي مايكل والركاب الثلاثة، الذين سرعان ما اتضح أنهم دخلوا البلاد دون موافقة السلطات. كان أحدهم قد رُحلّ من الولايات المتحدة قبل أكثر من عقد.
ألقى ضباط الدورية القبض على الخمسة وأحضروهم إلى قسم الشرطة لاستكمال الإجراءات. شرح مايكل وكايتلين في غرف تحقيق منفصلة ما حدث ذلك اليوم. قالت كايتلين إنها ومايكل قررا الانطلاق سويةً في تلك الرحلة التي نُظمت عن بُعد. سرد مايكل تفاصيل تكشف كيف بدأ الأمر برمته عبر "سناب تشات".
شرح الضباط لمايكل كيف أن العمل في تهريب البشر قد انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف أن تلك الشبكات تعمل في نهاية الأمر بإيعاز من عصابات تهريب المخدرات المكسيكية. أبلغ الضباط مايكل أن جهات إنفاذ القانون أحياناً تجد جثث ضحايا عصابات التهريب في الصحراء. أدرك مايكل كذب ما قاله الشخص القائم على تشغيل السائقين بأن أسوأ الأحوال هو أن يمضي ليلةً في قسم الشرطة قبل أن يعود لمنزله بكفالة تدفعها شبكة التهريب.
أداة تحرٍّ
في صبيحة يوم منذ فترة قريبة في جنوب أريزونا، أمضى شون ويلسون، المحقق بمقاطعة بينال وعضو وحدة مكافحة التهريب، فترة دوامه في سيارته المتوقفة على جانب طريق سريع، يتمعن في السيارات المارة بحثاً عن إشارة تدل على تهريب للبشر. أوقف ويلسون مجموعة مركبات لوحاتها من خارج الولاية وقد بدت مثقلةً، لكنها لم تكن تقلّ مهاجرين.
لم يكن ويلسون يحرز تقدماً وفقاً لحساباته. خلال فترة اتسمت فيها الحركة المرورية بالهدوء، فتح ويلسون تطبيق "سناب تشات" في هاتفه المحمول، وقد أنشأ حساباً عليه بعد أن أخبره ابنه أنه رأى إعلانات تطلب سائقين. تصفح ويلسون المنشورات التي تختفي بعد فترة وجيزة وعثر على ثلاثة منشورات خلال بضعة دقائق.
دعاوى قضائية تسعى لحماية الأطفال على منصات التواصل
لا يتابع ضباط إنفاذ القانون منصات التواصل الاجتماعي فحسب، بل يستغلونها كأداة جديدة للتحقيق. في مطلع 2021، بدأ العاملون بمكتب تحقيقات الأمن الوطني وضباط الحدود والشرطة المحلية يستخدمون هويات غير حقيقية على "سناب تشات"، وفقاً لضابط دوريات حدودية ذي باعٍ طويل في المجال وقد طلب إخفاء هويته لأنه ليس مخولاً بأن يتحدث إلى الصحافيين. تجاوب الضباط عبر أسماء مزيفة مع إعلانات البحث عن سائقين، وكان هدفهم جمع أدلة تدين القائمين على تشغيل السائقين.
في إحدى القضايا التي اطّلعت عليها "بلومبرغ بزنس ويك"، صادق ضباط من مكتب تحقيقات الأمن الوطني اثنين من مستخدمي "سناب تشات" كانا يعرضان وظائف ترتبط بالتهريب. تمكّن الضباط من تحديد هويتيهما عبر مطابقة صورهما التي نشراها مع صور رخص السائقين. شارك الضباط المتخفون في بعض المهام، بل ونقلوا مجموعات من المهاجرين.
أدى التحقيق إلى توجيه تهم اتحادية بالتآمر لنقل مهاجرين ومحاولة نقل مهاجرين مقابل المال. اعترف أحد القائمين على تشغيل السائقين بتنظيم نقل مئات المهاجرين، وتنتظر أخرى محاكمتها. عدّل قاضٍ منذ فترة قريبة شروط إطلاق سراح الأخيرة لكي تتمكن من حضور حفل الاستعداد لقدوم مولودها.
فرصة ثمينة
تُصوِّر جهات إنفاذ القانون هذه الملاحقات القضائية على أنها فرصة ثمينة لاختراق مستوى آخر في التسلسل القيادي في عمليات التهريب والاقتراب من مركز تلك الشبكات. كما أنها استخدام فعال لموارد الادعاء، إذ أن إبعاد مشغّل واحد فقط عن الصورة قد يربك رحلات عشرات السائقين.
كما قال المدعون العامون وجهات إنفاذ القانون إن شركات التقنية تسارع للمساعدة في التحقيقات الخاصة بتهريب البشر، إلا أن مساعدتها ستكون أجدى لو أنها حدت من المنشورات على تطبيقاتها في المقام الأول. قال ماكنتاير، المدعي العام في مقاطعة كوتشايز: "تملك (الشركات) بكل وضوح القدرة على إيقاف (المنشورات)، لكنها لا تفعل ذلك".
في كبرى شركات وسائل التواصل الاجتماعي، تندرج مهمة متابعة مثل هذه المنشورات تحت مسؤولية فرق السلامة والثقة. كان إحباط مخططات تهريب البشر في المعتاد أقل أهميةً من التدخلات في الانتخابات ومن الجرائم التي تستهدف أطفالاً على سبيل المثال. لكن في 2021، بدأ فريق شركة "سناب" يجري تحريات عن تهريب البشر، وفقاً لموظف سابق في الشركة.
طلب الموظف إخفاء هويته لتجنب أي تداعيات مهنية، وكذلك طلب آخرون يعملون بقطاع التقنية أُجريت معهم مقابلات لإعداد هذا التقرير. قال الموظف السابق إن الفريق واجه صعوبات في تحديد أمثلة واضحة على عمليات استقطاب السائقين، إذ كان يصعب التمييز بين العروض غير الصريحة للسائقين الذين سيعملون في التهريب والمنشورات التي تطلب سائقين خاصين، خصوصاً على نطاق واسع.
قررت الشركة في نهاية المطاف أن تركز على الجرائم الأخطر التي كان لديها المزيد من التوثيق بخصوصها، مثل الاتجار بالبشر، وهو نقل الناس ضد إرادتهم. قال الموظف السابق إن مثل تلك القرارات تعكس "عملية تحديد الأولويات القاسية لمن يمكننا مساعدتهم، ومن ينبغي أن نساعدهم أولاً".
جهود الشركات
حتى في حالة مثبتة ذات أولوية كبيرة، فإن أقصى ما تستطيع "سناب" فعله من تلقاء نفسها هو أن تلغي حساب مستخدم، لكنه يستطيع ببساطة أن ينشئ حساباً جديداً باسم آخر. أدت مثل هذه القيود إلى دعوات من بعض أعضاء فريق الثقة والسلامة لتعاون أوثق مع جهات إنفاذ القانون.
قال متحدث باسم "سناب" إن الشركة تتعاون بشكل وثيق مع جهات إنفاذ القانون، وإنها اتخذت خطوات إضافية، مثل البحث عن كلمات ورموز تعبيرية معينة، بمجرد أن أدركت سبل استغلال المهربين لمنصات التواصل الاجتماعي. قال المتحدث: "لدينا سياسة لا تسمح بالتهاون فيما يخص تهريب البشر، ونسلك نهجاً جريئاً وكلياً في مكافحته على (سناب تشات)". وقال متحدث باسم "تيك توك" إن المنصة فرضت حظراً صارماً على تهريب البشر وتعمل عن كثب مع جهات إنفاذ القانون.
رغم ذلك، فإن شبكات التهريب تتفوق في استباق جهود الإنفاذ الخاصة بالشركات. تواجه الشركات عملية إجرامية بدائية ووحشية في آن معاً. إذ ترتبط شبكات التهريب في الولايات المتحدة عادةً بنظيراتها في المكسيك عبر روابط عائلية، وقد ترتبط جميعها بعصابات التهريب التي تسيطر على الحدود.
على الجانب الآخر
إلى جانب استقطاب السائقين في الولايات المتحدة، تستخدم شبكات التهريب وسائل التواصل الاجتماعي في أميركا اللاتينية لترويج خدماتها بين من يفكرون بالهجرة إلى الولايات المتحدة ولتخطيط سفرهم وتنظيم الدفع، وفقاً لتقرير نشرته المنظمة الدولية للهجرة هذا العام. تتواصل شبكات التهريب مع المهاجرين واللاجئين بشكل يشابه التواصل بينها وبين السائقين لتحمي نفسها.
عادةً ما ترسل الشبكات مرشدين ليصحبوا المهاجرين فيما يتجهون لمقصدهم سيراً على الأقدام في أراضٍ نائية. لكن في ضوء أن أغلب المهاجرين يسافرون ومعهم هواتف ذكية، فقد بدأت شبكات التهريب ترسل إليهم إحداثيات المواقع كي يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم، وفقاً لروايات جمعتها المنظمة الدولية للهجرة.
قال موظفون سابقون في "ميتا بلاتفورمز" في أميركا اللاتينية إن الشركة كانت تتدخل عادةً في حالات تهريب البشر فقط حين يشتكي أحد السياسيين أو ينشر الإعلام المحلي موضوعاً عنها. عرقلت موجة تسريح العمالة في وقت سابق من هذا العام الجهود المبذولة. قال أحد الموظفين السابقين إن الشركة حلّت الوحدة التي كانت ترد على طلبات جهات إنفاذ القانون في أميركا اللاتينية.
قال متحدث باسم "ميتا" إن الشركة تمنع مهربي البشر من استخدام منصاتها وتستثمر في تقنيات وخبرات للحيلولة دون وقوع هذه الأنشطة والحد منها، إذ تعمل عن كثب مع خبراء في قطاعات مختلفة. قالت "ميتا" في بيان: "نحن نعمل بانتظام لتحديث سياساتنا بشأن تهريب البشر وتطوير أساليب جديدة تساهم في الحيلولة دون الاستغلال عبر منصاتنا وفي دعم طالبي اللجوء".
يسعى المشرّعون الأميركيون أيضاً لتحجيم استخدام المهربين لوسائل التواصل الاجتماعي. في أوائل 2023، طرحت كيرستن سينيما، عضوة مجلس الشيوخ المستقلة عن ولاية أريزونا، قانون مكافحة عصابات التهريب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي سيدفع وزارة الأمن الداخلي لتحليل أنشطة التهريب على وسائل التواصل الاجتماعي وإتاحة مسار يسمح لشركات التقنية بأن تبلغ عن المنشورات. وافق مجلس الشيوخ على تمرير مشروع القانون، وهو الآن قيد النظر في مجلس النواب.
ثمن غالٍ
بعد إلقاء القبض عليهما، أمضى مايكل وكايتلين بضعة أيام في مركز لاحتجاز المهاجرين، وكانا ينامان على حصائر رفيعة ويتدثران بغطاء حراري رقيق من الألمنيوم. وقد واجها اتهامات بنقل مهاجرين مقابل المال. أقرّت كايتلين بذنبها وحصلت على حكم بأن تخضع للمراقبة، كما اعترف مايكل بذنبه، لكنه واجه عواقب أشد.
حثت الحكومة القاضي على الحكم على مايكل بالسجن لعدة أشهر تليها فترة تحت المراقبة، كما عبرت عن قلقها بشأن المسدسات على نحو خاص. لم يكترث المدعون العامون لما ذكر مايكل عن خشيته من رد فعل انتقامي، وحاججوا بأنه كان يستطيع أن يبلغ السلطات.
جادل محامي مايكل بأن موكله قد دفع ثمناً كافياً. يُرجّح أن التهمة الجنائية ستمنع مايكل من أداء الخدمة العسكرية، وستربك خططه للمستقبل. طلب المحامي أن يقتصر الحكم على مدة احتجازه التي مضت وأن يكون تحت المراقبة.
في جلسة النطق بالحكم، مال القاضي إلى صف الدفاع ووضع مايكل تحت المراقبة. لكن مثلما قال محاميه، فإن القضية كلفته الكثير. فقد انتهت علاقته بكايتلين، كما أن سجله الجنائي سيُصعّب عليه أن يعثر على وظيفة. يخطط مايكل للعودة للدراسة لكي يصبح كهربائياً، ويحاول جاهداً التصالح مع فكرة حياة مهنية قائمة على العمل في التوصيلات الكهربائية في المنازل بدل إصلاح الطائرات الحربية والعمودية كما كان يتصور دوماً.
قال مايكل إنه أضحى يهتم بعمق بطرق عمل عصابات التهريب، ويدرس المتاهة الإجرامية التي تربط بين بعض أقوى عصابات المكسيك والمراهقين الأميركيين. لا يستوعب مايكل تماماً ما الذي لفت نظر الشخص المسؤول عن استقطاب السائقين فيه، لكنه غيّر إعدادات صفحته على "سناب تشات" لتصبح حساباً خاصاً لا يتيح للغرباء التواصل معه، وهي طريقته ليضمن أنه لن تتم غوايته أبداً ليكون سائق تهريب. قال: "كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة، لن تتكرر أبداً".
لم يتحدث مايكل مع كايتلين منذ أشهر، لكنه يأمل أنها تسعى لتحقيق حلمها بارتياد جامعة. ويأمل مايكل أن يكون المهاجرون الذين تكدسوا في سيارته بخير أيضاً. أما فيما يخصه، فقد خلص إلى أن أفضل ما حدث له في مهنة التهريب هو أنه ضُبط سريعاً، قبل أن يزداد تورطه. قال: "كانت نعمة بصراحة".