بلومبرغ
تستيقظ إيميليا إشكوي عند الفجر كل يوم وتشد إزارها لتبدأ بالعجن، ثم تضع الصواني التي صفّت عليها كرات العجين في الفرن. هي تسابق الزمن في ذلك وتعمل بجد لتتمكن من خبز ما يكفي من الأرغفة قبل أن تستيقظ بلدة إل بالمار الواقعة في مرتفعات غواتيمالا.
بالنسبة لإشكوي، هذا العمل أكثر من مجرد مصدر دخل، بل طريقة للحفاظ على تماسك أسرتها. فقد تملكها رعب منذ ثلاث سنوات من فكرة أن تنضم ابنتها روزا، حين تبدأ البحث عن عمل بعد التخرج من الجامعة، إلى مئات آلاف الغواتيماليين الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة سنوياً بحثاً عن فرص اقتصادية.
بدل ذلك، افتتحت وابنتها مخبزهما بواسطة قرض حصلتا عليه من جمعية تعاونية تجمع التحويلات النقدية التي يرسلها المغتربون الغواتيماليون العاملون في الخارج إلى أقاربهم في البلاد، من أجل مساعدة الأشخاص مثل إشكوي على افتتاح أنشطتهم الخاصة، بدل أن يلحقوا بركب المهاجرين غير الشرعيين في رحلتهم صوب الولايات المتحدة، التي غالباً ما تتخللها المخاطر.
بدأ مشروع إل بالمار، وهو أول جمعية تعاونية بتمويل من مهاجرين في 2019، بمساهمة نحو 40 من السكان المحليين بالأموال، وقد تمكّن حتى الآن من استثمار إجمالي 125 ألف دولار في 25 مؤسسة جديدة، بينها مكتبة ومتجر للإلكترونيات إلى جانب مخبز إشكوي، وقد تلتها ست بلدات على الأقل في المرتفعات الغواتيمالية.
اعتماد على المهاجرين
يأتي ذلك في ظل تنامي الاستياء الشعبي من سوء الأداء الحكومي والفقر المتوطن اللذين يزيدان الضغوط التي تدفع الغواتيماليين إلى الهجرة، وهي كلها عوامل أسهمت بالفوز الكاسح الذي حققه برناردو أريفالو في الانتخابات الرئاسية في أغسطس بعد تعهده بمكافحة الفساد.
بلغ وسطي المواطنين الغواتيماليين الذين ضُبطوا عند الحدود الجنوبية للولايات المتحدة نحو 61 ألفاً بين 2012 و2017، ثم سجّل ذلك ارتفاعاً كبيراً إلى 116 ألفاً في 2018، وارتفع بأكثر من الضعف في العام التالي إلى 264 ألفاً، بحسب تحليل أجراه مركز ديوك للتنمية الدولية، الذي لاحظ أيضاً أن التغير المناخي كان أيضاً عاملاً مسبباً للهجرة.
أخفقت السياسات السابقة الرامية إلى الحد من الهجرة إلى الولايات المتحدة في معالجة السبب الجذري للمشكلة، إذ يعيش 59% من الغواتيماليين دون خط الفقر، وأكثر من ثلاثة أرباع من يعتزمون السفر كان قرارهم مدفوعاً بالبحث عن فرص اقتصادية.
يحرم مستوى الهجرة المرتفع البلاد من العمال ويخلق اعتمادية تعيق النمو الاقتصادي، إذ يعتمد من يبقون في غواتيمالا بشدة على الأموال التي يرسلها أقاربهم في الخارج، حيث ارتفعت نسبة تحويلات المغتربين عام 2022 بواقع 18% مقارنة مع 2021 لتبلغ 18.2 مليار دولار، أي ما يوازي نحو خُمس الناتج الإجمالي المحلي للبلاد.
قالت إشكوي: "المهاجرون هم من يحملون غواتيمالا وهم من يحسّنون الأوضاع هنا، والفقراء منّا يجتهدون للنجاح داخل بلدنا".
زيادة الفرص
تأتي المبادرة في إل بالمار في إطار جهد أوسع في غواتيمالا للاستفادة من تحويلات المغتربين من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية. فبرغم التدفق النقدي الضخم من الخارج، إلا أن التحويلات لم تُحقق بعد خفضاً ملحوظاً في معدلات الفقر، إذ تؤول معظم الأموال، أي 57% حسب تقديرات 2020، لتغطية النفقات الأساسية للأسر.
تعليقاً على ذلك، قال رئيس التعاونية ميلتون إسكوبار بيليكو: "الهدف هو زيادة الفرص الاقتصادية لمن يعيشون هنا في إل بالمار... لا يرغب المهاجرون المقيمون في الولايات المتحدة بأن يضطر آخرون للهجرة، بل يريدون لهم أن يحظوا بالفرص التي كانوا سيحصلون عليها في الولايات المتحدة، لكن أن يكون هذا هنا في غواتيمالا".
بالإضافة إلى تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال خلق فرص عمل وتأمين الدخل وتوطيد الأواصر الاجتماعية، تقدّم التعاونية أيضاً نصائح حول كيفية ادخار الأموال، وطريقة استثمارها. شرح بيليكو أنه حتى حين يتمكن الغواتيماليون من ادخار الأموال، فهم يفتقرون إلى المعرفة المالية التي تمكّنهم من تحويل هذه الأموال إلى أصول تولّد لهم مزيداً من الثروة. قال: "يملك الناس منازل وسيارات جديدة، لكنهم لا يستثمرون، لا يملكون تجارة ولا مدخرات في البنوك".
يُعزى جزء من المشكلة إلى انخفاض معدل تعميم الخدمات المالية في البلاد، فأقل من نصف الغواتيماليين لديهم حسابات في مؤسسات مالية، وهذ يحدّ من قدرتهم على كسب عوائد على الادخار أو الحصول على قروض من أجل إنشاء مشاريع جديدة، كما أنه قد يشجعهم على الهجرة.
قال مانويل أوروزكو، مدير برنامج الهجرة والتحويلات والتنمية في مؤسسة الحوار في القارة الأميركية، وهي مؤسسة بحثية في الولايات المتحدة إنه "حين يتمكن متلقو التحويلات من الادخار ولا يجدون فرصاً كبيرةً لاستثمار أصولهم في المجتمع المحلي، فهم يجرون حساباً للتكلفة مقابل المنفعة، ويستنتجون أن الهجرة هي الخيار الأفضل لهم".
تعزيز الاستثمار
بيّن أوروزكو إن 5% فقط من القروض في غواتيمالا تؤول حالياً إلى صغار رواد الأعمال، حيث يفضّل المقرضون الاستثمار في مؤسسات مألوفة منخفضة المخاطر، وهو يدعو إلى سنّ تشريعات مشابهة للقانون الأميركي المتعلق بإعادة الاستثمار في المجتمع الذي يلزم المؤسسات المالية بإعادة الاستثمار ضمن المجتمعات التي تنشط فيها.
كان الرئيس المنتخب أريفالو أعلن عن رغبته في توسيع برامج العمل المؤقتة في الولايات المتحدة والاستثمار في المناطق الأكثر فقراً في البلاد للحد من الهجرة.
ولكن إلى حين تطبيق هذه السياسات، يتولى أعضاء تعاونية إل بالمار المسؤولية بأنفسهم. لقد شارفت إشكوي على تسديد كامل قرضها الذي حصلت عليه لإنشاء المخبز قبل ثلاث سنوات وقدره 50 ألف كيتزال (6300 دولار). ما يقلقها اليوم هو تلبية الطلب المتنامي من زبائنها، إذ يعمل في المخبز أربعة أشخاص بينهم روزا وزوجها ليخبزوا 180 رغيفاً تُباع يومياً. لكن ما يسعدها هو أنها تعمل جنباً إلى جنب مع روزا، وقالت: "أنا ممتنة جداً لأن ابنتي معي ولم تذهب إلى الولايات المتحدة".