بلومبرغ
ما هو أهم الأسعار تأثيراً على اقتصاد العالم؟ هل هو سعر النفط أم الرقائق الإلكترونية أم وجبة "بيغ ماك"؟ إنه لا شيء من ذلك. الأهم عالمياً هو سعر الفائدة، الذي تراجع لأكثر من ثلاثة عقود ثم عكس اتجاهه أخيراً.
لنأخذ، على سبيل المثال، العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات، الذي دانى 5% خلال الأسابيع الأخيرة، فأدى إلى ارتفاع تكلفة الرهن العقاري وقروض الشركات في أعقاب ذلك. للوهلة الأولى، بدا الأمر كما لو كان أداء السوق محض استجابة لتقرير أخر عن التوظيف والبطالة فحسب. لكن عندما تحولت بارقة الأمل آنذاك إلى تراجع في سوق السندات، ظهر تفسير بديل، حيث بدأ المستثمرون يدركون أخيراً أن شيئاً أساسياً قد تغير. ستظل تكلفة الاقتراض باهظة لفترة طويلة، وليس لمجرد أن الاحتياطي الفيدرالي يستغرق وقتاً أطول من المتوقع في مكافحة التضخم.
لو سألت معظم الناس كيف يحدد سعر الفائدة، سيقولون إنها وظيفة البنوك المركزية. صحيح أن الاحتياطي الفيدرالي هو المسؤول عن تحديد أسعار الفائدة، لكن سعر الفائدة، في جوهره، يعكس توازن العرض والطلب شأنه في ذلك شأن سعر أي سلعة أخرى.
على سبيل المثال، عندما يزداد المعروض من المدخرات لأن الموظفين يستهلكون مزيداً من رواتبهم، تنخفض تكلفة الاقتراض. أما إذا كان الطلب الاستثماري هو الذي ينمو بسرعة، لأن الحكومة تضخ الأموال في تطوير الطرق أو لأن الشركات تنفق أموالها على صناعة الروبوتات، فسترتفع تكلفة الاقتراض.
سعر الفائدة الطبيعي
يسمى خبراء الاقتصاد سعر الفائدة الذي يوازن بين معدلات الادخار والاستثمار مع الحفاظ على استقرار التضخم "سعر الفائدة الطبيعي" (R-star). كي نفهم لماذا يعد هذا المفهوم محورياً لوضع السياسات، فلنتخيل ما قد يحدث لو أبقى مجلس الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض دون الحد الطبيعي بكثير.
أولاً سيقع إفراط في الاستثمار ولن يكون هناك ما يكفي من الادخار فتتسارع وتيرة نمو الاقتصاد، ويرتفع التضخم. وإن عكسنا الأمر، إذا ما حدد الاحتياطي الفيدرالي تكاليف الاقتراض بأعلى من الحد الطبيعي سترتفع معدلات الادخار ولن يكون هناك ما يكفي من الاستثمارات، فضلاً عن تباطؤ الاقتصاد، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة.
ينطوي تحديد نقطة التوازن تلك على صعوبة بالغة. كتب الاقتصادي الأميركي جون هنري ويليامز في 1931: "سعر الفائدة الطبيعي فكرة مجردة مثل الدين؛ لا يمكن فهمها إلا من خلال الآثار الناشئة عنها". يعتقد ويليامز أن المأزق الذي يواجه محافظي البنوك المركزية، هو أنه "لا يمكن للمرء القول بأن سياسة البنك إن نجحت في تثبيت الأسعار فإن سعر الفائدة الذي حدده متوافق مع سعر الفائدة الطبيعي، والعكس صحيح".
ما يزال مفهوم سعر الفائدة الطبيعي محاطاً بقدر كبير من الغموض بعد قرن من ظهوره، ما جعل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يعرب تكراراً عن شكوكه حول جدواه في إرشاد السياسة النقدية.
مع ذلك، يقول بعض الاقتصاديين إننا وصلنا إلى نقطة تحول إيجابية. يرى كل من وزير الخزانة الأميركي الأسبق لورانس سمرز، وكينيث روغوف الذي شغل منصب كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي، أن عصر الفائدة المنخفضة قد ولى، مستندين في ذلك إلى عوامل مثل زيادة الاقتراض الحكومي لتمويل الإنفاق العسكري المتزايد وتكاليف التحول إلى اقتصاد أكثر مراعاةً للبيئة.
غير أن هذا الرأي أبعد ما يكون عن الإجماع. ففد كتب أوليفييه بلانشار، وهو كبير اقتصاديين سابق آخر لدى صندوق النقد الدولي، في مدونة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي: "التضخم لن يدوم، لكنني أعتقد أن أسعار الفائدة المنخفضة ستدوم". كما يرى المنتمون إلى هذا المعسكر أن القوى التي دفعت سعر الفائدة الطبيعي إلى الانخفاض مع تفشي الجائحة، مثل التركيبة السكانية وتباطؤ نمو الإنتاجية، ستفرض نفسها مجدداً بمجرد احتواء التضخم.
عوامل التأثير
لقد صممت "بلومبرغ إيكونوميكس" نموذجاً يحاكي أهم العوامل المحركة لمعدلات الادخار والطلب على رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة بغية الوقوف على الأسباب التي أدت إلى انخفاض أسعار الفائدة والتنبؤ بوجهتها مستقبلاً. تمتد مجموعة البيانات في النموذج سالف الذكر على مدى نصف قرن، وتركز على 12 اقتصاداً متقدماً ومنخرطاً بقوة في النظام المالي العالمي.
قدّر الفريق الاقتصادي في بلومبرغ استناداً إلى نتائج ذلك النموذج، أن معدل الفائدة الطبيعي على سندات الحكومة الأميركية لأجل عشر سنوات انخفض بعد تعديله وفقاً للتضخم من 5% في 1980 إلى أقل قليلاً من 2% على مدى العقد الماضي.
يعد ضعف النمو الاقتصادي أحد أهم أسباب تراجع سعر الفائدة الطبيعي. نما الناتج المحلي الإجمالي في الستينيات والسبعينيات بمتوسط يناهز 4% سنوياً بفضل تضافر عوامل مثل تنامي أعداد الباحثين عن عمل ومكاسب الإنتاجية السريعة خلال الجزء الأول من تلك الفترة.
لكن تلك القوى كانت قد تلاشت بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثم انخفض متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي إلى 2% تقريباً في أعقاب الأزمة المالية العالمية خلال الفترة بين 2007 و2008. لقد أصبح الاستثمار في المستقبل أقل جاذبية، ما أدى إلى انخفاض سعر الفائدة الطبيعي.
كما ساهمت التحولات الديموغرافية بطريقة أخرى، حيث بدأ جيل طفرة المواليد في أميركا ادخار مزيد من الأموال للتقاعد منذ الثمانينيات فصاعداً. فارتفعت معدلات الادخار، مما فرض المزيد من الضغوط الهبوطية على سعر الفائدة الطبيعي.
مع ذلك، كانت هناك عوامل أخرى تؤثر على سعر الفائدة. على سبيل المثال، بدأت الصين في إعادة استثمار جزء من فوائضها التجارية المتنامية عبر شراء سندات الخزانة الأميركية. أيضاً، تفاقمت فجوة التفاوت في الدخل في الولايات المتحدة، الأمر الذي كان له تأثير على ارتفاع معدل الوفورات مع ميل أصحاب الدخل المرتفع إلى ادخار جزء أكبر من دخلهم.
على الصعيد الاستثماري، أصبحت الحواسيب أرخص وأقوى، لذلك لم تضطر الشركات إلى إنفاق الكثير على ترقية تقنياتها، وبالتالي انخفض سعر الفائدة الطبيعي.
عواقب وخيمة
كان لهذا الانخفاض في أسعار الفائدة عواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي، حيث سمحت تكاليف الاقتراض المتدنية للأسر بالحصول على قروض عقارية أكبر. فبذل كثيرون أموالاً تتخطى إمكانياتهم في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما ساعد على تمهيد الطريق للأزمة المالية العالمية.
كانت تكلفة الاقتراض المتدنية تعني أيضاً أن تكلفة خدمة الدين ستظل منخفضة، حتى مع تضاعف حجم الدين الفيدرالي الأميركي إلى ثلاثة أمثاله تقريباً مما يزيد قليلاً على 30% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2000 إلى أكثر من 90% اليوم، الأمر الذي سمح للحكومة بمواصلة الإنفاق دون قيود. بينما كان انخفاض سعر الفائدة الطبيعي يعني تضييق المجال أمام الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة خلال فترات الركود، ما أثار الكثير من اللغط حول تراجع قوة السياسة النقدية.
لكن كل ذلك بدأ يتغير مع تحول دفة بعض القوى المحفزة لخفض تكلفة الاقتراض إلى الاتجاه المعاكس، وبروز تأثير موجهات أخرى. فبدأ موظفو جيل طفرة المواليد يغادرون القوى العاملة وينفقون ما لديهم من أموال، ما يلتهم أرصدة مدخراتهم. في الوقت نفسه، فتر حماس الصين لحيازة سندات الخزانة الأميركية على خلفية التوترات بين واشنطن وبكين من جهة، وإعادة التوازن للاقتصاد الصيني من جهةٍ أخرى.
كان الدين الفيدرالي الأميركي قد ارتفع مرتين، الأولى إبان اجتياح الأزمة المالية العالمية للاقتصاد، والثانية عندما ضربته جائحة فيروس كورونا. لقد تضاءل الإنفاق الحكومي على حزم الإنقاذ والتحفيز، لكن لا يزال نطاق العجز واسعاً، فضلاً عن احتدام المنافسة على اجتذاب رأس المال الاستثماري.
يرجع ذلك جزئياً إلى الحوافز المقررة بموجب القوانين الاتحادية التي أحدثت طفرة في بناء مصانع السيارات الكهربائية وإنتاج أشباه الموصلات. بالتالي، يخلق ارتفاع الدين الاتحادي ضغوطاً تصاعديةً على تكاليف الاقتراض طويل الأجل.
توقعات بلومبرغ
فإلى أي مدى سيرتفع سعر الفائدة الطبيعي؟ يُظهر نموذج "بلومبرغ إيكونوميكس" ارتفاعاً بنحو نقطة مئوية واحدة من أدنى مستوى عند 1.7% في منتصف العقد الثاني من هذا القرن إلى 2.7% في العقد الرابع. يعني ذلك، وفقاً للقيم الاسمية، أن عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات يمكن أن تستقر ما بين 4.5% و5%. فيما تميل المخاطر نحو تكاليف اقتراض أعلى مما يشير إليه خط الأساس.
في حالة الأساس تتخذ الحكومات إجراءات لتضع الاقتراض على مسار مستدام في نهاية المطاف. مع ذلك، يتجلى الخطر المتمثل في ديمومة اتساع نطاق العجز في المستقبل المنظور مع كفاح الديمقراطيين والجمهوريين لإيجاد أرضية مشتركة بشأن كيفية ترتيب البيت المالي الأميركي.
لقد كانت الإجراءات الرامية للتصدي لظاهرة الاحتباس الحراري متواضعة حتى الآن، لكن الأمر سيتطلب استثمارات ضخمة إن بات العالم أكثر جدية في تعامله مع هذه القضية.
تقدر "بلومبرغ إن إي إف" لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة أن البنية التحتية للطاقة اللازمة لدعم اقتصادٍ خالٍ من الانبعاثات ستكلف أكثر من 30 تريليون دولار على مستوى العالم، أي ما يعادل 30% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي العالمي للعام الماضي. أيضاً، قد يؤدي التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات المتطورة إلى تعزيز الإنتاجية، ما سيدفع الولايات المتحدة إلى مسار نمو أسرع.
تشير تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس"، إلى أن تلاقي الأثار المشتركة للارتفاع المستمر في مستويات الاقتراض الحكومي وزيادة الإنفاق لمكافحة تغير المناخ وتسارع النمو من شأنها أن ترفع سعر الفائدة الطبيعي إلى 4%، ما يعني أن يحوم العائد الاسمي للسندات لأجل 10 سنوات حول 6%.
سيجر التحول من سعر فائدة طبيعي هابط إلى صاعد عواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي والنظام المالي العالمي حتى في السيناريو الأقل تطرفاً. لقد ساهمت الرهون العقارية منخفضة التكلفة بشكل رئيسي في ارتفاع أسعار المساكن في الولايات المتحدة منذ الثمانينيات دون هوادة، ما تسبب باندلاع أزمة في القدرة على تحمل التكاليف.
شهدت أسواق الأسهم قصة مماثلة، حيث ارتفع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" منذ أوائل الثمانينيات، مدعوماً جزئياً بانخفاض أسعار الفائدة. لكن مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، ستتلاشى تلك القوة الدافعة لزيادة أسعار المساكن والأسهم بوتيرة دائمة التصاعد.
قد يحفز التحول إلى أسعار الفائدة الأعلى نوبة تدمير خلاق عبر إهلاك الأعداد المتنامية من الشركات غير القادرة على تحقيق مكاسب تكفي لسداد التزاماتها. لقد ارتفع عدد الشركات غير المربحة في العقود الأخيرة، ليصل إلى ما يقرب من 50% من إجمالي الشركات المدرجة في البورصات حول العالم في 2022، وفقاً لتقرير نشره "غولدمان ساكس" في أكتوبر. في عالم مثالي، قد تؤدي الزيادة في حالات الإفلاس إلى إعادة توزيع رأس المال والعمالة لتحقيق أهداف أكثر كفاءة.
لعل الخاسر الأكبر في نظام أسعار الفائدة المرتفعة الجديد هذا هو وزارة الخزانة الأميركية، إذ يُتوقع أن تضيف زيادة تكاليف الاقتراض نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى مدفوعات الديون سنوياً بحلول 2030 حتى لو لم يرتفع مستوى الدين قياساً إلى حجم الاقتصاد.
لو حدث ذلك العام الماضي، لتكبدت وزارة الخزانة مدفوعات إضافية تقدر بنحو 550 مليار دولار لحاملي السندات، وهو ما يزيد على عشرة أضعاف إجمالي المساعدات الأمنية التي وجهتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا حتى الآن.
بالطبع، تعد بعض الأسباب التي قد تحفز ارتفاع أسعار الفائدة مثل تعزيز نمو الإنتاجية أو الاستثمار للوصول إلى اقتصادٍ خالٍ من الانبعاثات، أسباباً إيجابيةً وليست سلبيةً. سيفرز ارتفاع أسعار الفائدة فائزين وخاسرين على حد سواء، حيث سيحظى المدخرون والمستثمرون الذين يكدسون السندات بمعدلات عوائد أعلى. وعندما يعصف الركود بالاقتصاد، سيكون لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي مجال أكبر لخفض تكاليف الاقتراض لتحفيز تعافيه من كبوته.
قال باول ذات مرة إن سعر الفائدة الطبيعي أقل موثوقية من النجوم السماوية التي اعتمد عليها البحارة في العصور القديمة ليهتدوا بها في رحلاتهم، لأن مساراتها تتغير في كثير من الأحيان. هذا ما يحدث الآن، وسيكون الإبحار صعباً.