بلومبرغ
إن شركة "ميتا بلاتفورمز" معقدة في بعض النواحي، إذ تدير مجموعة متنامية من تطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب" و"مسنجر" و"ثريدز"، وتطبيق الواقع الافتراضي "هورايزون ورلدز" (Horizon Worlds). كما أنها تسوق نظارات للألعاب وأخرى شمسية ذكية وبرمجيات لتحسين إنتاجية الشركات.
إضافة لذلك، تدير "ميتا" مختبرات أبحاث متقدمة لتطوير الجيل المقبل من الذكاء الاصطناعي وأنواعاً جديدة من واجهات استخدام الحاسوب. لكن فيما يخص مصدر إنفاقها على ذلك، فإن الأمر أبسط بكثير. تأتي أغلب عوائد الشركة، ونسبتها 98.4% في أحدث فصل، من مصدر واحد هو الإعلانات الموجهة.
أحدثت الإعلانات الموجهة ثورة في صناعة الإعلام، وجعلت "ميتا" إحدى أعلى الشركات قيمة في العالم، ومنحت المؤسس المشارك مارك زوكربيرغ دخلاً قابلاً للإنفاق أتاح له الفرصة ليصبح رائداً في مجال العمل الخيري بل مصارع أقفاص غير محترف، فقد بلغ صافي ثروته نحو 120 مليار دولار وفقاً لمؤشر بلومبرغ للمليارديرات. يشكو المستخدمون كثيراً من أن هذا النوع من الإعلانات مريب ومشتت للذهن، وأن العمليات المتعطشة للبيانات التي تدعمه تجلب عليهم سلبياتها.
يجعل تتبع الإعلانات المستخدمين يكشفون عن بيانات شخصية، وعادة ما يكون ذلك دون أن يدركوا ذلك، كما أن خوارزميات ترشيح المحتوى، التي تجعل المستخدم يتصفح عبر بحر من الإعلانات، تشوش الاطلاع على المعلومات وتثير سخط المستخدم. لذا، منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي تقريباً، تركزت انتقادات متواصلة على أن النظام بأكمله قد يعمل بشكل أفضل لو تمكن الناس من الدفع مقابل الخدمات التي يحصلون عليها عوضاً عن أن يوافقوا على تتبعهم واستهدافهم بالإعلانات.
تغير الأوضاع
لم تأخذ "ميتا" هذه الحجة على محمل الجد أبداً، وما الذي سيدفعها لذلك طالما أن المنظومة التي بنتها الشركة تعمل حتى الآن بشكل ممتاز؟ لقد باتت مضطرة لذلك بعدما قضت محكمة في أوروبا هذا الصيف بأنه على الشركة أن تحصل على موافقة المستخدمين قبل أن تفرض إعلانات موجهة على شاشاتهم.
نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن الشركة أبلغت الجهات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي أنها تعتزم فرض رسوم خلال أشهر على المستخدمين في الاتحاد الأوروبي تبلغ نحو 13 يورو (14 دولاراً) شهرياً، وذلك مقابل نسخة بلا إعلانات من "فيسبوك" للهواتف الذكية، وستة يورو لقاء نسخة كتلك من "إنستغرام".
تعمل الشركات المنافسة على تقديم عروض مشابهة. تختبر كل من "تيك توك" و"سناب تشات" نسخاً خاليةً من الإعلانات لخدماتها. وقد أشار إيلون ماسك، مالك منصة "إكس" (X) المعروفة أيضاً باسم "تويتر"، إلى "اشتراك أعلى سعراً خالٍ من الإعلانات" في تغريدة منه هذا العام.
إيلون ماسك يدرس فرض اشتراك شهري على مستخدمي "X"
سيكون هذا الاشتراك على الأرجح أغلى بكثير من اشتراك "إكس" المتميز الحالي، الذي يبدأ من 11 دولاراً شهرياً عند الاشتراك على هاتف ويخفض عدد الإعلانات إلى النصف. خلال اجتماع مع مصرفيي الشركة في 5 أكتوبر، أشارت ليندا ياكارينو، الرئيسة التنفيذية، إلى أن "إكس" ستطرح ثلاث شرائح مختلفة للخدمة بحيث يرتفع السعر كلما قل عدد الإعلانات.
هل ستلقى منصات التواصل الاجتماعي الخالية من الإعلانات رواجاً؟ على الأرجح لن يكون ذلك. إذا طُرحت نسخة "ميتا" الخالية من الإعلانات في الولايات المتحدة، سيكون سعرها نحو 240 دولاراً سنوياً وذلك استرشاداً بالسعر في أوروبا، ما سيجعل "فيسبوك" و"إنستغرام" أغلى من اشتراكات بعض خدمات الهاتف والصحف وعضوية صالات الرياضة. كما ستكون التكلفة نحو ضعفي الشريحة المتميزة الحالية في "إكس"، التي لم تجذب سوى نسبة محدودة من المستخدمين.
عوائد ضخمة
قال جوناثان زيتراين، وهو أستاذ بكلية هارفرد للقانون ومدير مشارك لتابعها معهد "ريبوتنغ سوشيال ميديا" (Institute for Rebooting Social Media) في مركز بيركمان كلاين للإنترنت والمجتمع، إن إقناع المستخدمين بتجربة خدمة دون إعلانات بسعر أكثر منطقية ربما يكون ممكناً، لكن ليس مرجحاً أن الشركات ستكون مستعدة لخفض أسعارها بما يكفي لتستكشف إمكانية تحقيق ذلك.
قال: "إن عوائد المنصات التي تعتمد على الإعلانات الموجهة هائلة". في 2022، بلغت عوائد "ميتا" حوالي 117 مليار دولار، إذ تجني الشركة سنوياً حوالي 220 دولاراً عن كل مستخدم في الولايات المتحدة وكندا عبر بيع مساحة للإعلانات، وفقاً لتقديرات محللين جمعتها بلومبرغ. قال زيتراين: "سيصعب تعويض ذلك عبر رسوم اشتراك، خصوصاً حين يكون الناس قد اعتادوا ألَّا يدفعوا".
صعود أسهم"ميتا" يضيف 4.6 مليار دولار لثروة مارك زوكربيرغ
ألمحت "ميتا" إلى أن الخدمة الجديدة الخالية من الإعلانات تهدف لتهدئة مخاوف الجهات التنظيمية أكثر من جذب المستخدمين. عندما أجرى زيتراين مقابلة مع زوكربيرغ خلال فعالية في هارفرد في 2019، قال زوكربيرغ: "كل البيانات التي رأيتها تشير إلى أن الأغلبية الساحقة من الناس ترغب في خدمة مجانية". كما أضاف أنه يعتقد أن مستخدمي "فيسيبوك" يفضلون أن يشاهدوا الإعلانات. قال: "يحب الناس أن يتمكنوا من الحصول على معلومات من الشركات المحلية".
أكدت "ميتا" مجدداً وجهة النظر هذه حين طُلب منها التعليق على الخدمة الأوروبية الجديدة. قالت الشركة في بيان إنها "تؤمن بقيمة الخدمات المجانية المدعومة بإعلانات موجهة. لكننا نستمر في استكشاف الخيارات لنضمن أننا نمتثل للمتطلبات المتغيرة للجهات التنظيمية".
خالٍ من الإعلانات
قد يذعن زوكربيرغ لطرح نسخة غالية خالية من الإعلانات من "فيسبوك" تستخدمها قلة من الناس، إذ إنه غير مستعد للتخلي عن التتبع التفصيلي والإعلانات الموجهة التي جعلت تطبيقاته مربحة جداً. إن برمجيات "ميتا" مدمجة اليوم في أغلب المواقع الكبيرة والعديد من المواقع الصغيرة، وتتابع الشركة المستخدمين كي تكتشف المواضيع التي يهتمون بها والمنتجات التي يتصفحونها.
تمزج الشركة هذه البيانات بما تجمعه عن سلوك كل مستخدم في "فيسبوك" و"إنستغرام" لتُعد ملفات تفصيلية يستطيع المعلنون حينئذ استئجارها في الأساس لنشر إعلانات مفصّلة خصيصاً للمستخدمين المستقبليين. يمكن اختيار عدم الاشتراك في تلقي بعض هذه الإعلانات الموجهة، لكن "ميتا" لا تُسهل ذلك.
اشتكى أنصار الخصوصية من أن المستخدمين لا يستوعبون بالفعل حجم المعلومات التي يمنحون "ميتا" حق الحصول عليها حين يتعاملون مع منتجاتها. كان هذا سبباً من أسباب مطالبة الاتحاد الأوروبي لعدة شركات في 2018 بأن تستأذن المستخدمين بشأن استقبال إعلانات موجهة خصيصاً لهم.
دعوى قضائية تتهم "غوغل" بتتبع مواقع المستخدمين رغماً عنهم
لكن إضفاء الطابع الشخصي محوري في نموذج عمل "ميتا"، وهو سبب قدرتها في تقاضي أسعار إعلانات تفوق ما تتلقاه نظيراتها في أغلب المواقع. قال أليساندرو أكويستي، وهو أستاذ بجامعة كارنيغي ميلون يَدرس السياسة العامة والتواصل الاجتماعي: "القدرة على تتبع السلوكيات عبر الإنترنت هي ما تمنح شركات مثل (ميتا) نفوذاً".
يرى أكويستي أن إيجاد سياسة أكثر تحقيقاً لرغبات المستخدمين يعني تقديم شريحة متوسطة من الخدمات التي تتيح لهم اختيار عدم الاشتراك في كل التتبع والاستهداف الإعلاني دون أن يضطروا لاستبعاد الإعلانات برمتها. قال إن اختيار "ميتا" لتجاهل هذا الاحتمال "مراوغة"، مضيفاً أنها "ربما تحاول أن تعيد توضيب مشكلة تتبع المستخدمين دون موافقتهم لتبدو أنها مشكلة تتعلق بتلقي إعلانات أو عدم تلقيها".
تفاوت في المساواة
تقدم خدمات بث الفيديو عبر الإنترنت، مثل "يوتيوب" و"هولو" (Hulu)، اشتراكات دون إعلانات. كما أن هنالك خدمات تواصل اجتماعي تخلو من الإعلانات. على سبيل المثال، تعتمد منصة "ماستودون" (Mastodon) على التبرعات وعلى شبكة متطوعين على غرار موقع "ويكيبيديا"، لكنها صغيرة مقارنةً بتلك الرئيسية، كما أن مؤسسها ليس بصدد جمع ثروة تفوق 100 مليار دولار.
إحدى الحجج ضد الاشتراكات ذات الشرائح المختلفة هي أنها تتسبب في وضع يسمح لمن هو أثرى بألّا يخضع للتتبع الرقمي والإعلانات الموجهة، فيما لا يجد من هم أفقر خياراً سوى قبول ذلك. أشار زوكربيرغ نفسه إلى ذلك الأمر خلال المقابلة مع زيتراين في 2019، قائلاً إنه يرى أن فرض رسوم على المستخدمين مقابل خدمة خالية من الإعلانات ربما يكون معقولاً لكن فرض رسوم مقابل تعزيز الخصوصية "يبدو خطأً".
في المقابل، إن نجحت شبكات التواصل الاجتماعي الخالية من الإعلانات، إما لأن المستخدمين برهنوا على استعدادهم لأن يدفعوا أو لأن شركات التواصل الاجتماعي اضطرت لأن تقبل أرباحاً أدنى، يمكن الجدل بأن الإنترنت ستكون أفضل حالاً.
إن حاجة شركات التواصل الاجتماعي لأن يبقى مستخدموها يشاهدون إعلانات عبر تطبيقاتها بأكبر قدر ممكن أضرت بناشري الأخبار، الذين شهدوا انهيار معدلات تفقد مواقعهم على منصات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، كما أنها أدت إلى ظهور خوارزميات تعمل فيما يبدو على جذب المستخدمين من خلال الروابط ذات العناوين المثيرة للغضب أكثر من أي شيء آخر.
قد تدفعنا نسخة من "فيسبوك" برسم اشتراك بدرجة أقل لأن نضيع وقتاً يمكن تسخيره لما هو أجدى، ما دامت تلك النسخة فعالةً بما يكفي لنواصل دفع فاتورتها شهرياً.