بلومبرغ
تضم "مجموعة فوليون" (Voleon Group) بعض أفضل العقول في مجال علم البيانات. كان المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة صندوق التحوط هو عالِم فيزياء نووية سابق وأحد رياديي الإنترنت. يقع مقر الشركة الرئيسي في بيركلي بولاية كاليفورنيا، وهو موقع استراتيجي قرب أحد المراكز العالمية لتعلّم الآلة، حيث تملك إمكانية الوصول إلى الأحدث في مجال الذكاء الاصطناعي.
الشركة، التي تدير أصولاً قدرها نحو خمسة مليارات دولار، واحدة من مجموعة متنامية من صناديق مخصصة لإعداد آلة جني المال الأكثر براعة: تقنية الذكاء الاصطناعي القادر على تعليم نفسه كيف يغلب السوق.
في ضوء تهديد هذه التقنية بتغيير قواعد اللعبة في هوليوود وقطاع الرعاية الصحية وقطاعات أخرى عدة، وهو ما أشعل بدوره فتيل موجة صعود في سوق الأسهم بعكس التوقعات لهذا العام، قال مدير الصندوق مايكل خاريتونوف إن تحقيق طرف ما لذلك الهدف حتمي، وأضاف الخبير السابق في مختبر الأبحاث النووية "سي إي أر إن" (CERN) في جنيف: "يثبت هذا النهج أنه مثمر في مجال تلو الآخر... لعالم المال تحديات فريدة، لكن يمكن التغلب عليها بمرور الوقت".
لم يحدث ذلك حتى الآن. المفارقة في إقبال المستثمرين على الذكاء الاصطناعي هي أن التقنية واجهت لسنوات صعوبات في التمكن من نشاط الاستثمار الفعلي. يمكن للأسواق التي تتسم بدرجة كبيرة من العشوائية والتقلبات أن تقدم معطيات خاطئة للآلات، وقد تباغتها اتجاهات السوق المتقلبة. كما أن عالم المال يفتقر أحياناً إلى كميات البيانات الضخمة التي تدعم تلك التقنية في مجالات أخرى، وهو أمر مدهش.
كان مؤشر من "يوريكاهيدج" (Eurekahedge) يقيس أداء 12 صندوقاً تستخدم الذكاء الاصطناعي أدنى من مؤشر صناديق التحوط الأشمل بنحو 14 نقطة مئوية على مدى السنوات الخمس الماضية. تتفوق 45% فقط من الصناديق على المؤشرات المعيارية التي تعتمدها لتقيس أداءها، وفقاً لـ"بليكسوس إنفستمنت" (Plexus Investments)، وهي شركة لإدارة الأصول ترصد عوائد صناديق الذكاء الاصطناعي المتخصصة.
يضاهيهم بتكلفة أدنى
رغم أن ذلك قد يبدو محبطاً لأي شخص يتابع الذكاء الاصطناعي وهو يقلب مجالات أخرى رأساً على عقب، فإنه يمكن مقارنته بمتوسط أداء منتقي الأسهم من البشر. قال أندرياس فوغل، المحلل الأول في "بليكسوس": "اليوم، بات الذكاء الاصطناعي وتقنية تعلم الآلة قادرين على منافسة مديري الصناديق التقليديين". بعبارة أخرى، أنت لست مضطراً لتعيين مديري محافظ مكلِّفين في حين يستطيع جهاز كمبيوتر إعطاءك نتائج مشابهة.
قال أنصار الذكاء الاصطناعي إنهم لا يسعون للحصول على عوائد هائلة، بل مجرد زيادة بسيطة، وهو ما يمكنه توليد مليارات في شركات وول ستريت. فلنعتبره يمثل للأسواق ما يمثله أسلوب ناجح سبق اعتماده في اختيار لاعبي كرة القاعدة في الولايات المتحدة، من حيث قدراتهم في جانب أساسي من اللعبة دون سواه. قال خاريتونوف: "في عالم المال، بإمكانك أن تكون ناجحاً جداً بمجرد أن تكون أفضل مما يزيد عن نصف الآخرين بقليل".
مديرو الصناديق يخشون من إهدار فرصة الهوس بالذكاء الاصطناعي
تستند الآمال بنسبة كبيرة إلى تقنية تعلم الآلة، وهو شق من علوم الذكاء الاصطناعي يعتمد على تدريب الكمبيوتر على كميات هائلة من البيانات ليؤدي مهاماً بعينها، والذكاء الاصطناعي التوليدي-وهو القوة الكامنة وراء "تشات جي بي تي"-أحد فروع هذا المجال. يستخدم الممارسون تقنية تعلم الآلة في جميع الأغراض، بدءاً من تتبع وسائل التواصل الاجتماعي وصولاً إلى قياس معنويات المستثمرين تجاه سهم ما ورصد أنماط السوق كوسيلة لتحديد الموعد المثالي لتنفيذ معاملة ما.
غيّر هذا الأمل قناعات جيسون شو، الذي كان مستثمراً كمياً تقليدياً، أي مدير أصول يستخدم الكمبيوتر لأداء عمليات حسابية معقدة، ثم يختار أوراقاً مالية يستثمر فيها. كحال أغلب المستثمرين الكميين، كان يؤمن بعدد محدود من قواعد الاستثمار البسيطة التي طوّرها على مدى عقود أكاديميون يدرسون سلوك الأسواق وينتقون الأسهم بناءً على خصائص مثل تقييماتها أو حجمها. في 2002، شارك شو في تأسيس "ريسيرش أفيلييتس" (Research Affiliates)، التي تدير الآن أصولاً قيمتها نحو 130 مليار دولار.
بدايات "رايليانت"
بدعم من الشركة، أسس شو "ريلايانت غلوبال أدفايزرز" (Rayliant Global Advisors) في 2016، وسرعان ما بادره إلهام يخص مجال الذكاء الاصطناعي. عرض فريق شو عليه نتائج مفترضة لاستراتيجية استثمارية صممتها الآلات، والآن تدير خوارزمية اسمها "إكستريم غرادينت بوستينغ" (eXtreme Gradient Boosting) أغلب صناديق الشركة.
تعمل الشركة، التي تدير أصولاً قيمتها 17 مليار دولار، على تحليل نحو 200 إشارة باستخدام نمط من أشكال شجرة القرار للتعرف على علاقات تكون عادةً معقدة ثم تتخذ قرارات الشراء أو البيع. قال شو: "تطلب الأمر بعض الوقت لإقناع أنفسنا. ثم وصلنا أخيراً لمرحلة قلنا فيها: نحن ندرك القيمة، ونرى الفوائد".
طفرة الذكاء الاصطناعي تذكي شهوة "سيليكون فالي" لتغيير العالم
تُعتبر الأساليب التي تتبعها "ريلايانت" عتيقة تقريباً بمعايير سيليكون فالي. لكنها قفزة كبيرة لشركة إدارة أموال بدأت نشاطها في انتقاء الأسهم بناءً على ستة معايير فقط، كما أنها مثال ملائم للأسلوب الذي يعِد به الذكاء الاصطناعي بإحداث ثورة في عالم الاستثمار لن تُحدث ضجة ولن تكون درامية، بل ستأتي بسلسلة تعديلات وتقنيات وتحسينات تحمل أسماءً مبهمةً مثل "ألات المؤثرات الداعمة" و"ذاكرة قصيرة الأمد طويلة".
تنطوي كثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الاستثمار على تطوير التفكير الكمي التقليدي. لذا فيما قد يستخدم أي أسلوب عتيق خوارزمية تنصح بـ"شراء الأسهم التي تتمتع بنسبة السعر إلى القيمة الدفترية الأقل في السوق"، قد يدرك الذكاء الاصطناعي أن هذه الخطوة تنجح فقط في بعض القطاعات وحين يكون نمو الأرباح إيجابياً أيضاً.
عوائق ضخمة
هذا تبسيط مفرط جداً، وهناك عوائق ضخمة، أبرزها أن سلوك المستثمرين واتجاهات السوق قد تستمر على المنوال نفسه لأشهر أو حتى سنوات لكنها قد تتغير تماماً خلال لحظة، ما يجعل كل ما تعلمته الآلة فجأة عديم الأهمية. لذلك السبب، حين حدثت الجائحة فجأة، كانت "فوليون" من بين صناديق عدة تأثرت بما حدث. كانت "رايلايانت" قد بدأت لتوها في تطبيق استراتيجياتها الجديدة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي حين ارتفعت أسهم القيمة القديمة، التي كانت الشركة تفضلها فيما سبق، في أعقاب الجائحة. قال شو: "كان الأمر سيئاً جداً في بدايته".
التكنولوجيا تقود ارتفاع الأسهم الأميركية وسط ضجيج الذكاء الاصطناعي
عالم المال ليس لديه ما يكفي من البيانات على الدوام ليستخدم الذكاء الاصطناعي بفعالية، خصوصاً بالنسبة لشركات مثل "رايليانت"، التي تملك مدى أطول لاستثماراتها. تتتبع الاستراتيجيات الكمية التقليدية عادةً سعر سهم ما على أساس شهري أو حتى فصلي، للقضاء على تقلبات مجموعات البيانات على أساس يومي أو دقيقة بدقيقة. لكن ذلك يعني أن تلك الاستراتيجيات ستكون لديها أقل من ألفي نقطة بيانات حتى بالنسبة لأسهم الشركات القائمة منذ قرن، وهو ما سيحد من سبل تسخير الذكاء الاصطناعي.
فيما تجرب أغلب الشركات التي تعتمد على النهج الكمي تقنية تعلم الآلة، فإن "فوليون" واحدة من شركات معدودة تستخدم تقنية متطورة اسمها التعلم العميق. تحاكي هذه التقنية طريقة عمل الدماغ البشري، إذ تؤسس شبكات ذات روابط لا نهائية بإمكانها التعرف على أنماط معقدة لكنها دقيقة في مجموعات البيانات الضخمة. كانت هذه التقنية وراء اكتشاف "تشات جي بي تي" طريقة القراءة وتعلُّم "سيري" الاستماع وتعلم السيارات كيفية القيادة الذاتية.
قالت رينيه ياو، وهي إحدى المتداولين سابقاً في صندوق التحوط "ميلنيوم مانجمنت" (Millenium Management) ومؤسسة "نيو أيفي كابيتال" (Neo Ivy Capital)، وهي شركة مقرها نيويورك تستخدم تقنية التعلم العميق: "قد تكون الأسواق عشوائيةً تماماً بين الحين والآخر، ولا تنجح أي مقاربة خلال تلك الفترات، لا الذكاء الاصطناعي ولا تعلم الآلة... رغم ذلك، حين لا تكون الأمور عشوائية بالمطلق، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يعمل بشكل أفضل" من أساليب أخرى في الاستثمار.
تقنيات جديدة
كان متوسط العائد السنوي لأقدم صندوق في "فوليون" 9.5% منذ إنشائه، وفقاً لشخص مطلع على الأمر، رفض ذكر اسمه بسبب سرية المعلومات. كما قال إن "نيو أيفي"، التي تشرف على 200 مليون دولار، حققت عائداً سنوياً يبلغ نحو 7%.
عوضاً عن ترك الآلة لتتأقلم ببساطة مع ما تتعلمه، تحاول أغلب شركات إدارة الأموال التي تستخدم الذكاء الاصطناعي أن تمزج تقنيات جديدة بالنظريات القائمة. قالت شركة "إيه كيو آر كابيتال مانجمنت" (AQR Capital Management) إنها تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد لتستشف المعاني من النصوص، وتُطور استراتيجياتها المتبعة منذ فترة طويلة.
"غوغل" تتوسع بأداة الذكاء الاصطناعي التوليدي لتشمل المواقع
اعتمدت شركة "روبيكو" (Robeco) تقنية تعلم الآلة في الصناديق كلما استطاعت، وأدخلت حزمة من استراتيجيات "الجيل المقبل" إلى ما يتعذر فيه ذلك. هذا العام، أضافت "فانغارد" (Vanguard) الذكاء الاصطناعي إلى استراتيجياتها الكمية للأسهم لتجعلها أكثر تكيفاً مع الأسواق.
لم يكن تبنّي "مان غروب"، وهو أكبر صناديق التحوط المدرجة في العالم، لتقنية تعلم الآلة سلساً. عيّنت الشركة، ومقرها لندن، خبيراً يحمل درجة الدكتوراة لذلك الغرض في 2009، لكن تلك التقنية لم تجد طريقها إلى محافظ العملاء حتى 2014. منذ ذلك الحين، وسّعت "مان" نطاق استخدامها لتلك التقنية بخطى بطيئة، ويتعرف الذكاء الاصطناعي الآن على وجهات أوامر الشراء والبيع، وتحويل النصوص إلى إشارات للتداول، كيفية البرمجة وتلخيص التحليلات الاقتصادية.
أكبر العقبات
قال ستيفان زورين، المحلل الكمي الرئيسي في وحدة التداول بـ"مان"، إن تقنية تعلم الآلة بإمكانها أن تعثر على الأنماط بناءً على النماذج الاقتصادية. قال: "لكنها تستطيع أيضاً أن تجد أنماطاً أخرى متعددة قد لا تكون بديهية بالقدر ذاته... هذه ميزة لأنه واضح أن عدداً أقل من الناس ربما توصل إليها"، رغم أن مدى موثوقية النماذج الجديدة قد لا يكون واضحاً دوماً.
يلمّح ذلك إلى إحدى آخر وأكبر العقبات التي تعيق مسعى تبنّي الذكاء الاصطناعي، وهي قابلية التفسير. اتضح أن المستثمرين من البشر يفضلون بشكل عام أن يعرفوا مآل أموالهم. إذا كان أداء إحدى استراتيجيات الذكاء الاصطناعي ضعيفاً ولم يستطع مدير الصندوق تفسير السبب، وذلك لأن طريقة تفكير الآلة غير معروفة، فإن الأمر لا يسير على نحو جيد. قال خاريتونوف: "هذا طبيعي. لا أحد يطلب من (تشات جي بي تي) أن يفسر سبب استخدامه لكلمات معينة".