بلومبرغ
اشترت الشقيقتان الفلسطينيتان هيلدا وديانا فيلا في واحة صحراوية العام الماضي، بها ثلاث غرف نوم لكل منها حمام، ولها مطبخ عالي التجهيز. خلف أبوابها الزجاجية الجرارة التي تُفتح وتُغلق عن بعد، يوجد حوض سباحة خاص تحيطه أرضية من بلاط مضاد للانزلاق، ويراقب كومبيوتر مستوى حموضة مياهه ومعدّل الكلورين فيها.
تقع الفيلا التي بلغ سعرها مليون شيكل (264 ألف دولار) وراء سور خرساني، وهي واحدة من حوالي 1400 منزل عطلات مشابه في المنطقة، إلى جانب 700 فيلا أخرى على المخطط بعضها قيد التشييد.
هذه الفيلات هي جزء من المشروع العقاري "بوابة أريحا" (Jericho Gate) الذي يمتد على مساحة ثلاثة كيلومترات مربعة، ويُتوقع أن يضمّ أيضاً حديقة ألعاب مائية ومراكز تسوق ومساحات عامة فاتنة ومرافق سياحة طبية على مقربة من حمامات الطين الغنية بالمعادن.
تقاعدت هليدا أخيراً من عملها في أحد الفنادق وكذلك ديانا التي كانت تعمل لدى وكالة تابعة للأمم المتحدة، وهما غير متزوجتين، لذا فهما تعتبران منزل العطلات هذا مكاناً مناسباً لاستضافة أشقائهما وأولادهم. فهو يقع على مسافة قريبة بالسيارة من منزلهما في القدس، عبر برية الخليل مروراً بخيم البدو والوعول والجمال.
قدّمت الشقيقتان البطيخ والبسكويت المحشي بالشوكولاته للمراسل الذي زار فيلتهما، وراحتا تخبرانه كيف لم يخطر ببالهما أن أموالهما ستكفي لشراء منزل كهذا محلياً، وأنهما فكرتا بدايةً بأن تشتريا منزلاً في اليونان. قالت هيلدا: "ثمّ سمعنا عن هذا المشروع.. نعيش على بعد 25 دقيقة في السيارة من هذا المكان، وهنا لدينا حوض سباحة وجاكوزي خاصين، إنه أشبه بمنتجع سياحي".
سلام هشّ
إلا أن هذا الشعور برغد العيش يتلاشى خارج أسوار الفيلا، فمشروع "بوابة أريحا" الكائن خارج حدود المدينة، يقوم قرب مخيم للاجئين الفلسطينيين وبعض المستوطنات اليهودية وقاعدة عسكرية إسرائيلية تمثّل السلطة الأعلى في المنطقة.
تقع مدينة أريحا التاريخية على مقربة من الحدود الأردنية بجوار البحر الميت. وعلى الرغم من أن المدينة سلمت من بعض أعنف مراحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن السلام فيها هش، إذ ردّت القوات الإسرائيلية في بداية العام على إطلاق نار استهدف مطعماً يقصده يهود إسرائيليون، بأن اقتحمت مخيم اللاجئين وقتلت خمسة ناشطين فلسطينيين. وفي يوليو، حصل إطلاق نار على طريق مجاور، فأغلق الجنود الإسرائيليون مداخل أريحا ومخارجها لملاحقة المسلّح.
قال عمدة أريحا عبد الكريم سدر إنه يواجه صعوبات في أداء عمله بسبب تهديدات الجيش الإسرائيلي بإغلاق المدينة في أي وقت، مشيراً إلى أن مدينته أُغلقت مدة 12 يوماً بعد إطلاق النار في مطلع العام.
إلا أن تغير الأوضاع الاقتصادية في المنطقة فرض عليه التعامل مع عدد من المسائل أُضيفت إلى التعقيدات المعتادة المتعلقة بالاحتلال، ومنها تحديات جديدة نجمت عن الطفرة العقارية التي ما كان أحد ليتوقعها. إن مشروع "بوابة أريحا"، وهو أول مشروع عقاري مخصص لمنازل العطلات في الأراضي الفلسطينية، جزء من نهضة محلية أوسع. لقد شهدت المدينة التي يقطنها 20 ألفاً بناء 7 آلاف وحدة سكنية خلال العقد الماضي، منها 1200 وحدة في العام الماضي وحده، وزاد فجأة الإقبال على الأراضي التي كانت رخيصةً قبل ذلك.
في العام الماضي، قصد 2.2 مليون زائر أجنبي مدينة أريحا، وبفضل مشروع "بوابة أريحا" وبعض المشاريع المجاورة الأصغر منه، فإن المدينة باتت تنافس بيت لحم كأكبر وجهة سياحية في مناطق السلطة الفلسطينية. بالفعل، بدأ السياح يستأجرون هذه الفيلات بغرض زيارة البحر الميت خلال عطلات نهاية الأسبوع. كما رممت الحكومة اليابانية حديثاً موقع قصر هشام العائد للقرن الثامن، وساعدت على عرض مجموعة من الفسيفساء المذهلة وحمايتها.
مشاعر متناقضة
فيما قدّم أحد مساعدي سدر تمر المجهول والشاي بالنعناع، تحدّث العمدة عن التغيرات التي طرأت على عمله، وقال: "مع إنشاء كل أحواض السباحة الجديدة هذه، بتنا بحاجة إلى قوانين جديدة للتنظيم المناطقي وفرض ضرائب جديدة على استهلاك المياه... أريحا تزدهر، فبرغم نقاط التفتيش والتحارب بين الفينة والأخرى، يمكن للناس أن يكسبوا المال هنا".
ينتمي الفلسطينيون الذين يقودون انتعاش أريحا إلى ثلاث مجموعات ذات أوضاع متباينة قانونياً، فبعضهم من سكان الضفة الغربية، وبعضهم الآخر من سكان القدس، والبقية من سكان حدود 1948 الذين يعرفون أيضاً بعرب إسرائيل. وبما أن أبناء الفئة الأخيرة يحملون الجنسية الإسرائيلية، فهم، كما اليهود الإسرائيليون، ممنوعون من حيث المبدأ من زيارة مدن الضفة الغربية بأمر السلطات العسكرية. إلا أن الجيش الإسرائيلي يغض الطرف في العادة عن تطبيق هذه السياسة على العرب، وليس هناك ما يؤشر إلى أنه يعتزم تطبيقها عليهم. لكن نظرياً يمكن لسلطة الاحتلال أن تغير سياستها في أي لحظة، ما قد يحرم عرب إسرائيل من بلوغ عقاراتهم.
لقد طلبت هيلدا وديانا عدم ذكر اسم عائلتهما بما أنهما قدمتا طلباً للحصول على جوازات سفر إسرائيلية، وتخشيان أن تتأثر حظوظهما بالحصول عليها إذا ما اكتشفت السلطات أنهما تملكان عقاراً في الضفة الغربية.
تعدّ الحكومة الإسرائيلية الحالية الأكثر راديكاليةً في تاريخ دولة إسرائيل، ما يفاقم التوقعات بأن تسوء أوضاع الفلسطينيين، قبل أن تتحسّن. ولطالما اعترت طبقة رجال الأعمال الفلسطينيين في الضفة الغربية مشاعر متناقضة حيال بناء مؤسسات جديدة ومناطق حضرية، إذ ما يزال الحلّ السياسي لقضيتهم بعيد المنال. فهم يتخوفون من تقبّل الوضع الراهن عن غير قصد، ما يقودهم نحو مستقبل يؤدي فيه ما يمكن الاصطلاح على تسميته بالسلام الاقتصادي إلى تخفيف الضغوط على إسرائيل لتقديم تنازلات سياسية لصالح الفلسطينيين.
يقف سمير حليلة، المسؤول السابق في السلطة الفلسطينية ورئيس مجلس الإدارة الحالي لبورصة فلسطين خلف مشروع "بوابة أريحا"، بصفته المطوّر العقاري الرئيسي. وقد أمضى معظم حياته يحاول الموازنة ما بين هاتين الأولويتين المتزاحمتين، ويرى أن البدء بالبناء اليوم، أفضل من الانتظار حتى يحلّ السلام. وقال "لن نستفيد شيئاً إن نحن في نهاية النزاع رفعنا علماً فوق مكب نفايات".
مزرعة العائلة
روى حليلة، الرجل الستيني أنيق الملبس ذو الشعر الأسود الداكن، في عدد من المقابلات قصة حياته التي تواكب التاريخ المؤلم لوطنه. فقد بدأ حياته لاجئاً في الخارج، وقد عاش تحت السلطة الأردنية والاحتلال الإسرائيلي، ثم اقتحم عالم السياسة حين بدا أن اتفاقية سلام حقيقية تلوح في الأفق، ليعود ويتخلى عن السياسة لينخرط في مجال الأعمال.
قبل نحو عقد من مولد حليلة، فرّت عائلته من منزلها في قرية يازور قرب يافا إبان الحرب التي أدت إلى تأسيس دولة إسرائيل. سيطرت الدولة اليهودية الجديدة على المنطقة، واليوم تقوم بلدة تحمل اسم أزور مكان قرية يازور الفلسطينية، أمّا الفلسطينيون الذين فرّوا من الحرب على أمل العودة واسترجاع ممتلكاتهم فقد اصطدموا بأبواب مغلقة، وانتهى المطاف بذوي حليلة في الكويت حيث ولد في عام 1957. بعد سنة على ولادته، قرر والده عثمان، المحاسب الطموح الشغوف بالزراعة أن ينتقل مع عائلته إلى الضفة الغربية التي كانت الأردن تديرها آنذاك.
كانت أريحا تزخر ببيارات البرتقال ومزارع الألبان التي ذكّرت عثمان بقريته يازور. وفي حين كان جيران العائلة وأقاربهم يعيشون في مخيمات للاجئين، قرر عثمان شراء أرض وزراعتها، وقد أثار ذلك حفيظة أقاربه الذين حاولوا إقناعه بأن الاستقرار أشبه بقبول الاحتلال، وحثّوه على الإقامة في مخيمات اللاجئين كدلالة على الرفض والمقاومة. فما كان من والد حليلة إلا أن مزّق بطاقة الإعانة التي تصدرها الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، واشترى مزرعة، فقاطعه أقاربه.
كانت المزرعة تزدهر حين اندلعت الحرب مجدداً في يونيو 1967، وازدادت مساحة الأراضي تحت السيطرة الإسرائيلية أربعة أضعاف، لتصبح مزرعة حليلة ضمن الأراضي الخاضعة لإسرائيل. يتذكر حليلة كيف كانت أمه وجدته تتجادلان بحدّة حول البقاء أو الهرب مجدداً، حتى أن صراخهما كان يعلو على أصوات الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تقصف الجسور والوديان.
انتقلت العائلة إلى الكويت لفترة وجيزة، ثمّ عادت إلى أريحا لتسترجع المزرعة، برغم أنهم فقدوا الدواجن واحترقت بعض المنشآت وباتت المزرعة تحت الاحتلال الإسرائيلي. شارك حليلة حين كان طالباً ثانوياً في السبعينيات في مظاهرات مناهضة لإسرائيل، وأودى به نشاطه السياسي للاعتقال ستّ مرات، كلّ مرّة لحوالي شهرين. مع ذلك، نجح بتفوّق وانتقل إلى القاهرة لدراسة الطبّ، ولكن تم ترحيله بعد فترة قصيرة على خلفية مشاركته في احتجاجات مناهضة لاتفاقية كامب ديفيد للسلام بين إسرائيل ومصر التي لم تحصّل امتيازات للاجئين.
من السياسة إلى الأعمال
قضى حليلة السنوات التالية متنقلاً بين العراق وسوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية، محاولاً أن يواصل دراسة الطب على الرغم من انخراطه السياسي الذي غالباً ما كان يشتت انتباهه. في نهاية المطاف، تخلّى عن الطبّ ودرس الاقتصاد، ثمّ قبل منصباً في وزارة الاقتصاد التابعة للسلطة الفلسطينية. إلا أن تلك التجربة خيبت أمله في قدرة السياسة على حلّ المشاكل الأساسية التي يواجهها الفلسطينيون، فاستقال في 1997. قال: "أدركت أنني لا أستطيع النجاح في الحرب على الفساد".
اتجه حليلة بعدها نحو القطاع الخاص، حيث أدار شركة تشغيل محاجر لاستخراج الرخام وحجر القدس، ثمّ افتتح معملاً لزيت الزيتون، قبل أن يتولّى منصب الرئيس التنفيذي لشركة فلسطين للتنمية والاستثمار (باديكو القابضة) عام 2008، وهي شركة قابضة خاصة تأسست عام 1993 بناء على طلب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات حين كان في منفاه التونسي. فقد جمع عرفات في حينها 15 رجل أعمال وأبلغهم أنه سيتم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في غضون خمس سنوات، ويتعيّن إنشاء شركة قابضة لتولّي مشاريع تطوير البنى التحتية الكبرى.
بعد بضع سنوات من تولي حليلة إدارة "باديكو"، بدأ العمل من خلال الشركة على إطلاق مشروع "بوابة أريحا". أريحا لها جاذبيتها الخاصة، فهي المدينة التي تعايشت فيها المعابد والكنائس والمساجد جنباً إلى جنب منذ قديم الأزمان، وتحت ترابها آثار لأكثر من 20 حضارة مرّت على المنطقة تعود حتى عام 10 آلاف قبل الميلاد، من الكنعانيين حتى الحشمونيين والبيزنطيين، ومن العثمانيين حتى البريطانيين والأردنيين والفلسطينيين. يُشتق اسم المدينة من كلمة عبرية تعني "القمر" وكلمات كنعانية قديمة تشير إلى "الرائحة" و"القمر"، وكانت في القدم إحدى أوائل مراكز عبادة ما يسمى إله القمر. تقع المدينة على نحو 275 متراً تحت مستوى سطح البحر، ما يجعلها أخفض مدينة في العالم.
شكّك مجلس إدارة "باديكو" بالمشروع، فالمؤسسة عادة ما تستثمر في التأمين وشركات الطاقة والفنادق الفخمة والمناطق الصناعية. حتى أن الأرض التي اختار حليلة البناء عليها كانت يملكها جماعياً أكثر من 24 فرداً من عائلة الحسيني الأرستقراطية الفلسطينية التي ينتشر أبناؤها في أوروبا وأميركا الشمالية والقدس والأردن، وقد استغرق شراء الأرض لقاء 42 مليون دولار أكثر من عام من التفاوض.
عرب إسرائيل
غالباً ما كانت ممارسة الأعمال في الضفة الغربية مهمة مستحيلة بالنسبة للفلسطينيين في ظلّ القيود العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب ممارسات السلطة الفلسطينية التي كثيراً ما تفتقر للاحترافية ويشوبها الفساد، ما يزيد الأمور تعقيداً. تفاوض حليلة لأشهر مع السلطة الفلسطينية من أجل بناء المشروع في أريحا، ثمّ تفاوض لسنة ونصف أخرى مع إسرائيل من أجل معالجة بعض المسائل مثل نقل مواد البناء واستخدام المياه.
كما تخوّف سكان أريحا من قدوم غرباء أثرياء قد يمارسون سلوكيات تنتهك التقاليد المحلية. ونظراً لأن بعض الشراة على الأقل سيكونون من المسيحيين، نشأت مخاوف حول حصول توترات مع السلطات الدينية المحلية. وقد عمل حليلة على معالجة هذه الحساسيات كما تبرّع بأموال لصالح منظمات محلية.
غادر حليلة "باديكو" في 2017، لكنه استمرّ بالعمل على المشروع بنفسه. واليوم تملك شركة "أركان" العقارية، وهي شركة مدرجة في البورصة تأسست عام 2022 يرأس حليلة مجلس إدارتها، ثلاثة أرياع مشروع "بوابة أريحا" فيما تملك "باديكو" الباقي. وقد باعت الشركتان قطعاً أرضية إلى 62 شركة تطوير عقاري وبناء فلسطينية تتولى بناء الفيلات وتشغيلها، فيما تتولّى "أركان" و"باديكو" مسؤولية البنية التحتية بشكل عام وتطوير المرافق التجارية والترفيهية التابعة للمشروع، بحسب حليلة.
استقى حليلة الدروس من نموذج مدينة الروابي التي انطلق بناؤها في 2010 كأول مدينة جديدة بُنيت في الصفة الغربية بعد بدء حكم إسرائيل عام 1967. فقد سلّطت عملية تشييدها الضوء على تعقيدات بناء مدينة فلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. وكان مطوّر المشروع بشار مصري حصل على تمويل من قطر، ثم عمل لسنوات للحصول على الموافقات وتعاون السلطات العسكرية الإسرائيلية التي تخوفت من المسائل الأمنية وتأثير المشروع على المستوطنات. اليوم، باتت مدينة الروابي تضمّ عدداً من المباني المكتبية الأنيقة، ومركزاً تجارياً فخماً وشققاً سكنية لحوالي 4 آلاف شخص، ولكن ما تزال بعض الوحدات شاغرة، ولا تعطي المدينة انطباعاً بأنها تنبض بالحياة بالكامل.
سلّطت الروابي الضوء أيضاً على أهمية عرب إسرائيل، أي المليونيّ فلسطيني الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية كسوق لأي مشروع تطوير عقاري في الضفة الغربية. فقد انضموا خلال السنوات القليلة الماضية إلى الطبقة الوسطى بوتيرة لم يتوقعها إلا قلّة من الاقتصاديين، كما أن كثيراً منهم يعبرون نحو الأراضي المحتلة لقضاء عطلات نهاية الأسبوع مع أصدقائهم وأفراد عائلاتهم، فيما يستفيدون من فرص التسوّق لشراء الحاجيات بأسعار أرخص. حتى أن آلافاً منهم التحقوا بجامعات في الضفة الغربية، نظراً لمحدودية المقاعد في الجامعات الإسرائيلية، وللتكلفة الأقل ومعايير القبول الأسهل وكذلك قربها من منازلهم.
تعليقاً على ذلك، قال سام بحور، وهو رجل أعمال من رام الله: "البيئة الثقافية في إسرائيل غالباً ما تشوبها توترات بالنسبة للعرب، لذا يكون شراء عقارات في الضفة الغربية أو الدراسة فيها، بمثابة بوليصة تأمين لهم، ويتيح ذلك لأولادهم الاعتياد على بيئة عربية".
غض الطرف
إن توسع أريحا هو في الواقع ثمرة طفرة اقتصادية إسرائيلية لم تقتصر منافعها على المواطنين اليهود. ففي وقت اتفاقيات أوسلو للسلام عام 1993، كان الناتج الإجمالي الفلسطيني للفرد 1200 دولار، وقد ارتفع اليوم إلى أربعة أضعاف ذلك مع احتساب التضخم.
حظرت إسرائيل دخول الفلسطينيين القادمين مما يعرف باسم المناطق المحتلة إلى حدّ كبير خلال الانتفاضة الثانية بين عاميّ 2000 و2005، واستبدلت العمال الفلسطينيين في اقتصادها بعمّال من أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. إلا أنها قلبت هذا التوجّه بعد أن أدرك صنّاع السياسات الإسرائيليين أن العمّال الأجانب تحوّلوا إلى مقيمين دائمين. واليوم، يعمل أكثر من 200 ألف فلسطيني في إسرائيل، ويتقاضون أجوراً أعلى بأربعة إلى عشرة أضعاف ما يتقاضونه في مناطقهم.
بيّن وزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي أن 2524 شركة جديدة تأسست في الضفة الغربية في 2022، برؤوس أموال مجملها نحو 700 مليون دولار. يقول المسؤولون إن المشاريع العقارية في الضفة الغربية تستقطب عرب إسرائيل لأسباب إضافية، منها تجنب دفع الضرائب وغيرها من القوانين الإسرائيلية.
بعد عقود من العلاقات المشحونة مع حكومة إسرائيل، لا يشعر المواطنون العرب بالثقة الكافية بالمؤسسات الإسرائيلية، وهذا من الأسباب التي دفعتهم لإجراء معظم تعاملاتهم نقداً. قال عبدالله سباط، الرئيس التنفيذي الحالي لـ"باديكو" إن "كثيراً من عرب إسرائيل يتجنبون دفع الضرائب ويجلبون أموالهم إلى هنا لشراء العقارات".
في المقابل، تتشدد السلطات المالية الإسرائيلية في التعاطي مع التعاملات النقدية حيث ترى أنها على صلة بالتهرب الضريبي وغسيل الأموال. واليوم أصبح الدفع نقداً مقابل أي شيء يكلّف أكثر من بضعة آلاف من الدولارات يشكل مخالفة للقانون في إسرائيل. مع ذلك، يغض المسؤولون الإسرائيليون الطرف عن شراء العقارات في الضفة الغربية، كما يفعلون مع عبور عرب إسرائيل إلى أراضي السلطة على الرغم من اللافتات الضخمة باللون الأحمر على نقاط التفتيش التي تحظر عبورهم.
ويقرّ المسؤولون بعيداً عن الإعلام بأن سبب ذلك هو أنهم يعتبرون انتقال أموال عرب إسرائيل نحو الضفة الغربية عاملاً معززاً للاستقرار. إذ أن الفلسطينيين أفقر وأكثر تديناً من عرب إسرائيل، وتراهن إسرائيل على أن تضييق الفجوة الاقتصادية سيساعد تدريجياً على إبعاد الفلسطينيين عن الثورية.
قال مسؤول كبير في القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، طلب عدم كشف اسمه، وفقاً لما درج عليه الجيش الإسرائيلي من منع عناصره الميدانيين من التحدث إلى الإعلام: "أي أمر يساعد على تدعيم اقتصاد الضفة الغربية هو جيد لنا".
تعزيز الروابط
في المقابل، يرى بعض الفلسطينيين أن تعزيز الروابط بين عرب إسرائيل والضفة الغربية سيؤدي إلى نتائج معاكسة لما تأمله إسرائيل، بالأخص مع ازدياد عدد الشباب الذين يدرسون في الضفة. قال عدلي صالح، نائب رئيس الجامعة العربية-الأميركية في جنين في شمال الضفة الغربية: "بعض جنرالات إسرائيل يعتقدون أن السماح للطلاب بالمجيء للدراسة هنا سيؤدي إلى سلام اقتصادي، نظراً للفكرة السائدة بأن الجياع قد يسببون المشاكل.. لكنهم بدأوا يلاحظون نمواً في المشاعر القومية لدى الطلاب الذين يأتون إلى هنا".
ترى دينا غيث، وهي طالبة ترجمة إنجليزية تبلغ 21 عاماً من جنين، في زملائها الجدد حلفاء سياسيين طبيعيين. قالت: "يجلبون نظرة مستقبلية غربية كتلك التي ترتبط بأبناء المدن الكبرى، هم أكثر انفتاحاً.. ومنّا يتعلّمون المقاومة".
لم يتضح بعد ما إذا كانت ستنشأ آلية مشابهة بين الميسورين نسبياً الذين يشترون عقارات في مشروع "بوابة أريحا". فثقافة عرب إسرائيل اختلفت عن ثقافة فلسطينيي الضفة خلال العقود الماضية، ويصعب التنبؤ بتبعات التداخل المتزايد بينهم.
يقيم حليلة في رام الله، وكثيراً ما يتنقل بين الضفة الغربية وإسرائيل، ومع الزمن أصبح أميل للفلسفة والتبصر، حتى أنه بدأ يمارس رياضة التأمل والمشي في الطبيعة والطهي. مع ذلك، ما تزال المشاريع الكبيرة تستهويه، وهو يخطط حالياً لمشروع جديد في الجبال بين رام الله ونابلس يتضمّن وحدات سكنية بأسعار مدروسة للسكان الأكثر فقراً. غير أن مشاريعه العقارية دفعته أيضاً لإعادة تقييم رؤيته السياسية.
قال: "أدركت أننا عجزنا عن بناء دولة من خلال المفاوضات ومن خلال القتال أيضاً. في البداية، ارتأيت أن علينا التوقف عن البناء، كيف نشجع الناس على بناء الزجاج، وهم يعيشون في خطر الانفجارات؟ ثمّ أدركت أن المسألة تتعلق بكيفية الصمود وكيفية الحفاظ على ما نملك.. يجب أن تتعلم كيف تبقى على قيد الحياة وتحقق الربح".
عودة إلى فلسطين
برغم بعض التوجهات المشجعة في السنوات الماضية، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني ما يزال يرزح تحت الضغوط. فقد أصدر صندوق النقد الدولي في أغسطس تقريراً قاتماً ركز على القطاع العام الفلسطيني الذي يعاني من الإفراط في عدد موظفيه، مرجحاً أن يتباطأ دخل الأفراد. وقد حثّ التقرير السلطة الفلسطينية على خفض الأجور، وطالب إسرائيل بالتوقف عن احتجاز العوائد الضريبية الفلسطينية حيث تقوم بذلك بغرض الضغط سياسي.
على الرغم من ذلك، فإن نهج حليلة صبّ لمصلحة أشخاص مثل هليدا وديانا اللتين أصبحتا اليوم أكثر ثراء على الورق مما كانتا عليه حين اشترتا الفيلا. خلال زيارة المراسل، تلقيتا اتصالاً من وكيلهما العقاري طلب إذنهما ليُري فيلتهما لأحد الزبائن الراغبين بشراء وحدة أخرى. وما هي إلا دقائق حتى دخل غابي إده، وهو مهندس وأستاذ علوم كمبيوتر فلسطيني ثمانيني سافر للدراسة في الولايات المتحدة في الستينيات، ثمّ عاش فيها بين ميشيغان وألاباما. قال إده الذي كان يرتدي قميصاً وسروال جينز فيما عاين الفيلا بإعجاب، إنه يرغب بأن يتقاعد في مسقط رأسه بعد أن ترمل حديثاً.
الوحدة المعروضة للبيع مشابهة لفيلة الشقيقتين، وبالفعل قدّم إده عرضاً لشرائها رغم أن سعرها أعلى بـ50% ممّا دفعته ديانا وهيلدا. قال إده: "لطالما كنت أخطط للعيش في فلسطين ولكنني لم أتمكّن من ذلك. رغبت في أن أعيش هنا مع زوجتي، لكنها رحلت عن هذه الدنيا، أخيراً سأعود".